يزعم كثير من علماء التربية في القرن الواحد والعشرين أن علماء التربية في أوربا في القرن السابع عشر كانوا أول حماة الطفولة، وأول الداعين إلى رعايتها، والاهتمام بها، وما دروا أن القرآن قد سبقهم إلى ذلك منذ أربعة عشر قرنًا، حينما جاء نبينا محمد -صلى االله عليه وسلم- بالإسلام، فانطلق يدعو إلى تربية الأبناء ورعايتهم وتوجيههم إلى السبيل القويم، في بيئة محفوفة بالمظالم، بيئة كان الرجل يضيق فيها بأولاده ويراهم عبئًا ثقيلًا على كاهله.
بل بلغت قسوة قلوب بعضهم على الطفولة إلى درجة أنهم كانوا يئدون بناتهم وهن على قيد الحياة، فيدفنونهن بدعوى الغيرة، وخوف الفقر، ولحوق العار، ومن أقوالهم في ذلك: «دفن البنات من المكرمات»، وقد أنكر القرآن هذا الفعل الشنيع والجرم الأثيم أشد الإنكار فقال تعالى: « وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9)» (التكوير)، هكذا نجد القرآن بأوامره ووصاياه ومبادئه، قد أنصف الأطفال، وأعز مكانتهم، وأنقذ حياتهم مما وصلت إليه من سوء قبل الإسلام، وملأ قلوب الآباء والأمهات بحبهم، بل جعلهم زينة الحياة الدنيا.
وفى دراسة لها بعنوان (المنهج القرآنى فى تربية الأبناء بالحوار) -مجلة كلية الآداب/ العدد 101-، ترى الباحثة العراقية أمل كاظم زوير، أن الأساليب التربوية التي يمكن استخدامها في مواجهة التحديات المعاصرة في عصر العولمة كثيرة، منها أسلوب التربية بالقدوة، وأسلوب الحوار والمناقشة، والتربية المباشرة أو الإلقائية، وأسلوب التربية بالموعظة الحسنة، وأسلوب الثواب والعقاب.
وقد شرع القرآن الكريم للطفل من الحقوق ما يحفظ عليه حاضره، ويؤمن مستقبله، ما لم تدركه أوربا وغيرها في أي قرن من القرون، ومن أهم هذه الحقوق ما يأتي:
١ - إثبات النسب: إن إثبات النسب حق للطفل وللأب والأم، إذ أنه بهذا الإثبات يصان الولد من الضياع والتشرد، إلى جانب المحافظة على المجتمع من شيوع الفواحش وانتشار اللقطاء، كما أن إثبات النسب تترتب عليه حقوق أخرى مثل الولاية في الصغر، والإنفاق، والإرث، لذا فإن القرآن الكريم ينظم علاقات الأسرة على الأساس الطبيعي لها، ويحكم روابطها، ويجعلها صريحة لا خلط فيها ولا تشويه. أبطل عادة التبني، ورد علاقة النسب إلى أسبابها الحقيقية.. علاقات الدم، والأبوة والبُنُوّة الواقعية.
٢ - حق الرضاعة: أول حق يتقرر للطفل فور ولادته، وهو حق التغذية الأولى التي تناسب سنه، وتكون لحمه، وتنشزعظمه، ولما كان حليب الأم أصلح للطفل من غيره صحيًا ونفسيا وعقليا، أوجب القرآن على الأم إرضاع ولدها، إن لم يكن هناك مانع من مرض ونحوه، فإذا وجد مانع للرضاعة، وجب على الأب إحضار مرضعة مأجورة ترضعه.
٣- حق النفقة: أجمع الفقهاء على وجوب نفقة الرجل على أولاده الأطفال الذين لا يملكون المال، وحدد بعضهم هذه النفقة بأنها خمس نفقات، وهي: نفقة الرضاع، والحضانة، والمعيشة، والسكن الخاص بالحاضنة والخادم عند الحاجة، ويلحق بها زكاة الفطر لأنها تشمل الصغير، على الآباء النفقة، لأن الولادة لهم، فالنسب لهم، والولد تابع تبعية مطلقة لهم، وكأنه كسب كسبوه، وغنم غنموه، فحق عليهم القيام على شئونه ورعايته، والإنفاق على من خصصت نفسها وخصصتها الفطرة لخدمته ورعايته وتغذيته بلبنها.
٤ - حق التربية والتعليم: ينبغي على الوالدين أن يحسنا تربية أولادهما، وتعليمهم الدين ومكارم الأخلاق، وأنواع العلوم والمعارف الأخرى، كي يتربوا تربية راسخة، تجعل منهم قوة فعالة ثابتة في مجتمعهم، عبر التخطيط المرن الواعي، حتى نقوم بواجبنا خير قيام ونبرئ ذمتنا أمام االله تعالى.
٥ - العدل بين الأبناء: إن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث، فأمر تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث، فأمر االله تعالى بالعدل بين الأبناء وذلك يرسخ في النشأ عدم الظلم وكراهيته وحب العدل والحفاظ على شرع الله، والسبيل إلى ذلك هو أن يعدل الأب بين أبنائه، تفاديًا للتحاسد والتحاقد بينهم، فقد يحقدون أحيانًا على أبيهم نفسه، والأب مأمور بأن لا يتعاطى من الأسباب ما يثير العقوق في نفس ولده، قال رسول االله -صلى الله عليه وسلم-: «إِن اللَّه تَعالَى يحب أَن تَعدلُوا بين أَولَادكُم كَما يحب أَن تعدلُوا بين أَنْفُسكُم».
- تحديات الأسرة المسلمة فى المجتمع المعاصر:
الأسرة في المجتمع الإسلامي المعاصر تواجه كثيرًا من التحديات المعاصرة قد تؤدي إلى قصور في دورها التربوي في توجيه الطفل وتعليمه، إذ تعيش في عالم بلغت فيه سبل الاتصال ووسائل الإعلام من الكثرة والتنوع والسرعة بحيث تجد نفسها في كل يوم، بل وبكل ساعة تواجه خضمًّا من الآراء والأفكار والنظريات والفلسفات التي تتراوح بين أقصى اليسار واليمين، ولا تستطيع أن تواجه هذه التحديات إلا بأن تحدد لنفسها موقفًا من كل ما تتلقاه، ولن يمكنها أن تسمع لذلك الرأي الذي يسم، كل ما هو وارد بأنه غزو ثقافي يجب كل فرد أن يصم أذنيه عنه، فالأسرة تكاد تعايش كل هذا وذاك ولا بد أن تواجه الموقف، كي لا تفقد دورها التربوي.
إن المواجهة في عصر العولمة تتخذ شكلًا حضاريًا بالدرجة الأولى، ولا نعني بالحضارة هنا مستوى عاليًا غَالبًا في مجالات الحياة المختلفة، وإنما نقصد بها الإشارة إلى وجود منظومة متكاملة لرؤية فكرية لأسس التنظيم الاجتماعي والمنطلقات النظرية وتصور للمستقبل، كيف يكون؟ وإلى أي غاية يتجه؟ ومعالم شخصية الإنسان كما يجب أن تكون، والآليات المصاحبة لكل ذلك.
كما أن الطوفان الذي أصبح يحاصرنا من المنتجات الغربية، فضلًا عن وسائل الاتصال والإعلام المختلفة كالإنترنت والفضائيات والهواتف المحمولة، وإذا أضفنا أليه أساليب أخرى في التعامل السياسي والعلاقات الاقتصادية والتدفق الإعلامي، له أثره الذي لا يجحد في إحداث ما يمكن تسميته (بالاستلاب الثقافي) مما يجعل فئات غير قليلة من أبناء الأمة تفكر كما يفكر الغربيون وتسلك كما يسلكون، وهي بذلك تمثل صورة من صور تقليد المغلوب للغالب، تقليد اتباع وانصياع لا تقليد مشاركة وندية، محاكاة تشيع روح الانهزام القومي، وتبذر بذور الاستسلام الثقافي، وترسخ اتجاهات المسايرة، وتؤسس لموقع الذيلية الحضارية، والتبعية المؤدية إلى الانكسار.
إن مواجهة هذا الانهزام القومي والاستسلام الثقافي، سلاحها الأساسي هو التربية بمعناها الواسع الذي يجعل منها تلك العملية المتكاملة الشاملة التي نسعى عبرها إلى تنمية شخصية الإنسان، فهي تملك النظم المعرفية والأساليب التي تعين على التشخص السلوكي في واقع الحياة، والأساليب التربوية كثيرة التي يمكن استخدامها في مواجهة هذه التحديات المعاصرة، منها أسلوب التربية بالقدوة، وأسلوب الحوار والمناقشة، والتربية المباشرة أو الإلقائية، وأسلوب التربية بالموعظة الحسنة، وأسلوب الثواب والعقاب.
وبما أن أمتنا لا تعيش في فراغ حضاري وثقافي وغياب إنساني، وإنما تملك عقيدة سليمة وإمكانيات بشرية ومادية، ومنهج حياة ودستور يوافق الفطرة متمثلًا في القرآن الكريم، الذي لو عادت الأمة الانطلاق منه فسوف تُمنح المعايير الدقيقة، التي تواجه بها العولمة والانهزام الثقافي، بحيث تربح معركة المنافسة الحضارية القائمة في وقتنا الحاضر.
لذا لا بد من أن يمد المهتمون بالتربية يد البحث والتحليل إلى القرآن الكريم، ليستخرجوا منه ما يعين الأسرة المسلمة على أن تحدد موقفًا من كل ما تتلقاه.
لذا فإن المربي عندما يتجه نحو القرآن الكريم سوف يلمس فيه صورًا وأساليب رائعة في التربية والتعليم تعينه في رسم نموذجا تربويًا لتوجيه الطفل في ظل التحديات المعاصرة، وقد آثرت أسلوب الحوار والمناقشة في القرآن الكريم بالبحث والدراسة، كأحد الأساليب التربوية في توجيه الطفل وتعليمه.
الحوار في اللغة: المحاورة: مراجعة الكلام في المخاطبة، تقول: حاورته في المنطق، وأحرت له جوابًا، وما أحار بكلمة، والمحاورة: الحور، تقول: سمعت حوارهما وحويرهما، وجاء في الكشاف: يحاوره يراجعه الكلام ويجاوبه.
وأسلوب الحوار يقتضي وجود طرفين أو أكثر يدور الكلام بينهم في صورة حوار، بقصد من ورائه الحكم على أمرٍ ما إيجابًا أو سلبًا، وهي طريقة من طرق توضيح المعنى وتثبيته، وتتميز بجذب انتباه السامع أو القارئ نحو الموضوع الذي تتحدد معانيه، وتنكشف أبعاده بطريقة تقوم على السؤال والجواب، والأخذ والرد، والاعتراض والمراجعة، ولا يخفى ما في ذلك من عناصر الجذب والمتابعة والتشويق التي تساعد على إدراك الحقيقة إدراكًا واضحًا لا خفاء فيه.
أما المناقشة فهي: إحدى الأساليب التفاعلية المستخدمة في التربية، وهي تقوم على طرح موضوعٍ ما لمعالجته، والوصول إلى قرارٍ بشأنه، لذلك فهي تعتمد على تبادل الآراء وتواصلها بين الأفراد.
وقد ورد هذا الأسلوب من الخطاب في القرآن الكريم، عند حوار سيدنا إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام، وحوار نوح عليه السلام مع ابنه، وحوار لقمان الحكيم مع ابنه والحوار الذي جرى بين النبي يعقوب ويوسف عليهما السلام وسأبين هذا كالآتي:
المطلب الأول: حوار سيدنا إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام:
قال تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)» (الصافات).
نلحظ في هذه الآيات أن سيدنا إبراهيم الشيخ الكبير، المهاجر من الأرض والوطن، المقطوع من الأهل والقرابة، ها هو ذا يرزق في كبره بغلام، طالما تطلع إليه، وما يكاد يأنس به، وصباه يتفتح، ويبلغ معه السعي - أي لما مشى مع أبيه، وأصبحت له القدرة على مساعدة أبيه في العمل ويرافقه في الحياة، حتى يرى في منامه أنه يذبحه، ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية، فلا يتردد، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم، ويعرض هذا الأمر الهائل على ابنه في هدوء وفي اطمئنان عجيب «...قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ...»، فإبراهيم الأب يعرض على ابنه هذا العرض، ليناقشه فيه، ويطلب إليه أن يتروى في أمره، وأن يرى فيه رأيه، من أجل الوصول الى قرارٍ بشأنه، فهو لم يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه وينتهي، إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر، فالأمر في حسه هكذا، ربه يريد . فليكن ما يريد . وابنه ينبغي أن يعلم.
وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلامًا، لا قهرًا واضطرارًا. لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم. إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها، وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى. فكان جواب الابن في غاية الأدب والتودد مع أبيه «قَالَ: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ»، ولم يأخذ الأمر بطولة وشجاعة، ولم يأخذه اندفاعًا إلى الخطر دون مبالاة. ولم يظهر لشخصه ظلًا ولا حجمًا ولا وزنًا... إنما أرجع الفضل كله الله إن هو أعانه على ما يطلب إليه، فقال: «سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ»، في غاية الأدب مع االله عز وجل، وفي أعلى درجات الطاعة والتسليم له تبارك وتعالى.
المطلب الثاني: حوار لقمان الحكيم مع ابنه:
يقول تعالى: «وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)» (لقمان).
نلحظ في هذه الآيات أن هذا الكم من التوجيهات قد غلّفه الأب بالحنان والعاطفة الشديدين. ذلك الرجل الهادئ، الذي يعظ ابنه برفق، ويقول له قبل كل موعظة: يابني.. يابني، فالسورة تقول للآباء: صاحب أولادك واكسب مودتهم قبل أن تعظهم. كلّمهم أخي المسلم عن نفسك وتجاربك وأخطائك في الحياة، واستعمل الصداقة والحوار معهم لتنصحهم قبل استعمال الأمر والنهي بشدة... هذه السورة هي فعلًا من أروع المناهج التربوية في القرآن الكريم، إنها بحق سورة تربية الأبناء.
نفهم هدف السورة من اسمها، الذي يدل على تربية لقمان لابنه ووصيته التي جاءت بها السورة. فهي سورة تربية الأبناء، تحمل في آياتها أساليب رائعة لتربيتهم على منهج االله تعالى، تربية شاملة لكل ما يحتاجه الأبناء في دينهم ودنياهم.
هذه التربية تشمل المحاور التالية: توحيد االله تعالى، وبر الوالدين، وأهمية العبادة والإيجابية، وفهم حقيقة الحياة الدنيا، والذوق والأدب، والتخطيط للحياة.
لذلك فإن هذه السورة لا بد أن تدرس في مدارسنا، وأن يقرأها أبناؤنا ويحفظوها لينشأوا على التوجيهات التي ربى لقمان ابنه عليها. وليس هذا فحسب، بل إن الآباء يجب أن يتعلموها قبل الأبناء، ليتعرفوا من هذه المدرسة القرآنية، مدرسة لقمان، أصول التربية الإسلامية.
المطلب الثالث: حوار النبي نوح عليه السلام مع ابنه:
قال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: «وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ۖ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)» (هود).
في هذه الآيات الكريمات نلحظ أن الأب الملهوف ينادي على ابنه العاق (يا بنَي اركَب معنَا ولَا تَكُن مع الْكَافرِين) بكل رحمة ولهفة خوفًا عليه من الهلاك، من دون أن يشتمه أو يعنفه على عصيانه وكفره، ويبين له بأنه لا جبال ولا مخابئ ولا حام ولا واق من أمر االله إلا من رحم االله، وكان ذلك في خطاب هادئ ومتزن، يتسم بالموضوعية لتوجيه الابن وتعليمه.
المطلب الرابع: حوار النبي يعقوب مع ابنه يوسف عليهما السلام:
قال تعالى: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5) وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)» (يوسف)
أدرك يعقوب الأب بحسه وبصيرته أن وراء هذه الرؤيا شأنًا عظيمًا لهذا الغلام، ولهذا نصحه بألا يقص رؤياه على إخوته، خشية أن يستشعروا ما وراءها لأخيهم الصغير غير الشقيق فيجد الشيطان من هذا ثغرة في نفوسهم، فتمتلئ نفوسهم بالحقد، فيدبروا لأخيهم أمرًا يسوؤه. وقد اتجه فكر يعقوب إلى أن الرؤيا تشير إلى اختيار االله تعالى له، وإتمام نعمته عليه وعلى آل يعقوب كما أتمها من قبل على أبويه إبراهيم وإسحاق عليهما السلام، وأن االله سيعلّم يوسف ويهبه من صدق الحس ونفاذ البصيرة ما يدرك به تأويل الرؤى والأحلام، وهو إلهام من الله لذوي البصائر المدركة النافذة.
ونلحظ في هذا النص القرآني أن علاقة الأب مع ابنه الصغير، كعلاقة الصديق بصديقه، يغلب عليها الحوار والتفاهم، وخطاب الأب هو ذاك الخطاب الحاني والرقيق، والمتصف بالحكمة، فلم يقل له بأن رؤياه أضغاث أحلام، أو أنها رؤيا صبيانية، أو صدى لما يحلم به ويتخيله أثناء لعبه في اليقظة، بل استمع له ولم يستصغر عقله، وحاوره بأسلوب حكيم، فيه احترام لشخصية الطفل، وتنمية للثقة بنفسه، بأنه سيكون له شأن عظيم في المجتمع عند كبره، وهذا إكبار من الأب لابنه يوسف أعطاه شعورًا بالأهمية.
فما أشد حاجتنا اليوم إلى الحوار، الذي بدأ يتقطع حتى داخل الأسرة الواحدة مسببًا بذلك كثيرًا من المشكلات والأزمات.
١ - إن القرآن الكريم بأوامره ووصاياه ومبادئه، قد أنصف الأطفال، وأعز مكانتهم، وأنقذ حياتهم مما وصلت إليه من سوء قبل الإسلام، وملأ قلوب الآباء والأمهات بحبهم، بل جعلهم زينة الحياة الدنيا.
٢ - شرع القرآن الكريم للطفل من الحقوق ما يحفظ عليه حاضره، ويؤمن مستقبله، ما لم تدركه أوربا وغيرها في أي قرن من القرون، ومن أهم هذه الحقوق ما يأتي: إثبات النسب، حق الرضاعة، وحق النفقة، والتربية والتعليم، وحق العدل بين الأبناء .
٣ - الأسرة في المجتمع الإسلامي المعاصر تواجه كثيرًا من التحديات المعاصرة قد تؤدي إلى قصور في دورها التربوي في توجيه الطفل وتعليمه، إذ تعيش في عالم بلغت فيه سبل الاتصال ووسائل الإعلام من الكثرة والتنوع والسرعة بحيث تجد نفسها في كل يوم، بل وبكل ساعة تواجه بخضم من الآراء والأفكار والنظريات والفلسفات، وإن مواجهة هذا التحديات سلاحها الأساسي هو التربية بمعناها الواسع الذي يجعل منها تلك العملية المتكاملة الشاملة التي نسعى عبرها إلى تنمية شخصية الإنسان.
٤- تمتلك التربية النظم المعرفية والأساليب التي تعين على التشخص السلوكي في واقع الحياة، والأساليب التربوية كثيرة التي يمكن استخدامها في مواجهة هذه التحديات المعاصرة في عصر العولمة، منها أسلوب التربية بالقدوة، وأسلوب الحوار والمناقشة، والتربية المباشرة أو الإلقائية، وأسلوب التربية بالموعظة الحسنة، وأسلوب الثواب والعقاب.
٥ - إن المربي عندما يتجه القرآن الكريم سوف يلمس فيه صورًا وأساليب رائعة في التربية والتعليم تعينه في رسم أنموذجا تربويًا لتوجيه الطفل في ظل التحديات المعاصرة، منها أسلوب الحوار والمناقشة، متمثلًا في حوار كل من النبي إبراهيم مع ابنه إسماعيل، وحوار النبي نوح عليه السلام مع ابنه، ولقمان الحكيم مع ابنه، وحوار النبي يعقوب مع ابنه الصغير يوسف عليهما السلام.
٦ - يعد الحوار الهادئ المتزن، المقرون بالموضوعية والأدب والاحترام والصراحة الوسيلة المثلى لتحقيق الغايات، وتنمية الثقافة بشكل راق ومهذب.
٧ - يجب الاقتداء والتأسي بالرسل والأنبياء في علاقتنا مع أبنائنا، بحيث تكون علاقة أفقية، كعلاقة الصديق بصديقه، يغلب عليها الحوار والتفاهم، أما إذا كانت العلاقة رأسية كعلاقة الرئيس بمرؤوسيه، ويغلب عليها الأوامر والنواهي، لا شك سيكون تأثيرها الإيجابي قليل، ومن علامات نجاحنا في التربية، نجاحنا في الحوار مع أبنائنا بطريقة ترضي الأب والابن.
٨ - يجب على الآباء الامتناع عن اللجوء إلى العقاب مباشرة عند خطأ أولادهم، وليستبدلوا العقاب بحوار ونقاش طويل حول الخطأ الذي أُرتكب، وليتزودوا بالجلد والصبر وطول البال أثناء الحوار، وليعيروا انتباهًا لاسئلة أولادهم وليحاوروهم ليكسبوهم هذه المهارة عند الكبر، لحل كافة المشكلات التي تعترض طريقهم، بحيث يرث الأطفال هذه المهارة ويحملونها معهم في حياتهم، متسلحين بوسيلة عظيمة للشورى، وتبادل الأفكار والتزود بالمعلومات، وحل المشكلات.
.