Business

أهداف تربية "الفرد المسلم" عند ماجد الكيلاني

إعداد: م أحمد شوشة

تبدأ أهداف التربية الإسلامية بإخراج "الفرد المسلم"، والفرد المسلم هو الإنسان الذي يقوم "بالعمل الصالح" ويتقنه، لأن العمل الصالح المتقن هو علة الخلق ومادة الابتلاء والاختبار في الدنيا ومقياس النجاة في الآخرة "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ"(الملك: 2).

ويتناول د ماجد عرسان الكيلاني في كتابه " أهداف التربية الإسلامية..دراسة مقارنة بين أهداف التربية الإسلامية، والأهداف التربوية المعاصرة" أهداف التربية الإسلامية لتكوين الفرد المسلم أو الإنسان الصالح ومقارنتها مع الأهداف التربوية في النظريات الحديثة.

 

معني " العمل الصالح" في التربية الإسلامية

تعريف ومجالات ومظاهر " العمل الصالح":

العمل الصالح: هو الترجمة العملية والتطبيق الأكمل للعلاقات التي حددتها فلسفة التربية الإسلامية بين الإنسان والخالق والكون والحياة والآخرة، ويقدم القرآن نماذج وأمثلة للعمل الصالح نذكر منها:

العمل السياسي: "وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" (الأعراف:129) ، العمل الزراعي: "لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ" (يس:35) ،العمل المهني: "أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ"(الكهف:79)، العمل الصناعي: "أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"(سبأ:11)، العمل الوظيفي: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا "(التوبة:60) ، العمل التربوي والفكري: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (فصلت:33) ، العمل الاقتصادي :" الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)"(البقرة ).

وإجمالا، فللعمل الصالح ثلاثة مظاهر: عمل ديني صالح، وعمل اجتماعي صالح، وعمل كوني صالح؛ وفي جميع أشكال العمل لابد من اقتران العمل بالإيمان بالله سبحانه وتعالى اقتران الوسيلة بالهدف.

 

أقسام "العمل الصالح":

والعمل الصالح ينقسم إلى قسمين؛ عمل لجلب النفع، وعمل لدفع الضر؛ والذي يمارس العملين يسمي "الصالح –المصلح"، والفرد "الصالح –المصلح" هو نموذج الإنسان الذي تسعي التربية الإسلامية إلى إخراجه. والخراب ينزل بالأمم التي تضم أفرادا صالحين غير مصلحين.

 

صفات ومبادئ "العمل الصالح":

ومن صفات العمل الصالح أن يكون أخلاقيا وناجحا. وتعريف: "العمل الصالح" بهذا الشكل يقودنا إلى مبدأين اثنين يتصلان بالعمل:

الأول: مبدأ النفعية، أي أن العمل مقصود به منفعة الإنسان العامل. نفعية أكثر اتصالا بطبيعة الإنسان وفطرته، وتلبية لحاجاته المادية والاجتماعية والنفسية، وهي لا تلحق الضرر بفرد أو جماعة. "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"(النحل:97)، "َأمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ "(الجاثية:21).

الثاني: ضرورة الإعداد والتدريب على " العمل الصالح " وتوفير بيئته ومؤسساته وأساليبه ووسائله. إذ لا يتصور أن يبرز عمل صالح بدون إعداد وتربية شاملين. لذلك ورد "العمل الصالح " في القرآن مقرونا بالعلم والإيمان والجهد المتواصل، بينما اقترن "العمل السوء" بالجهالة والكفر والترف والكسل.

 

عناصر تربية فرد "العمل الصالح":

والسؤال الذي نطرحه: كيف تعمل التربية الإسلامية على إخراج الفرد الذي يقوم بـ " العمل الصالح " بكفاءة كاملة؟

"العمل الصالح" هو ثمرة عدد معين من العمليات التربوية التي تتكامل حسب نسق معين يمكن أن نوجزه في المعادلات التالية:

العمل الصالح = القدرة التسخيرية + الإرادة العازمة.

الإرادة العازمة = القدرات العقلية الناضجة + المثل الأعلى.

القدرة التسخيرية = القدرات العقلية الناضجة + الخبرات الدينية والاجتماعية والكونية.

وجميع هذه العناصر التي تشمل عليها المعادلات المذكورة أعلاه تنمو وتنضج بالتربية والإعداد المناسبين. لذلك تركز التربية الإسلامية في تربية الفرد المسلم على تنمية المكونات المذكورة، أما تفاصيل هذه التربية فهي كما يلي في الفصول القادمة.

 

تربية وظيفة العقل "القدرات العقلية"

تتفاوت القدرات العقلية قوة وضعفا من شخص إلى آخر أو عند الشخص الواحد خلال فترات حياته. والإنسان يولد بهذه القدرات العقلية ولكنها تحتاج إلى التنمية وإلي تدريب الإنسان عليها وحسن استعمالها والمحافظة عليها، لذلك لابد للتربية الإسلامية وهي تعمل على تربية وظيفة العقل، أن تركز على ثلاثة أمور رئيسية هي:

أولا: تصنيف القدرات العقلية:

القدرات التي يشير إليها القرآن هي: قدرة العقل (القدرة علي خزن المعلومات واسترجاعها وتوظيفها عند الحاجة إليها)، قدرة التأويل (إدراك التطبيقات العملية التي تقابل التقريرات النظرية أو بالعكس)، قدرة التدبر (ربط بين المقدمات والنتائج واكتشاف الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج)، قدرة التفكير (مهارات الوصول إلى الحقيقة)، قدرة التذكر (استرجاع الخبرة ورؤية جانب الصواب فيها، النظر (الكشف عن المجهول)، الشهود (تختلف عن قدرة النظر في أن ثمراتها  صائبة صحيحة)، الإبصار (دقة الفهم والتعمق في تحليل الظاهرة وكوامنها)، الحكمة (فهم العلاقات النظرية ومهارة "عقلية-حسية" قادرة علي تحويل العلاقات المذكورة إلى تطبيقات عملية وتصويبها ورعايتها، وهي تقابل الخبرة المتخصصة). ونحن نسترشد بالإشارات القرآنية العامة كمقدمة توجه إلى الوقوف على القدرات العقلية وتنميتها والتدريب على استعمالها.

ثانيا: منهج التفكير السليم:

  • خطوات التفكير

تبدأ خطوات التفكير السليم بالإحساس بالظاهرة، ثم الانتقال إلى خطوة الوعي بهذه الظاهرة وتحديد إطارها وميدانها، ثم الانتقال إلى خطوة التعرف على التفاصيل الظاهرة من خلال تحري المعلومات المتعلقة بها وجمعها، ثم الانتقال إلى مرحلة تحليل هذه المعلومات وتدبرها وتصنيفها واكتشاف العلائق بينها، ثم الانتقال إلى خطوة اكتشاف الحكمة الكامنة وراء الظاهرة.

  • أشكال التفكير المطلوبة

    1- تدريب المتعلم على النقد الذاتي بدل التفكير التبريري

نعني بالنقد الذاتي ذلك الأسلوب من التفكير الذي يحمل صاحبه المسؤولية في جميع ما يصيبه من مشكلات ونوازل. ونعني بالتفكير التبريري ذلك التفكير الذي يفترض الكمال بصاحبه، وإذا أخطا برأه من المسؤولية وراح يبحث عن مبررات خارجية وينسب الأخطاء أو القصور والفشل إلى الآخرين. والقرآن في جميع توجيهاته يقرر النقد الذاتي قاعدًة أساسية في جميع النواقص والأخطاء الفردية أو الاجتماعية: "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ"(الشوري:30)، " فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى"(النجم:32).

الواقع أن التحليل الدقيق للأخطاء التي تقع أو المصائب التي تنزل توضح أن هذه الأخطاء والمصائب هي مسؤولية من تنزل به ، لأن المصيبة هي وليد يولد من تزاوج قوة مع ضعف، ولذلك يحاسب الله الضعفاء والمستضعفين كما يحاسب الأقوياء المعتدين ويعتبر كلا منهما ظالما؛ "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"(النساء:97)، وفي المقابل يمدح الله الأقوياء الذين إذا نزل بهم العدوان والبغي قابلوه بالقوة ودفعوه : "وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ"(الشوري:39).

وبالإجمال فإن النقد الذاتي يتخذ في القرآن الكريم والسنة الشريفة شكل المبادئ الثابتة والموازين الدائمة التي توجه الإنسان لأن يتحرى دوره هو نفسه في كل ما يصيبه في أي زمان أو مكان، ولا يبحث عن مبررات من خارجه.

         2- تدريب المتعلم على التفكير الشامل بدل التفكير الجزئي

المقصود بالتفكير الشامل هو ذلك الأسلوب من التفكير الذي يتناول الظاهرة من جميع جوانبها ويتحرى جميع أجزائها وما يتعلق بها. أما التفكير الجزئي فهو يركز على جزء من الظاهرة ثم يعمم أحكامه على بقية الأجزاء.

فالقرآن الكريم يربط مستوى العلم بمستوى التفكير فيسمي: "ظاهر العلم، والإحاطة بالعلم، والرسوخ في العلم" وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ"(آل عمران:7). وسواء كان موضوع الفهم والتفكير هو الدين أم غير الدين فإن التفكير الجزئي يؤدي إلى تعدد وجهات النظر وتباعدها وتنافرها، وينتهي إلى تفتيت الجهود والفشل في الوصول إلى الحقيقة أو الثمرات المنشودة.

        3- تدريب المتعلم على التفكير التجديدي بدل التفكير التقليدي

والتجديد الذي عناه القرآن هو التفكير الذي يتحرر من عوامل الألفة والإبائية والتقليد، وينظر في الأفكار الجديدة نظرة وفي الواقع نظرة أخري، ثم يقارن الفكر بالواقع ويتحرى الملائمة والصواب. ولذلك ربط القرآن النظر في آيات الكتاب -حيث الأفكار الجديدة - بالنظر في آيات الآفاق والأنفس -حيث الواقع والأحداث الجارية - ووجه التفكير الإنساني لاكتشاف نتائج هذا الربط التي تصدق آيات الكتاب "بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ"(الزخرف:23). ويحذر رَسُولُ اللّٰهِ صَلَّي اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكون الفرد عديم الفكرة مسلوب الإرادة" عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّٰهِ صَلَّي اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَكُنْ أَحَدُكُمْ إِمَّعَةً، يَقُولُ أَنَا مَعَ النَّاسِ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنْتُ وَإِنْ أَسَاءُوا أَسَأْتُ، وَلٰكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا أَنْ تَجْتَنِبُوا إِسَاءَتَهُمْ"، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُونُوا لِلْعِلْمِ رُعَاةً، وَلَا تَكُونُوا لَهُ رُوَاةً ".

        4- تدريب المتعلم على التفكير العلمي بدل الظن والهوى

في القرآن توجيهات متكررة للحث على التفكير العلمي والتدرب عليه، وعدم التسرع في إصدار الأحكام، والتثبت، ونهي عن الظن "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا" (الإسراء:36)، وعنْ أبي هُرَيرةَ رضي اللَّه عنْهُ أنَّ رَسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال: »إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكذَبُ الحَدِيثِ« متفقٌ عليه.

والتفكير العلمي -في التربية الإسلامية -لا يقتصر على أماكن الدرس ومختبرات البحث، وإنما هو صفة لازمة للإنسان في الحياة اليومية والعلاقات الشخصية والعامة والمواقف الودية والعدائية.

ولقد ورد في تقرير اللجنة الدولية التي كونتها منظمة التربية والثقافة والعلوم "اليونسكو" لدراسة أوضاع التربية في العالم وتقديم التوصيات بشأن تربية المستقبل: "أن الإنسان العلمي الذي يستعمل التفكير العلمي في كل مكان وفي كل موقف دون التأثر بالإفرازات العرقية أو الطائفية أو القبلية أصبح ضرورة كضرورات الحياة المادية ولوازم المعيشة اليومية".

      5- تدريب المتعلم على التفكير الجماعي بدل التفكير الفردي

التفكير الجماعي الذي يربط مصير الفرد بالجماعة ومصير الجماعة بالفرد، ويجعل تبادل الرعاية بين الطرفين صفة لازمة للمجتمع الراقي. " وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (آل عمران:159)، "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً"(الأنفال:25)، «كُلُّكُم راعٍ، وكُلُّكُمْ مسؤولٌ عنْ رعِيتِهِ»، "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى". والتفكير الجماعي يتوافق مع مفهوم "الأمة " الذي جاءت به الرسالة الإسلامية، وكذلك يتوافق مع قانون التغيير الاجتماعي "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد:11).

 

ثالثًا: كيفية نمو القدرات العقلية ومنهج التفكير السليم من خلال أمرين اثنين:

أ-توفير البيئة المناسبة لنمو هذه القدرات

الحرية الفكرية والشعورية بمظهريها الاثنين: المظهر الداخلي ويقصد به ميدان التزكية والتطهير من جميع الضغوط العقلية والنفسية، كالأفكار الخاطئة وجواذب الشهوات والغرائز وممارسات القهر والتسلط، والمظهر الخارجي المتمثل في عدم الإكراه على تقبل أية فكرة ولو كانت العقيدة الإسلامية نفسها، "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" (البقرة:156).

ب-المنهج اللازم لتنمية القدرات العقلية وأدوات هذا المنهج ووسائله

القدرات العقلية تنمو وتنضج من خلال دراسة هذا الكون وعناصره المتناثرة في الكرة الأرضية وغيرها من الكواكب، ولذلك كانت التوجيهات الإسلامية للسير في الأرض والبحث في نشأة عناصر الوجود وتطور هذه العناصر وتركيبها.

والتفاعل مع الأحداث الجارية فلابد من التفاعل في بعدين رئيسين: البعد المكاني والبعد الزماني أو الجغرافيا والتاريخ.

إن تنمية القدرات العقلية تحتاج إلى مراعاة عدد من الأمور هي:

  1. أن القدرات العقلية تولد كامنة في الإنسان، وهي تنمو وتشتد بالعناية والتربية.
  2. أنه لا نهاية للقدرات العقلية "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا"(البقرة :31).
  3. أن مجموع العمليات العقلية والتفكير هي كعملية الهضم أو الشرب أو النوم، والتمرس بتلك القدرات والمهارات العقلية حتى درجة الإحاطة بالموقف ومعالجته هو الحكمة التي تجعل صاحبها حكيما بسلوكه خبيرا بموضوعه.
  4. أن الفشل في تربية القدرات العقلية ومنهج التفكير يفرزان آثارًا خطيرة جدًا في حياة الفرد والمجتمع.

وأخيرا لابد من ملاحظة أن المنهج الذي يكشف عن القدرات العقلية ويرعى تنميتها هو منهج علمي يتخذ مختبره من ميدان الآفاق والنفس البشرية وأنماط الحياة الاجتماعية وآثار القدرات العقلية نفسها في عالم الواقع وفي ميادين الكون. وليست الاستشهادات التي سقناها من القرآن والسنة إلا إشارات توجيهية لدخول المختبر المشار إليه.

رابعا: تربية القدرات العقلية عند المؤسسات التربوية الإسلامية قديما وحديثا

في المصادر الإسلامية التاريخية إشارات إلى أن المشتغلين بالتعليم في القرون الأولي انتبهوا للقدرات العقلية واشتغلوا بتصنيفها. ولقد جمع "أحمد رزوق" مختلف التصنيفات في قاعدة عامة هذا نصها: "لكل شيء وجه، فطلب العلم في بدايته شرطه "السمع والقبول"، ثم "التصور والفهم"، ثم "التعليل والاستدلال"، ثم "العمل والنشر". وأخيرا انتهت في العصور التالية إلى حالتين: الأولي العناية بالقدرة على "الحفظ" في المؤسسات العاملة في العلوم الدينية، والثانية: إهمالها إهمالا كاملا كما هو عند الصوفية وفرق الشيعة. ومن الإنصاف أن نقول -مؤسسات التربية الحديثة -التي أقيمت على النمط الأوروبي هي كذلك تهمل القدرات العقلية ولا تنمي إلا "القدرة على الحفظ".

إن وقوف المؤسسات التربوية الإسلامية في تربية القدرات العقلية عند القدرة على الحفظ أو الاستظهار يفرز آثارا سلبية أهمها:

  1. لا يستطيع الإنسان العربي والمسلم أن يناقش أو يحلل أو يطبق ويتوصل إلى حل، وحين يستدعي الموقف قدرات عقلية تتعدى الحفظ تنفجر الانفعالات ويثور الخلاف وينفجر التعسف المخرب.
  2. أنها تؤدي إلى "العقم الإرادي" والاغتراب عن مثل الماضي والحاضر والإحساس بالنقص حيالهما.
  3. أنها تؤدي إلى "العقم العقلي" وعدم الاستفادة من الخبرات العلمية والاجتماعية والدينية.

خامسا : تقدم البحث في القدرات العقلية في التربية الحديثة

من الإنصاف أن نقول إن علم النفس الحديث الذي نشأ على أيدي الغربيين قد خطا خطوات هائلة في ميدان البحث المتعلق بالقدرات العقلية وطرق تنميتها وتصنيفها وقياسها. ولقد تمخضت هذه الاكتشافات عن نتائج مذهلة، وهي أن نسبة كبيرة من إمكانيات المخ غير مستعملة، حتى إن بعض العلماء يقدرونها علي وجه التقريب بحوالي (٩٠%).

إن المراكز المختصة في الجامعات في كل من أمريكا وروسيا قد تخطت عوامل الصراع السياسي القائم بين البلدين، وأقامت منذ سنين علاقات تعاونية لتكامل جهود الباحثين في البلدين؛ وذلك للاستفادة من الإمكانيات العقلية (90%) غير المستعملة، وبالتالي رفع درجة وسرعة التعلم، وكذلك تطوير أساليب التربية ووسائلها بما يتناسب مع الانفجار المعرفي والثورة العلمية المتسارعة.

 

تربية الفرد على تعشق المثل الأعلى

١-معني المثل الأعلى:

" نموذج الحياة التي يراد للفرد المسلم أن يحياها، وللأمة المسلمة أن تعيش طبقا لها".

يقرر القرآن الكريم أن الله وحده هو الخالق و أنه لا يمكن أن يشاركه تعالى أحد في تحديد "المثل الأعلى" في الاعتقاد والتطبيقات العملية. "وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"(الروم:27)"." لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"(النحل:60). والعلة الرئيسة في هذا التباين بين "المثل الأعلى" الإلهي وبين "المثل السوء" عند غير المؤمنين هي أن الأول يستند إلى قوانين الخلق وسنن الوجود الحق، بينما يتخبط الثاني في مجالات الوهم والباطل ويصطدم مع قوانين الخلق وحقائق الحياة: "ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ"(محمد:3).

2-أهمية المثل الأعلى ومستوياته:

يمد المثل الأعلى الفرد بالأهداف التي يعيش من أجلها ويعمل لتحقيقها، وهو -أيضًا- يمد الأمة بالرسالة التي تمنح وجودها المبرر والمكانة، وهو يعطي الحياة معناها وقيمتها ويمدها بأسباب الحركة والنمو والتقدم المستمر.

ولهذه الأهمية ينقسم المثل الأعلى إلى مستويات ثلاثة هي:

المستوى الأعلى: هدفه الارتقاء بالنوع البشري.

المستوى الأوسط: هدفه الإبقاء على النوع البشري.

المستوى الأدنى: هدفه تلبية حاجات الجسد البشري.

والمثل الأعلى الذي تطرحه التربية الإسلامية هو من المستوى الأعلى وهو الارتقاء بالنوع الإنساني حتى تصبح سماته المميزة هي الإصلاح في الأرض وعدم الإفساد واحترام حرمات الإنسان وعدم سفك الدماء، وتتسع دائرته حتى تشمل الإنسانية كلها.

 

3-التربية الإسلامية والمثل الأعلى:

الدور الذي يجب أن تقوم به التربية الإسلامية في تنشئة الفرد على تعشق المثل الأعلى وتجسيده في حياته يتكون من فصلين اثنين:

الأول: بلورة المحتوى الفكري للمثل الأعلى، ثم ترجمة هذا المحتوي في تطبيقات عملية

ويحتاج كل جيل أن يتبين "المثل الأعلى" الذي يبني مستقبله طبقا له في ضوء الأصول التي يتضمنها القرآن والسنة، وفي ضوء حاجات العصر والمرحلة ومواجهة التحديات القائمة. وفي نظم التربية غير الإسلامية يكون محرومًا من الأصول الإلهية مقتصرًا على ما تتوصل إليه القدرات العقلية خلال النظر في الخبرات البشرية.

وفي جميع هذه الحالات يؤدي اختلاف الفهم إلى إفراز نماذج مختلفة من المثل الأعلى يمكن تصنيفها كما يلي:

  • مثل أعلى حق وتطبيق حق: وهذا يعطي نتائج طيبة، ومثاله ثمرات التربية النبوية.
  • مثل أعلى باطل وتطبيق جيد: يعطي نسبة عالية من النتائج؛ مثل كما هو قائم في الصين والأقطار الأوروبية المعاصرة.
  • مثل أعلى حق وجهل بالتطبيق: يعطي نتائج أقل من السابقة مثل الأمة الإسلامية اليوم، صلابة "المثل الأعلى" ولكن دون الاستفادة منه، وهذه الحالة تطلب المراجعة والتغيير.
  • مثل أعلى باطل وتطبيق باطل: مثل قيم الدكتاتوريات المتخلفة، ولذلك تلجأ الدول الاستعمارية -بناء على توصية الخبراء- إلى تصدير نماذج باطلة من "المثل الأعلى" إلى العالم الثالث، وعن هذه النماذج الباطلة تنتج الانتماءات الطبقية والعصبية الضيقة، والحزبيات المتصارعة، والفتن الداخلية، وغير ذلك مما يناسب مصالح الدول الكبرى في الهيمنة والاستغلال.

الثاني: هو عرض المحتوى المذكور-في أولًا- وتهيئة المواقف والوسائل اللازمة لممارسة التطبيقات الممثلة له

فالمطلوب تطوير الاستراتيجيات التربوية والطرق والأساليب والمؤسسات التي تسهم في تربية الفرد على المثل الأعلى بقسميه الاعتقادي والسلوكي.

فإذا كان مستوى المثل الأعلى المطروح من النوع الأعلى الذي يرقي بالنوع الإنساني؛ فإن المعلمين والمتعلمين يتصفون بالقيم وتأكيد المثل الرفيعة والولاء لاتجاهات الإصلاح، ويتصفون بالعمل الجاد واستمرار النمو والتوسع في الدراسة ومتابعة البحث. ويتلقطون الكتب والمراجع أني وجدوها ولا تكون مقررات الدراسة إلا دليلا لولوج باب التعلم المستمر والمعرفة الراسخة.

أما على المستوى الاجتماعي فتسوده روح التكافل الاجتماعي الواسع، والاهتمام بإشاعة المثل الأعلى بين الآخرين، والاستعداد للقيام بتكاليفه، كذلك تسوده روح البحث العلمي والنظر الكوني لابتكار الأدوات والوسائل التي تهيئ لانتشار المثل الأعلى ونجاحه في واقع الحياة، ويكون انتماء الأفراد لعالم الأفكار والعقائد، ويدور حولها الولاءات، وعليها تقوم صلاتهم وتبني معاملاتهم.

 

تنمية الخبرات الدينية والاجتماعية والكونية عند الفرد

     1-معنى الخبرة وأهميتها:

تتألف من عنصرين اثنين متكاملين:

الأول: وهو العمل الذي يقوم به الإنسان.

الثاني: هو الأثر الذي يتركه العمل في نفس الإنسان.

الخبرة لها مكونات: عنصر عقلي وعنصر مادي، أي تشمل العلم والعمل

سمات الخبرة المربية:

السمة الأولي: التفكير المستمر في نهر التطور الكبير للحياة؛ بغية الوقوف على القوانين التي تحكم أحداثها، والاستفادة منها في التطبيقات والمواقف المختلفة، وكذلك الربط بين الأعمال والنتائج المترتبة عليه. فنحن نعيش في عالم مازال يخلق وتجري فيه الأحداث" كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ"(الرحمن:29)، "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (العنكبوت:20).

السمة الثانية: أنها تظل حية لها تأثير مستقبلي على الخبرات التابعة "استمرارية الخبرة" مثل خبرات الأنبياء والرسل وكذلك العلماء والمفكرين. وهناك خبرات مكبلة للتفكير وإن صنفت في قوائم التراث العلمي والاجتماعي وهي خبرات غير مربية، والتربية التقليدية (الحالية) تكرس الخبرات غير المربية لأنها تصنع من رؤوس المتعلمين مستودعًا لقصاصات الماضي ولا تسهم في تنمية خبرات جديدة لها أثرها في الواقع القائم ولها استمرارها في الخبرات التالية "وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ "(يونس:92)، "وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ"(يوسف:105).

  • الخبرات الكونية:

وهي التي مكنت الإنسان من اكتشاف قوانين الكون وتسخير خيراته وكنوزه الهائلة الكاشفة عن قدرات الله ونعمه.

فالعلاقة الجارية بين الإنسان وبين الكون هي علاقة متبادلة وفاعلة ومستمرة "قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" (يونس:101)، "أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ"(ق:6). وثمرة التفاعل: تحرير الإنسان من الخرافة، والتعرف على الوسائل الفعالة لتسخير الكون والاستفادة من خزائنه وثرواته، وتجدد المعرفة وتراكم الاكتشافات الكونية.

  • الخبرات الاجتماعية

الاجتماع البشري هو توأم الكون في مسيرة الوجود المتطورة المنظمة، والإنسان هو محور هذه المسيرة وقلبها. وعلى أساس الخبرات الاجتماعية المربية يقف على قوانين هذه المسيرة وآثارها، ويستفيد منها في النمو والنضج المادي والرشد الحضاري "هَلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)" (الإنسان)، "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ" (يوسف:109).

لذلك من مهمة التربية الإسلامية أن توجه -الإنسان المتعلم- إلي النظر في وقائع الاجتماع البشري في الماضي والحاضر والمستقبل، وإلي أن يجوب الأرض بحثا عن المواقع التي جرت فيها الوقائع الماضية فينقب في آثارها لدراستها وتحليلها واستخلاص الخبرات المربية التي تؤثر في الخبرات التي تتلوها. وأن توجه المتعلم وتدربه على تحليل وقائع الحاضر واستشراف المستقبل. وتجاهل هذه الوقائع والخبرات له نتائجه المدمرة.

إن التفاعل الصحيح مع خبرات الماضي والحاضر والمستقبل ثمرته اهتداء الإنسان إلى قوانين الاجتماع البشري والاستفادة منها في تسخير القدرات والطاقات الإنسانية لتقويم المسيرة البشرية ولبناء الحضارات التي ترقى بالنوع الإنساني وتجنبه العثرات والسقوط.

  • الخبرات الدينية:

الخبرات الدينية تحتل مكانة التوجيه والإرشاد لمسيرة الاجتماع البشري، والتفاعل الإيجابي مع هذه الخبرات يؤدي إلى رقي الإنسان ونشأة الحضارة، كما أن التفاعل السلبي يؤدي إلى انحطاط الإنسان وانهيار الحضارة.

     2-حدود الخبرة ودوائرها:

هذه الأنواع الثلاثة تضم دوائر بعضها أوسع من بعض؛ فمثلا تبدأ الخبرة الكونية بدائرة الحي ثم القرية ثم الإقليم فالقطر فالكرة الأرضية فخارج الكرة الأرضية في دوائر آفاق الكون المتتالية. والاجتماعية تبدأ بالأسرة ثم مجتمع القرية فمجتمع المدينة إلى القطر إلى الأمة إلى الأمم الأخرى، وكذلك الدينية تبدأ بتدين فردي ثم تدين الجماعة فالقطر فالأمة ثم خبرات الأديان الأخرى.

ولكل نوع كذلك بعدان؛ بعد أفقي ميدانه الحاضر، وبعد رأسي ميدانه تاريخ الخبرة ابتداء من نشأتها ومرورا بتطورها حتى حاضرها ثم داخل مستقبلها المنظور.

وكلما اتسعت دائرة الخبرة كلما استنار الفرد وأصبح محيطا بالظواهر الكونية والاجتماعية والدينية وقادرا على رؤية البدائل المختلفة، وكلما ضاقت دائرة الخبرة المربية أصبح الفرد ضيق الأفق عاجزا عن التفكير ورؤية البدائل.

     3-الخبرات الكونية والاجتماعية في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية والإسلامية المعاصرة:

حين دخلت التربية الإسلامية عصور التقليد والجمود، انتهت إلى الاقتصار على مدرس يقص وطلبة يستمعون، دون أن يصاحب ذلك شيء من الخبرات الكونية أو الاجتماعية، ومازالت هكذا حتي عصرنا الحديث، لذلك فهي خالية من التفكير العلمي الذي هو سمة الخبرات المربية النافعة ولا تسهم في تقديم مشروع أو حلول مشكلات ولا ينتج عنها تطبيقات وليس لها تأثير مستقبلي.

     4-الخبرات في التربية الحديثة المعاصرة:

إن التربية الغربية المعاصرة هي تربية غنية بالخبرات الكونية والاجتماعية، وليس أدل على ذلك من الجهود التي تبذل لتطوير نظم التعليم لإيجاد مواطن "قرية الكرة الأرضية".

والغربي مازال منذ أيام النهضة الأولي يعطي الخبرة ما تستحقه من الجهد والتكاليف التي تتمثل في الرحلات والاكتشافات الجغرافية في البر والبحر وأخيرا الاكتشافات الفضائية، ومثلها البحث في الثقافات المختلفة والآثار العمرانية والمخطوطات والمواد الأثرية.

ولكن مشكلة التربية الغربية هي ميدان -الخبرة الدينية- التي مازالت إلى حد كبير متخلفة، وتتضح آثار التخلف هذه في الأزمة الروحية التي يعاني منها الإنسان الغربي بشكل عام.

 

تربية الإرادة عند الفرد

     1-معني الإرادة ووظيفتها:

الإرادة: هي قوة الرغبة والاختيار التي توجه الإنسان نحو قصد معين.

الإرادة: هي الوظيفة الثانية من وظائف القلب. فحين يفرغ القلب من الوظيفة الأولي -أي عقل الأفكار والمواقف والظواهر التي تجسد المثل الأعلى ثم تحليلها وتقييمها- يأتي دور الوظيفة الثانية وهي تقبل هذه الأفكار والظواهر أو رفضها، أو تقبل بعضها ورفض بعضها.

 

     2-مستويات الإرادة:

- إرادة الإنسان للغذاء لبقاء الجسم.

- إرادة الإنسان للنكاح لبقاء النوع الإنساني.

-إرادة العقيدة والقيم ليرتقي الإنسان بنوعه.

والذي تهدف إليه التربية الإسلامية أن تنمو هذه المستويات الثلاثة، وأن تتخذ مواقعها حسب نسق تحتل فيه "إرادة العقيدة والقيم" منزلة التوجيه والإرشاد بينما تتوجه الإرادتان الأخريان نحو مقاصدهما في ضوء توجيهات وإرشادات العقيدة توجيها قائما على الاقتناع والقبول؛ فإرادة العقيدة والقيم هي الهدف بينما يكون دور كل من الإرادتين الأخريَيْن هو دور الوسيلة المساعدة للوصول إلى هذا الهدف.

وحين تنمو الإرادات الأساسية التي تم ذكرها وتتكامل حسب النسق الذي عرضناه، فإن عددا من الإرادات الفرعية ذات الأثر الإيجابي تتفرع عنها، ويقدم القرآن أمثلة لهذه الإرادات الفرعية منها:

إرادة الإحسان: "...إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا" (النساء:62)، إرادة الإصلاح: "...إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" (هود:88)، إرادة التيسير: "...وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ..." (القصص:27)، إرادة التواضع والصلاح: "تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" (القصص:83)، إرادة النصح: "وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ..."(هود :34)، إرادة الآخرة: "...وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ" (آل عمران:152)، ومثل هذا كثير في القرآن الكريم.

ومحور هذه الإرادات كلها الذي تتوحد فيه وتتفرع عنه هو -"إرادة الله" سبحانه وتعالى، وإرادة الله يكون ثمرتها تفجر جميع الإرادات النبيلة التي تتوجه للارتقاء بالحياة وطهرها وشيوع الحق والعدل فيه وسهولتها ويسرها: "مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"(المائدة:6)، "وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ" (الأنفال:7).

أما إذا انحسرت إرادة العقيدة والقيم، وهيمنت إرادة الطعام وإرادة النكاح فصارتا هما الهدف فإن التربية تكون خرجت عن مسارها السليم. إن التربية التي تجعل مثلها الأعلى هو الرفاهية المادية وثقافة الاستهلاك، تفرز عددا كبيرا من الإرادات الفرعية الفاسدة ذات الآثار السلبية مثل:

إرادة الدنيا: "مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا" (آل عمران:152)، "فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" (النجم:29)، إرادة الفحشاء: "قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ" (هود:79)، إرادة العدوان: "فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا" (الإسراء:103)، إرادة طمس الحق: "يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" (الصف:8)، إرادة الإفساد: "وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ" (النساء :44)، إرادة الخيانة:"وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (الأنفال:71)، إرادة النفاق: "يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا" (النساء:91)، الجبن: "إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا" (الأحزاب:13)، إرادة الكيد والمكر: "فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ" (الصافات:98)، وغيرها من الإرادات الفاسدة .

المطلوب أن يبرز "فقه تربوي" في كل زمان ومكان تكون مهمته بلورة نماذج الإرادات التي يراد من التربية والمؤسسات التربوية أن تنميها في ضوء التطور الجاري والحاجات المتجددة والتحديات القائمة. ومن الطبيعي أن يسبق ذلك بلورة نماذج مطابقة من المثل الأعلى الذي يمثل احتياجات المرحلة والمكان كذلك، وحين تنجح التربية في ذلك وتشيعه وترسخه تكون قد عملت على إيجاد ما يسمي "روح الأمة".

 

     3-نمو الإرادة ونضجها:

تنمو "الإرادة" عند الفرد حين يُعرض عليه "المثل الأعلى" الذي يجد فيه الأدلة والشواهد التي تقنعه بصحة هذا المثل الأعلى وتمثيله لتطلعاته وآماله. وتبلغ الإرادة درجة النضج حين يصبح الفرد مستعدا لبذل النفس والمال في سبيل المثل الأعلى. ويشير القرآن الكريم إلى هذه الحالة من الاستعداد في مواضيع كثيرة جدا، كذلك تدل التربية النبوية على أن رسول الله _صلي الله عليه وسلم_ كان يشترطها (الاستعداد للتضحية بالنفس والمال) ويجعلها شارة الإيمان وصدقه.

شروط نمو الإرادة ونضجها:

أولا: أن تنمو لدى الفرد القدرات العقلية وتزكو أساليب التفكير وخطواته.

ثانيا: توفير البيئة التي تسهل للفرد أن يعيش تطبيقات المثل الأعلى ويمارسها.

ثالثا: استمرار عرض المثل الأعلى على الفرد حتى الرسوخ والإحاطة بالكليات والجزئيات.

رابعا: اقتناع الفرد بحاجته إلى المثل الأعلى المعروض وبأضرار "مثل السوء" الذي يعارضه ويتنافى معه.

خامسا: تحرير الفرد من المورثات الاجتماعية والثقافية التي تخالف المثل الأعلى المعروض.

 

     4-مستوى الإرادة ومستوى المثل الأعلى:

مستوى المثل الأعلى هو الذي يقرر مستوى الإرادة الحاصل فيرفعها حتى تبلغ إرادة الارتقاء بالنوع الإنساني ويحبسها إن شاء عند مستويات إرادات الطعام والنكاح. الإرادة ترتفع بارتفاع مستوى المثل الأعلى المعروض وتهبط بهبوط مستوى المثل الأعلى المعروض.

ولذلك تحددت عمليات التربية الإرادية في التربية الإسلامية، فالفقهاء والمربون ينمون الإرادات ويرفعون مستواها بالإعداد النظري والتطبيق العملي الذي يمتد لسنين طويلة، والوعاظ والخطباء يستثيرون الإرادات الكامنة خلال دقائق فقط، ولكنهم لا يستطيعون عمل شيء في هذا الشأن إذا كانت الإرادات ضعيفة أو ميتة.

ولذلك من السياسات الاستعمارية والأنظمة السياسية الفاسدة الهيمنة على المؤسسات والنظم التربوية والإعلامية لعرض "مثل سوء" أو تشويه المثل الأعلى أو حجبه؛ بغية توليد إرادات ضعيفة أو فاسدة، بينما تترك الحرية للخطباء والوعاظ لينفخوا في إرادات ميتة أو غائبة. وهو نفس السبب الذي يجعل الدين الإسلامي هدفا لعدوات المستعمرين والمترفين والمتسلطين في كل زمان ومكان.

 

     5-فقدان الإرادة وضعفها:

كما أن الإرادة تنمو وتنضج فإنها تضعف وتموت، ويتم فقدان الإرادة الجازمة النبيلة في ثلاث حالات هي:

الأولى: عند فقدان قدرات العقل، وهي حالة مرضية ميدانها الصحة الجسدية والعلاج البدني.

الثانية: أن توجد القدرات العقلية ويوجد المثل الأعلى، ولكن تكون القدرات العقلية مكبلة بـ "مثل سوء" تسرب إليها خلال الموروثات الاجتماعية والثقافية. ولقد أطلق القرآن الكريم على هذه الحواجز أسماء "الغشاوة" و "الوقر" و "الران" وأطلق على الموروثات الاجتماعية والثقافية التي أقامت هذه الحواجز اسم "الأغلال" واسم "الآصار"، وأكثر ما تقوم هذه الحواجز في أوساط البيئات التي تحمل أكداسا وركاما تاريخيا من الفلسفات والعقائد والثقافات المختلطة والقيم والعادات والتقاليد المتباينة.

الثالثة: أن توجد القدرات العقلية ولا يوجد المثل الأعلى فيكون مثل الذي لديه حاسة الشم ولكن لا توجد الرائحة الزكية، وتكون نتيجة ذلك إخراج إنسان ضعيف الإرادة أو فاقدها فيسهل التحكم به وتسخيره دون أن تتحرك فيه إرادة التحرر أو المساواة والعدالة الاجتماعية.

 

تنمية القدرة التسخيرية

١-معنى القدرة التسخيرية:

ثمرة تفاعل القدرات العقلية مع الخبرات الكونية والنفسية.

والقدرة التسخيرية نوعان:

الأولى: قدرة تسخيريه في ميادين الكون، وهي القدرة على اكتشاف قوانين(سنن) عناصر الكون ثم تحويل هذه القوانين إلى تطبيقات وممارسات صائبة.

الثاني: قدرة تسخيريه في ميدان النفس وهي القدرة على اكتشاف قوانين السلوك وتفاعلاته في حياة الفرد أو ممارسات الجماعة عبر الرحلة البشرية على الأرض، ثم الاستفادة من هذه القوانين في تعبئة طاقات الأفراد والجماعات؛ لتحسين حياة الإنسان والرقي بالنوع البشري، وتأمين سلامته حسب المنطلقات والمبادئ التي تتفق مع قوانين الخلق وتوجهات الوحي.

لقد استطاع الإنسان من خلال اكتشاف الكون المحسوس وتسخير هذه القوانين أن يعرف كيف يتعامل مع مكونات هذا الكون وتسخيرها لتحسين حياته والارتقاء بوجوده المادي والتغلب على كثير من الأخطار والمصاعب التي تواجهه.

ولكن جهل الإنسان -أو عدم إحاطته- بقوانين النفس والسلوك مازال يضعه في موضع العاجز عن توجيه عربة السلوك الأخلاقي والاجتماعي، بل إنه في كثير من الأحيان ليقفز من هذه العربة قفزة الجاهل البدائي فيتحطم وتتناثر أشلاؤه ولا يعتبر بالنتائج التي تعقب هذا القفز.

2-درجة القدرة التسخيرية وحدود الخبرة المربية:

إن القدرة تتناسب مع سعة الخبرة؛ فمثلا تتحدد الخبرات المربية عند ابن الريف داخل حدود الريف فيكون مستقل التفكير والسلوك قادرا على اتخاذ القرار، ولكنه حين يخرج إلى المدينة تتعطل قدراته ويفقد القدرة على اتخاذ القرار المستقل.

لذلك كان واجب التربية أن تتوسع في تكوين الخبرات المربية عند المتعلمين حتى تدخلهم دائرة خبرات العصر والمستقبل المنظور، وبذلك يتكون عند الناشئة القدرات التسخيرية التي تمكنهم من تلبية حاجاتهم القائمة والمستقبلية، ومواجهة المشكلات الموجودة والمحتملة.

3-مستويات القدرة التسخيرية:

المستوى الأول (أولو ألباب محسنون): وهو القدرة على التفاعل العلمي مع الكون المحيط. وهم دائموا الاكتشافات لقوانين الموجودات وقوانين الاجتماع والنفس ثم يبلورون هذه القوانين ويثرون بها المعرفة وتطبيقاتها.

المستوى الثاني (مؤمنون متبعون): هو القدرة على فهم القوانين والسنن المكتشفة من قبل المستوى الأول ثم تحويلها إلى تطبيقات عملية تساهم في سعادة الإنسان وتنظيم حياته ورقيها.

المستوى الثالث (مسلمون مقلدون): فهو القدرة على فهم التطبيقات العلمية وكيفية عملها ثم استعمالها والإفادة منها.

4-أهمية تنمية القدرات التسخيرية:

  • لم يعد باستطاعة الإنسان العيش في طور التكنولوجيا العلمية إلا إذا احتل -على الأقل- المستوى الثالث من مستويات القدرة التسخيرية.
  • أن يصبح العلم زادًا شعبيًا يتزود به العامة والخاصة لبلوغ درجة اليقين الإيماني. "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ" (فصلت :53)، "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28)" (فاطر).
  • الرسالة الإسلامية جاءت لتطور معجزات الرسالات بما يناسب الطور الجديد الذي دخلته البشرية. إن آيات الآفاق والأنفس هي المعجزة المستمرة التي لا تتوقف لحظة واحدة عن لفت العقول والأبصار والأسماع إلى العلاقة المتبادلة المستمرة وإلي التطابق الكامل بين آيات الكتاب التي جاء بها الوحي، وآيات الآفاق والأنفس التي يكتشفها العلم كل يوم.
  • القرآن لا يوجه العقل إلى تأمل غيب لا يقع تحت أسماعنا و أبصارنا وعقولنا، ولكن الغيب الذي يوجه الإسلام إليه هو كائن موجود لم يأتنا تأويله بعد، وحين يأتي تأويله _أي بروزه إلى عالم الحس- فسوف نراه ونعايشه، وما الكهرباء والجاذبية والطاقة الذرية والطاقة الهيدروجينية وتطبيقات البث التليفزيوني والاتصالات عبر القارات والتلكس والكمبيوتر و أمثالها إلا محسوسات كانت في عالم الغيب، وسوف يتوالى انتقال المغيبات إلى عالم الحس حتي يري الإنسان كل ما وعد به الرسول صلي الله عليه وسلم، وجاءت به الرسالة: "هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ" (الأنعام :53).
  • لقد شرعت التربية الإسلامية في عصور الازدهار في تنمية القدرات التسخيرية اللازمة للنظر في آيات الكتاب أولاً، ثم النظر في آيات الآفاق والأنفس ثانيًا، وكان من ثمار ذلك إخراج تلك الثروة الفقهية والعقائدية التي قامت عليها مدارس الأصول والفقه والتربية، وكان من ثماره أيضا تلك التطبيقات التي ارتقت بالمجتمع الإسلامي إلى أن تسلم القيادة الحضارية في الأرض كلها. كذلك ارتقي الناظرون في آيات الآفاق، وكان من ثمار ذلك تلك الثروة العلمية التي كانت أساسا هاما في أسس النهضة الإنسانية كلها. وكان من ثماره أيضا تلك التطبيقات العلمية التي جعلت العالم الإسلامي آنذاك مصدر التكنولوجيا إلى غيره من الأقطار.

ولكن المسيرة لم تستمر وبدأت تتعثر منذ القرن الرابع الهجري حتى وصلت إلى أن أصبحت مؤسساتنا التربوية تخرج فردا فاقدا للقدرات التسخيرية الإبداعية أي عاجزا عن النظر في آيات الآفاق والأنفس، وعاجزا عن النظر في الكتاب والسنة نظرا اجتهاديا؛ أي عاجز عن إبراز معجزة الرسالة، بل إن خريجي تلك المؤسسات لا يتوقفون عن مهاجمة العلم القائم والحضارة القائمة كوسيلة لنصرة الإسلام. إن العلم لا يكون أبدا ضد الرسالة الإسلامية لأنه معجزتها؛ فالعلم لا يكون سببا للضلال، وإنما سبب الضلال هو نقص العلم وإدراج الظنون في قائمة العلم، لذلك بدلا من أن نهاجم العلم يجب أن نسعى إلى كشف العلم الناقص والظن المدرج تحت اسم العلم ونظهرهما على حقيقتيهما. والقيام بهذا الواجب يحتاج إلى مؤسسات تربوية تخرج علماء راسخين يحاورون الفكر العالمي بأحسن مما عنده، ويحتاج كذلك أن نعيد النظر في مفهوم العلم وتصنيف العلماء، فلا نسمح بالدخول في حرم العلم إلا لأولي الألباب من الأذكياء الموهوبين، لأنهم وحدهم القادرون على التسخير وإبراز معجزة الرسالة في ميدان العلم. قَالَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رٌؤُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" رواه البخاري.

 

ضرورة توازن الإرادة العازمة والقدرة التسخيرية في تربية الفرد

  • حين تغفل أو تجهل التربية عن تنمية القدرات التسخيرية عند المتعلمين إلى المستوى اللازم الذي تستدعيه حاجات العصر وخبراته في الوقت الذي تجد وتنجح في تنمية الإرادات العازمة النبيلة إلى درجة التضحية بالمال والنفس؛ فإن الأفراد في كل عمل يمارسونه ينتهون إلى الفشل والإحباط. وتكرار الفشل هذا له نتائج سلبية مدمرة تنعكس على اتجاهات الأفراد والجماعات سواء منها:

أولا: يؤدي إلى فقدان الثقة بالمثل الأعلى، فتضعف الإرادة العازمة النبيلة وتقصر عن مستوى التضحية بالمال والنفس، ويتراجع الفرد إلى إرادات الطعام وإرادات الحفاظ على الجسد أو النوع، ويقعد عن العمل العام ويتوقف عن المشاركة في الحياة.

الثاني: هو أن كثيرا من الأفراد والجماعات ممن نمت إراداتهم وقصرت عنها قدراتهم التسخيرية إذا واجهوا المشكلات فإنهم يعالجونها بما يشبه التهلكة والانتحار، حيث لا يعرفون لمواجهة الأزمات وحل المشكلات إلا طريقا واحدا هو طريق العنف الانتحاري بالقول والعمل، ويقترفون الحماقة ويجانبون الحكمة.

  • أما عن آثار القصور في ميادين الإرادات النبيلة العازمة، فإن الظاهرة البارزة لآثار هذا القصور هو فقدان الإنسان للسعادة، وفقدان لذة الاستمتاع بثمرات النجاح الذي توصله إليه القدرات التسخيرية، وتكرار هذه الأزمات له نتائجه السلبية المدمرة في اتجاهات الأفراد والجماعات سواء.

أولا: أدى إلى فقدان الثقة بالعلم وخيبة الآمال التي ترتبت عليه.

الثاني: ظهور ظاهرة الاغتراب التي يعاني منها الإنسان المعاصر، وشدة الحاجة إلى معرفة الذات الإنسانية وهوية الإنسان ومكانته وعلاقاته بنفسه وبالآخرين من حوله.

 

مشكلة تربية الفرد في أهداف التربية الحديثة

1 -تضييق مفهوم "العمل الصالح" وحصره بالإنتاج المادي:

إذا كانت التربية الإسلامية قد جعلت "العمل الصالح" سمة الفرد الذي تستهدف إخراجه فإنها في تفسيرها لمفهوم العمل الصالح قد انتهت إلى أن العمل الصالح يتجسد في "الفرد الصالح-المصلح" بالمفهوم الواسع. أما التربية الحديثة التي انتشرت في أرجاء الأرض بانتشار الحضارة الغربية فقد حصرت مفهوم "العمل الصالح" في الإنتاج المادي وإيجاد "الفرد المنتج -المستهلك".

 

ولا يقتصر هذا الفرق في التوجيه على الأفراد وإنما يمتد إلى المجتمع؛ ففي حين تسهم التربية الإسلامية في إفراز ما يمكن أن نسميه "ثقافة القيم" حيث تقاس الأنشطة والظواهر الاجتماعية بمقاييس القيم والمثل الأخلاقية التي جاء بها الإسلام، فإن التربية الحديثة تسهم في إفراز ما يمكن أن نسميه "ثقافة العمل والاستهلاك" وقياس الأنشطة والظواهر الاجتماعية بمقدار ما يستهلكه الفرد والجماعة، وكذلك يمتد هذا الأثر إلى العادات والتقاليد وغير ذلك من مظاهر الحياة الاجتماعية القائمة.

وأدي ذلك إلى انهيارات في توازن المجتمعات وإلى بروز طبقتين من الناس: طبقة أقلية تملك ثمار هذه المعارف والتطبيقات التكنولوجية وتتحكم بالمصائر، وطبقة تنتج هذه التطبيقات وتنال أقل من أثمان المواد التي يجري تشجيعها على استهلاكها.

وكانت المحصلة لذلك كله عودة "الصنمية" إلى وجدان الفرد المعاصر حيث انغرس في نفسه نوع من "الاقتران الشرطي" بقدرة الإنسان على رزق أخيه الإنسان أو حرمانه، وقدرته على منح الحياة أو سلبها، فأدى ذلك كله إلى عودة الرق في شكل يناسب العصر كما تشير إلى ذلك الدراسات التي أفرزتها منظمات العمل الدولية والمعاهد المتخصصة.

2-تدني مستوى "المثل الأعلى" إلى مستوى "المحافظة على الجسد البشري":

مرت مشكلة "المثل الأعلى" في التربية الحديثة بفترات مضطربة انتهت به إلى التمحور حول "إشباع رغبات الفرد" أي إلى المستوى الثالث؛ مستوى "المحافظة على الجسد البشري وإعداده للحصول على ما فيه مصلحته"، ويختلف المختصون في شرح ما تعنيه "مصلحة الفرد" اختلافا كبيرا، مثل مصالح أساسية من غذاء وكساء ورعاية صحية إلى إشباع رغباته وحواسه ومشاعره. ويعلق "جون وايت" بقوله "إن المشكلة في هذه التفسيرات كلها أنها تجرد "مصلحة الفرد" من القيم وتفرغها من الفضائل والتعقل وتبقي الفرد شبيها بالحيوان الذي يتصرف طبقا لغرائزه دون أن يكون لديه ما يوجه أعماله وعلاقاته مع الآخرين، كما يحرمه من النظرات المستقبلية".

ولقد كانت ثمار هذه الآراء المتعلقة بتربية الفرد وتحديد العلاقة بين رغباته وأخلاقه أن صارت المؤسسات التربوية الحديثة تفرز إنسانا لا يتصف بأية ضوابط أخلاقية ولا مقاييس اجتماعية. وهو -في أحسن أحواله -يكون محايدا أخلاقيا أي لا هو إلى جانب الأخلاق ولا هو ضدها، وإنما يتصرف طبقًا لما تمليه عليه رغباته ومصالحه المتلونة الموقوتة، وانطلاقًا من هذه المصالح والرغبات قد يكون في موقف مع الأخلاق وضدها في موقف آخر.

3-حصر الإرادة في مستوى الرغبات والشهوات.

4-حصر الخبرات بالكونية والاجتماعية دون الدينية والأخلاقية.

5-حصر القدرات بالعقلية والجسدية دون الأخلاقية.

 

أزمة تربية الفرد في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية والإسلامية

لا يمثل الفرد الذي تخرجه المؤسسات التربوية الإسلامية النموذج الذي استعرضنا مواصفاته التي مرت، كذلك لا يمثل الفرد الذي تخرجه المؤسسات التربوية الحديثة في الأقطار العربية والإسلامية النموذج الذي تخرجه مثيلاتها في الأقطار الأوروبية والأمريكية.

وهذا يعني أن هناك مشكلة قائمة في كلا النوعين من المؤسسات التربوية، أما مظاهر هذه المشكلة فهي كما يلي:

    أ- مظاهر الأزمة في المؤسسات التربوية الإسلامية التقليدية:   

      1-انحسار مفهوم "العمل الصالح" وحصره في ميادين العبادة والأخلاق الفردية:

ولقد ترتب على ذلك عدة نتائج:

الأولي: إن حصر "العمل الصالح" في العبادات وانحساره من ميادين القدرات التسخيرية والإنتاج واستغلال المصادر والكشف العلمي أدي إلى شيوع الجبرية والكسل وما ينتج عنهما من مضاعفات.

الثانية: إن حصر "العمل الصالح" في الأخلاق الفردية وانحساره من ميادين العلاقات الاجتماعية أدي إلى حصر المثل العليا الإسلامية في السلوك الفردي، ولا يستجيب للنظام ولا يهتم بشؤون الآخرين.

الثالثة: صارت الأهداف مثاليات غير قابلة للتطبيق.

الرابعة: تشويه المعاني والمصطلحات المتعلقة بمظاهر العمل الصالح؛ انقلب "الصبر" من الصبر على مقارعة الشر إلى الصبر على المرض والجهل والفقر والظلم والهزيمة والتخلف. وانقلب "الزهد" إلى عجز الفقراء والقاعدين عن العمل والراضين بالضعف والهوان. وانقلب "التوكل" من الثبات بعد استكمال الاستعداد والتخطيط، فصار تبريرًا للارتجالية والفوضى وعدم الإعداد. وانقلب معنى "التسليم للمشيئة الإلهية" فصار تبريرا للتراخي وعدم الإنجاز بعد أن كان تصميما على مواجهة جميع المصاعب والتحديات ما عدا مشيئة الله سبحانه وتعالى.

الخامسة: إفراز أفرادا يفتقرون إلى القدرات والمهارات التي يتطلبها العصر.

       2-غموض نموذج " المثل الأعلى":

لا تقدم المؤسسات والنظم التربوية الإسلامية التقليدية نموذج المثل الأعلى الذي يتفق مع الأصول الأولي في القرآن والسنة ويلائم حاجات الحاضر وتحدياته.

لذلك فإن نمط الشخصية التي تخرجها هذه المؤسسات هي "الشخصية المقولبة" إلا إذا تعرض لتأثيرات ثقافية أخرى خارج أطر البيئة المحلية.

 

    ب- مظاهر الأزمة في المؤسسات التربوية الحديثة:

        1-حصر مفهوم "العمل الصالح" في القدرات والمهارات المادية وترتب على ذلك عدة نتائج سلبية أهمها:

الأولي: انفلات الخرجين من الأخلاق ومعايير القيم.

الثانية: ضعف الانتماء لتاريخه وحضارته، والبحث عن "مثل أعلى" من خارج أصوله وثقافته، مما أوصله إلى "مثل السوء" من أمثال القومية والشيوعية والوطنية وغيرها.

الثالثة: صارت الوسائل التربوية دون غايات تربوية إلا ما تمليه الأهواء.

 

       2-اضطراب مفهوم " المثل الأعلى":

لا يوجد للمؤسسات التربوية الحديثة في الأقطار العربية والإسلامية مصدر محدد للمثل الأعلى. ومعنى المصدر المحدد أي ليس لها إلتزام واضح واع بالعقيدة الإسلامية ولا بمدرسة فكرية عميقة التصور للحياة المعاصرة.

لذلك يكون نمط الشخصية التي تخرجها هذه المؤسسات هي مزيج من "الشخصية البوهيمية" و "الشخصية المقولبة" التي تعاني من العجز وفقدان الهوية.

كما أفرز هذا الوضع التربوي المختلط اختلاطًا في اتجاهات الأجيال، وأفرز مضاعفات الانقسام والاضطراب الذي يميز الحياة المعاصرة في الأقطار العربية والإسلامية.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم