دراسة حصرية: البغاء ودور الإخوان المسلمين في التصدي له

  • دراسة حصرية - أبو العربي مصطفى

 

في زمن وطأ الاحتلال وطننا، وانتهك من وقت لآخر حرماتنا، ونهب خيرات بلدنا، ونشر الفجور والانحلال وسط أبنائنا، وعمل على السيطرة على مقاليد الأمور السياسية فاستخدم حكامنا، واشترى ذمم الكثيرين من رجالنا، فلهث وراءه كل مفتون بحضارته الزائفة.

في هذا الزمن الذي لم يكتف الاستعمار بالسيطرة على الأمور السياسية والاقتصادية والفكرية، ونشر الفساد وسط الطبقات الاجتماعية، عمل على تدمير البنية التحتية لشعوبنا، وضرب الأخلاق في محرابها، فأخرج المرأة سافرة، وطمس هوية التعليم فسخره لخدمة أغراضه، وأستعبد الحكام وأذنابه، وعمل على تغريب الأمة وتجريدها من هويتها الإسلامية كما اقتطع البلاد من جسد الخلافة الإسلامية فصار الشعب كالأيتام على موائد اللئام.

في ظل هذه الظروف العصيبة نشأ جيل عرف معنى الإسلام قولا وعملا، وفهم الإسلام على أنه نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا؛ فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء(1).

وقعت مصر في قبضة الاحتلال الإنجليزي في أعقاب فشل الثورة العرابية عام 1882م بعد معركة التل الكبير واحتلال القاهرة في 14 سبتمبر1882 م.

ومن ثم أصبحت البلاد وملكها ألعوبة في يد الإنجليز وبالرغم من  الخيانة التي حدثت في صفوف الجيش إلا أن الشعب لم يعدم بعد ذلك الرجل الوطني الذي هب يدافع عن البلاد ويطالب الإنجليز بالرحيل عن البلاد ومن أمثال هؤلاء مصطفى كامل -والذي توفى في فبراير 1908م- والزعيم محمد فريد -والذي توفى في 15 نوفمبر 1919م.

لقد أحكم الإنجليز سيطرتهم على البلاد والعباد وهيمنوا على كل نظم المجتمع , وتحقق لهم ذلك عن طريق الاستعمار الفكري فألغوا الشريعة الإسلامية والعمل بها من قانون القضاء وحصرها في قانون الأحوال الشخصية وعملوا على فصل الدين عن العلم والمدارس الدينية، كما وضعوا الجيش المصري تحت السيطرة العسكرية للإنجليز وقللوا عدده, وفرضوا سيطرتهم على البوليس وقناة السويس حتى أن البعض قال" إن مصر تدار من قصر الدوبارة  وليس من قصر عابدين".

تعتبر حياة المجتمعات متداخلة فى بعضها البعض فلا يستطيع أحد أن يفرق بين الظروف السياسية التى تحيها المجتمعات والحياة الاجتماعية والاقتصادية، ولقد تأثرت هذه الجوانب ببعضها.

 

الآثار الاجتماعية للاحتلال

ولا نستطيع أن نغفل الظاهر الاجتماعية التي تفشت فى المجتمع المصري كالتبشير والانحلال الخلقي والسفور وما يسمي بتحرير المرأة والبغاء.

لقد كانت لموجة الانحلال الخلقي والعقائدي والسفور أثر فى تغير أخلاق المجتمع فقد تحررت المرأة من حيائها وعفافها وانساقت وراء الدعوات الغربية والتي كانت يدعمها المحتل لينشر العرى والمجون وسط أبناء الأمة ، وساعده فى ذلك الصحف التى كانت تسير فى ركابه فنشرت صور المرأة التى خلعت ملابسها على شاطئ البحر والمرأة التي ترتاد السينما والملاهي وصوروها بأنها المرأة المتمدينة المتحضرة، كما  استغلها فى البغاء أسوء استغلال حتى عاش المجتمع بين كؤوس الخمر وأحضان البغايا، وانتشرت المقاهي والملاهي الليلية والخمارات والمخدرات والزنا السري والعلني وبيوت الدعارة(2).

 

البغاء

الدعارة أو البغاء هي فعل استئجار أو تقديم أو ممارسة خدمات جنسية بمقابل مادي، وبسبب ضعف التربية في المجتمعات – خاصة الإسلامية – وانعدام الرقيب الوجداني والأسري، ومع زيادة وسائل التخفي اصبحت منتشرة داخل المجتمعات.

وكثرت بيوت الدعارة والاتجار بالقاصرات كثرة بالغة حتى صارت مصر مركزًا مهمًا من المراكز الدولية لتجار الرقيق الأبيض الذين يجلبون البغايا من مختلف الأقطار، ويبقون في مصر من يستطيعون إبقاءهن ويبعثون بالبقية إلى مختلف الجهات، حتى جاء في تقرير صادر عن عصبة الأمم في صيف 1927م وفي القسم الخاص بمصر ما يلي: "لقد ثبت أن الديار المصرية عبارة عن سوق بغاء عظيمة للنساء والفتيات من جميع الأجناس، ولا سيما موسم السياحة في وقت الشتاء".

وختم التقرير بما يلي: "بناء على ما لدينا من المعلومات وبالرغم من الوسائط وسديد قول "رسل باشا" في تقرير سنة 1930م "أن جو البغاء المرخص، هو فاسد فسادًا تامًا، نضرب لذلك مثلاً حي الأزبكية حيث يجمع ذلك الحي بين دفتيه أسوأ عناصر المدينة ويولد الإجرام، ويفسد أية قوة من قوات البوليس تقوم بإدارة شئونه(3).

وكانت حركة البغاء تزداد بين المصريات يومًابعد يوم فقد جاء في تقرير حكمدار العاصمة "القاهرة" عن قوات البوليس وأعماله في القسم السابع الخاص بالبغاء عن عدد البغايا في القاهرة وحدها المرخص لهن رسميًا من الحكومة ما يأتي:

السنة

عدد المصريات

عدد الأجنبيات

المجموع

بداية سنة 1932

633

183

816

آخر سنة 1932

726

164

890

بداية سنة 1933

728

160

888

آخر سنة 1933

745

140

885

 

 

 أضف إلى ذلك ما يوجد في عواصم القطر الأخرى والمديريات والأقاليم، وكان أول من حمل لواء الجهاد في سبيل إلغاء البغاء الرسمي الأستاذ الجليل السيد محمود أبو العيون المفتش بالمعاهد الدينية، فقد كان منذ سنة 1923م وهو يكتب في الصحيفة الأولى من الأهرام تحت عنوان "مذابح الأعراض" الفصول المحزنة والروايات المبكية يكشف فيها عن مخازٍ ومآس تحتويها مواخير الدعارة(4).

والإخوان منذ بداية نشأتهم وهم يفكرون تفكرا عمليا جديا في هذه المعضلة، بل ووضعوا له الحلول العملية التي يسر الله لهم فيها وفتح قلوب كثير ممن كان يمارس هذه المهنة ويتعرف طريق العفاف، ولقد برزت جهود الإخوان في أعمال واقعية قبل الحرب العالمية الثانية وأثنائها وبعد انتهائها.

 

جهود أولية

قامت جهود الإخوان لنشر الفضيلة وسط الناس خاصة بعدما استشرت الفواحش وضعف التمسك بالأخلاق، وأصبح التدين تزمتا وتشددا، والحياء بضاعة عفى عليها الزمن، ولقد تحقق للمستعمر ما أراده من كون كأس وغانية يفعلون بالأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع.

لقد حاول الإخوان في هذه الفترة محاربة ظاهرة البغاء بكل ما أوتوا من قوة فلم يكتفوا في معالجة هذه المشكلة العويصة بكتابة المقالات أو بإلقاء الكلمات في المساجد والأندية العامة، أو برفع المذكرات إلى أولي الأمر يبصرونهم بحكم الله في البغاء فقط، وإنما قدم الإخوان حلولاً عملية وجذرية لهذه المشكلة بتأسيس الملاجئ ودور أعمال للتائبات.

 

مسجد الإخوان بجوار دار الدعارة

كان من اثار شرعنة البغاء وانتشاره وسط الناس، بقوة القانون ان جعل الناس ترى هذا الفعل كشيء عادي وكمصدر للرزق، وبعض المتدينين رأوه وباءا ولابد من تجنبه، إلا أن الإمام البنا لم ير فيمن يقوم بهذا الفعل الشر المطلق وكان ينظر إليهم نظرة عطف وشفقة وخوف، ولذا ما أن طرح مكان لأول مسجد للإخوان بالإسماعيلية ووقع الاختيار على إحدى الأراضي تصادف أن كان بجوار بيت للدعارة واستاء الإخوان – كأول لبنات الدعوة كيف تكون بجوار بيت دعارة- لكن الإمام البنا كان رده حكيما حينما قال لهم: إن هذا البلد بلد إسلامي لا يستطيع أي إنسان أن يبعدنا عن أي جزء منه، وإننا بعون الله سنقضي على هذه البؤرة من الفساد، وسيرحلون عنها بمجرد أن نضع أيدينا عليها.

وبالفعل بعدما نشأ المسجد زاد الالتزام وسط الناس وقل عدد المترددين على بيت الدعارة مما دفع بهؤلاء النسوة فذهبن إلى الأستاذ البنا يشتكين له وقف الحال، وضيق الرزق حيث قل الطلب عليهن بعد تدين أهل الحي والتزامهم بالإسلام، فاقترح عليهن الإمام الشهيد أن يمتهن مهنًا شريفة، على أن يستأجر لهن مبنى مستقلاً تلتحق به كل من تتوب إلى الله تعالى وليس لها عائل، فتوافد عليه كثيرات ممن تاب الله عليهن.

وقد كلف الإخوان الشيخ علي الجداوي لتولي شئون هذا الملجأ والإنفاق عليه، وترتيب الدروس الدينية لهن، وقد وفق الله الكثيرات منهن فتزوجن وأصبحن ربات بيوت صالحات، ومن لم تتزوج منهن تعلمت فن الخياطة والتفصيل، أو فن الطهي، أو تربية الأولاد، وكان لهذا العمل الجليل أكبر الأثر في نفوس المسلمين جميعًا من أهالي الإسماعيلية وغيرهم(5).

 كما كان نتيجة لهذه الجهود التي بذلها الإخوان والشرفاء من هذه الأمة أن ألفت لجنة لبحث موضوع البغاء الرسمي بموجب قرار مجلس الوزراء الصادر في 12أبريل سنة 1932م، وقد عقدت تلك اللجنة أول اجتماع لها يوم 8يونيو سنة 1932م برياسة سعادة الدكتور محمد شاهين باشا وكيل الداخلية للشئون الصحية.

 

صحف الإخوان ومحاربة البغاء

هاجمت صحف الإخوان هذه الظاهرة، وانتقدت بشدة الحكومات التي تسمح بها، ورأت أن في إباحة البغاء امتهانًا لكرامة الإنسان، واستعبادًا مخجلاً لفئة من الفقراء، حتى خصصت المجلة عددًا كاملاً من أعدادها للحديث عن البغاء وأضراره البالغة على الأفراد والمجتمعات، وصدر هذا العدد بعنوان: "عدد خاص لمحاربة البغاء"، كما كتب الأستاذ البنا مقالا تحت عنوان "البغاء" ندد فيه بهذا الداء ومدى خطورته على الفرد والمجتمع، وجاء فيه: لقد نال خصوم الشرق من الشرق كثيرًا ولقد عاثوا فيه الفساد، ولقد أذلوا أبناءه بكل ما عرفوا من صنوف الإذلال، ولقد حاطوهم بصنوف الرزايا والنكبات، ولا أظن أن في ذلك كله ما هو أشد ولا أنكى من إباحة الزنا وحماية البغاء وهدر الأعراض. ثم قال: "لست مبالغًا حين أصارح القراء الكرام بأن هذه الكلمة إن كتبتها أو تلوتها اهتزت لها أعصابي واضطربت مفاصلي، وتمثل أمامي ما تحويه من معاني البؤس والشر والمسكنة معًا، فأسخط تارة وأشفق أخرى وأنا في كلتا الحالين آسف حزين.

البغاء أقوى معول يهدم كيان الأسرة ويفكك رابطتها، ويأتي على بنائها من أساسه، ويبدل هناءتها آلامًا وسعادتها جحيمًا، وحبها بغضًا وانتقامًا ويعبث بحرمتها وقدسيتها وينال من كرامتها وعزتها، إنه يعطل تكوين الأسر ويحول بين الشبان والزواج فهو في الوقت الذي يفكك فيه الأسر القائمة ويقضي عليها بما يلقي في نفوس أفرادها من شكوك وريب وظنون وتهم يحول دون تكوين أسر جديدة، ويمنع الشاب أن يتزوج وأن يكون أبًا رحيمًا وزوجًا مخلصًا فهي سلاح ذو حدين يقطع روابط الأسر أولاً وأخيرًا، وماذا يبقي للأمة من قوة إذا تهدمت الأسر وانحلت روابطها وتحطمت قواها وهل الأمة إلا مجموعة أسر".

وقام مندوب جريدة الإخوان عبد اللطيف الشعشاعي خلال هذا الأسبوع بمقابلة جم غفير من ذوي الحل والعقد في وزارة الداخلية للاستنارة برأيهم في موضوع البغاء، ولقد كان لهذا الموقف الثابت والقوي من الإخوان المسلمين بصدد إلغاء البغاء في ذلك الوقت أن صدر قرار من الحكومة في أغسطس 1935م بأن يلغى البغاء الرسمي في خلال ثلاث سنوات، ولكنه من الآن لن يرخص لمومس جديدة، ولا يفتح منزل جديد للبغاء، وستبعد منازل البغاء الموجودة الآن إلى مناطق في خارج المدن، إلى أن يتم إلغاؤها بتسهيل إعادة العاهرات الأجنبيات إلى أوطانهن، والعمل على تزويج من يصلح للزواج من الوطنيات، وإنشاء ملجأ ودور أعمال للمسنات ومن لا يجدن أزواجًا.

وبصدور هذا القرار لم تلن للإخوان قناة في محاربة البغاء الرسمي والسري، واستمرت جريدتهم في كشف الأضرار الخطيرة الناجمة من هذا المرض الوبيل.

هذا ولم يدع الإخوان فرصة تمر ولا حادثة تقع إلا نددوا فيها بالبغاء، وظلوا يحاربونه حتى استجابت الحكومة لهم وألغي في الأربعينيات.

ولقد قصد وفدًا من الإخوان السراي الملكية -وكان على رأسهم المرشد العام– وقدموا عريضة للملك يطالبون فيها بإلغاء البغاء الرسمي والسري، وتحريم الخمر، ومحاربة السفور والإباحية، كما طالبوا بتحريم المقامرة، وسن قانون يمنع الربا، كما طالبوا بالعناية بالتعليم والمساجد(6).

وشكل الإخوان لجنة لمحاربة البغاء حيث نشرت اللجنة مشروع قانون لجنة مكافحة البغاء كاملاً، الذي وافق مجلس الوزراء والذي يقضي بفرض عقوبات صارمة على كل من يتجر بالأعراض.

فلقد كان لهذا الموقف الثابت والقوي من الإخوان المسلمين بصدد إلغاء البغاء في ذلك الوقت أن صدر قرار من الحكومة في أغسطس 1935م بأن يلغى البغاء الرسمي في خلال ثلاث سنوات، ولكنه من الآن لن يرخص لمومس جديدة، ولا يفتح منزل جديد للبغاء، وستبعد منازل البغاء الموجودة الآن إلى مناطق في خارج المدن، إلى أن يتم إلغاؤها بتسهيل إعادة العاهرات الأجنبيات إلى أوطانهن، والعمل على تزويج من يصلح للزواج من الوطنيات، وإنشاء ملجأ ودور أعمال للمسنات ومن لا يجدن أزواجًا.

وبصدور هذا القرار لم تلن للإخوان قناة في محاربة البغاء الرسمي والسري، واستمرت جريدتهم في كشف الأضرار الخطيرة الناجمة من هذا المرض الوبيل، وعرضت لحوادث ثلاث بيعت فيهن فتيات واستدرجن لهذه الرذيلة، فنشرت مقالاً بعنوان: "مصر المسلمة أصبحت سوقًا للدعارة يباع فيها الفتيات" وذكرت فيه أنه في أسبوع واحد تقع هذه الحوادث التي نعرضها للقراء عرضًا ليحكموا بأنفسهم أن القانون الوضعي عاجز عن صيانة الآداب وحماية الحريات، ولابد من التشريع الإسلامي وإلا فلدينا فوضى ويعوزها النظام(7).

ولقد كتب أحد الإخوان قصيدة يظهر فيه حال أم تحذر ابنتها من الوقوع في هذا الداء فتقول:

لا تلومي يا بنية             ليس من لوم عليه

أرهفي السمع إليه       واسمعي مني القضية

كنت في قدس خدري       وردة ما بين زهري

قد بلغت اثنى وعشر       حرة الذيل نقية

فأتى وغد لئيم            سافل القصد ذميم

وهو بي صب يهيم          في صباح أو عشية

تهت في بيداء جهلي        وهو يغريني ويدلي

مقسمًا سيكون بعلي        بعد فعلته الدنية

نال مني ورماني            منكرًا حلو الأماني

ضقت ذرعًا بالحياة          وتمنيت مماتي

فاتبعت الساقطات          في قرار الأزبكية(8)

 

مساندة الإخوان لجمعيات ضد الغاء

كان من مبدأ الإخوان وتربيتهم مساعدة كل من يسعى لإصلاح المجتمع حتى ولو لم يكن منضوي تحت صفوف الإخوان، المهم أن تعم التربية وتحارب الرذيلة.

ومن ثم نشط الإخوان في الاتصال بمختلف هيئات الشعب للتحذير من هذا الشر المستطير، وساندوا كل غيور يحارب البغاء، ومن ذلك ما قام به بعض الغيورين على دينهم فأنشأوا جمعية سميت "جماعة مشروع محاربة البغاء" كان مقرها القاهرة بشارع الفجالة رقم 56، وكان مهمتها الأساسية محاربة البغاء ومحاولة استئصال شأفته والمطالبة بإلغائه تمامًا، وكان حضرات الأعضاء المؤسسين هم: الأفندية عبد المنعم يونس، وأحمد محمد عاشور، وأحمد عزت سليمان، ومحمد مصطفى علوان، ويوسف عيسى قطب، ومحمد أحمد علوان، فشجع الإخوان هذه الجمعية وجهودها وكتبوا عنها في مجلتهم، بل وشاركوا فيه(9).

وعندما اعتزمت رابطة الشباب المصري على تنظيم أسبوع لمحاربة البغاء من 17 – 24 نوفمبر 1934م أرسلت إلى رئيس تحرير جريدة الإخوان المسلمين الشيخ طنطاوي جوهري ليعلن عن هذا الأسبوع فنشرت الجريدة ذلك تحت عنوان: "محاربة البغاء"وهذا نصه: جاءنا من حضرة صاحب التوقيع ما يأتي: حضرة الأستاذ الفاضل رئيس تحرير جريدة الإخوان المسلمين.

السلام عليكم ورحمة الله، وبعد، فإني أرجو نشر هذه الكلمة وهي بخصوص مشروع ديني جليل يرمي إلى محاربة الدعارة، ولاريب أن هذه الأغراض طالما عملتم من أجلها وطالما جاهد الإخوان المسلمون في سبيل تحقيقها، وكم يسرنا لو علقتم على فكرة المشروع (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [التوبة: 105].

وحينما أعلنت اللجنة التنفيذية العامة لمشروع محاربة الزنا أنها اتخذت لها مقرًا لبث دعايتها الإنسانية بشارع ابن الرشيد بسراي مدارس السلطان حسين بشبرا، ساعد الإخوان على التعريف بها وحث الناس على معاونتها.

وبعدما قررت اللجنة العمل وجهت الدعوة للجمهور عامة والشباب خاصة إلى الإسراع بالمساهمة في هذا العمل الخيري الذي سيرفع من شأن البلاد، ويقوي دعامة الفضيلة، حيث كان من أغراض المشروع هي محاربة البغاء السري والرسمي بطرق شتى، ولقد رحبت اللجنة  بكل من يتطوع للعمل معها.

وجاء في إعلانهم تحت عنوان [الشباب المصري يعلن الحرب على بيوت الدعارة]

أيها المصري، هل تود أن ينهار ركن الفساد في وطنك؟ وهل أنت متألم لما وصلت إليه بلادك من تأخر أخلاقي؟

اعلم أن هذا الضيق الذي نحن فيه مصدره بيوت الدعارة التي يصرح فيها للمصرية لتبيع عرضها على مرأى ومسمع منا جميعًا.

أيها الآباء، عرفوا أولادكم بأن في مصر شبابًا يعملون ويجاهدون لمحاربة الدعارة ولفك أسر سبعة آلاف مومس رسمي، أيها الوالد، أيها العالم، أيها الأديب، أيها الصحفي، أيها الطالب، عضدوا جميعًا مشروع الشباب ألا وهو مشروع محاربة الزنا الذي سيحمي المرأة من الفاقة، وقوموا جميعًا بواجبكم نحو وطنكم الذي اندحرت فيه الفضيلة.. إن راقتك فكرة مشروع محاربة الزنا وأردت التطوع فقدم اسمك وعنوانك لمن يقدم إليك هذا البيان، أو احضر بمقر المشروع واطلب البيانات اللازمة من السكرتارية شارع ابن الرشيد بسراي مدارس السلطان حسين بشبرا والحضور من الرابعة إلى السادسة مساء كل يوم(10).

كما نشرت الجريدة رسالة الشكر التي بعث بها سمو الأمير عمر طوسون لرئيس رابطة الشباب المصري على مشروع محاربة البغاء التي أعرب فيها عن سعادته بهذا المشروع وتأييده الكامل له، لأن كل خطوة في هذا السبيل لها أثرها النافع أيًا كان الأثر، فالبغاء من أكبر الفواحش والرضا ببقائه عار كبير، ودعاهم إلى مزيد من العمل هم وغيرهم من الجماعات لمقاومة هذا المرض الوبيل(11).

 

سد الذرائع

لم تقف جهود الإخوان عند محاربة البغاء ومحاولة القضاء عليه أو نشر العفة وسط نساء ورجال الأمة، لكنهم حرصوا على المطالبة بغلق الأبواب التي قد تؤدي لذلك، خاصة السفور الذي انتشر حتى أصبحت النساء تخرج عاريات، أو الاختلاط المقيت الذي يؤدى لإثارة الغرائر، واشدها المصايف التي كانت تنتهك فيها الحرمات.

وكثرت كتابات الإخوان عن المصايف وما يحدث فيها حتى كتب أحدهم مقالاً تحت عنوان: "المصايف" جاء فيه: "حقًا لقد ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، وانحطت الأخلاق في معظم الطبقات حتى غدوا من مكارم الأخلاق في إفلاس، وقضى كثير من المسلمين أوقاتهم بين الكاس والطاس، استعصى الداء وعز الدواء، فلئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين، تجيء أشهر الصيف وياليتها ما تجيء، تأتينا بالفسوق والعصيان، تأتينا بالمهازل والهذيان، تأتينا بالخزي والخذلان، تأتينا بإغضاب الرحمن، ومحاربة الملك الديان.

ولقد استجابت الحكومة لهذه النداءات المتكررة فأصدرت وزارة الداخلية قانونًا للمحافظة على الآداب العامة في سنة 1934م، وقد قام الإخوان بشكر هذه الخطوة الحكيمة، فجاء في جريدة الإخوان المسلمين تحت عنوان: "هكذا فلتكن المحافظة على الأخلاق": "ولقد أحسنت وزارة الداخلية صنعًا في إصدار هذا القانون الذي نحن بصدده في جميع فقراته ومواده، وكم كان سرورنا عظيمًا وغبطتنا زائدة حينما قرأنا المادة التي تحرم أخذ الصور للمصيفين والمصيفات بلباس البحر(12).

وقد أثرت هذه الدعوات المتكررة من الإخوان لمحاربة الفساد في نفوس بعض الغيورين مما دفعهم إلى أن يرفعوا طلبًا إلى النحاس باشا يناشدونه القضاء على مظاهر الفساد الأخلاقي، فنشرتها جريدة الإخوان المسلمين تحت عنوان: "دعوة إلى الله فعضدوها" جاء فيها: يا دولة الرئيس.. إنكم تقيمون الصلاة وتبتغون مرضاة الله، وقد دانت لكم البلاد ووليتم أمرها فأعدوا لها ما استطعتم لدفع ما فشا فيها من فحشاء ومنكر، وها هو فصل الصيف قد أتى بخلاعته المشهورة، ففي سواحل البحر نساء عاريات يتسابقن إلى كشف عوراتهن ومواضع العفة منهن بكل الوسائل إغراء للرجال ورغبة في الفحش وإسرافًا في الرذيلة، وها هن يستلقين على جنوبهن وبطونهن وظهورهن على مرأى من الغادي والرائح فيما يسمونه حمام الشمس، ولو أردنا أن نسهب فيما يحدث بين الجنسين في المصايف من عهر وفجر لما وسعتنا هذه العجالة، ولتفطر قلب الحر العفيف وذرفت عيناه دمعًا هتونًا على ما حل بالعفة والفضيلة والغيرة والشهامة من تدهور وانحطاط.

وإن النساء ليمشين في الشوارع سافرات وقد زينت منهن الوجوه بأنواع الطلاء، وبرزت منهن الظهور، وظهرت الأعناق والشعور وبدت السيقان والنهود، فأين نحن من الإسلام وهو دين الدولة الرسمي؟ أين الفضيلة والحياء؟ نحن في زمن عم فيه الفساد وانتشر الضلال وتملك الناس الهوى وضاعت حمية الرجال، وتحنث الشباب عن الزواج لما يجدونه من أعراض مبذولة يحمي القانون مرتكبيها.

يا صاحب الرياسات: أمام دولتكم أمران: إما أن تنصروا الله وتصونوا حدوده ومحارمه أن تنتهك وتضربوا على أيدي الفسقة الفجرة، وتمنعوا الأعراض أن تداس على شواطئ البحر بأن تفصلوا بين الرجال والنساء وتخصصوا أماكن لكلا الجنسين للاستحمام، وتشددوا الرقابة على شارع الهرم وأطراف مصر الجديدة والعباسية وشوارع اللهو والجناين بالقاهرة والإسكندرية، وتحرموا تبرج النساء في الطرقات والملاهي العامة، وتسعوا لدى ممثلي الدول الأجنبية كي يطبق قانون التبرج على نساء الأجانب لأنهن في بلد يجب أن يحترمن شعوره وعواطفه، وتعملوا ترتيبًا خاصًا لفصل بنات الجامعة المصرية عن الشبان بتخصيص مدرسة لهن أو إضافتهن على مدرسة خاصة من مدارس البنات، وتسارعوا في إلغاء البغاء الرسمي ومحاربة البغاء السري، وترغبوا الشبان في الزواج كما حثت الشريعة على ذلك، وتقرر الضرائب على العزوبة وتحرموا الخمور والقمار بأنواعه "كالكوتشينة واليانصيب وسباق الخيل"، وتدخلوا تعليم الدين في المدارس ودرجاتها ابتدائية وثانوية وعالية وتجعلوه علمًا أساسيًا، وتحرموا رقص المصريات مع الشبان وارتيادهن الأماكن الإفرنجية، وتكلفوا قلم المطبوعات بمراقبة الجرائد والمجلات ودور السينما لما يظهر فيها من صور ومقالات مبتذلة وتقطعوا دابر الإعلانات كالتي ظهرت باسم "شيكوريل" ملآى بصور العاريات ترويجًا للتهتك بالسواحل.

إما أن تفعلوا ذلك كله فينصركم الله في جميع أحوالكم ويهيئ للبلاد مستقبلاً سعيدًا بكم، فقد قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97] وقال: (وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104]، وإما أن تتركوا الفضيلة تنحر والدين يندثر، فلا تنتظروا بعدها للبلاد خيرًا، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم".

ثم علقت الجريدة بقولها: "جاءتنا هذه الدعوة ننشرها مؤملين أن يكون لها أحسن الأثر في نفس حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل مصطفى النحاس باشا، وأن يحقق بما عرف عن دولته من غيرة دينية ورغبة خالصة في إصلاح الإسلام والمسلمين ما يرجوه ناشر وهو ما يرجوه معهم كل مسلم غيور من إصلاح وهداية(13).

لم يضن الإخوان بجهودهم في التصدي لهذا الداء رغم قلة إمكانيتهم وعدم اهتمام الحكومة للأمر بجدية، إلا أنهم عملوا من أجل تحقيق هدفين هما:-

نشر ثقافة عامة بين كافة أفراد وطوائف الشعب بخطورة البغاء لتشكيل وعي عام رافض لهذه الظاهرة، ثم إيجاد تشريع قانوني لتجريم هذا الفعل على أن يرتكز على التشريع الإسلامي في ذلك وهو حد الزنا، ولقد قام الإخوان بالتالي:

1- رفع العرائض للمسئولين للمطالبة بإلغاء البغاء

ففي السويس قرر المجلس المحلي بجلسته المنعقدة يوم السبت 6ربيع الأول 1359ﻫ الموافق 13أبريل 1940م إلغاء البغاء بناء على طلب جمعية الإخوان المسلمين بها، وكان هذا القرار بإجماع أعضاء المجلس عدا رئيس المجلس، وقد وجه الإخوان للمجلس رسالة شكر جاء فيها: "لا يسعنا إلا أن نشكر مجلس السويس المحلي على هذه الغيرة الإسلامية التي تجلت في قراركم الحكيم، ونخص بالذكر حضرة صاحب العزة الدكتور محمد أنيس بك مفتش صحة السويس على موقفه النبيل في هذا الشأن"، كما شكر الإخوان مأمور مركز ميت غمر على قراره بإلغاء البغاء السري والعلني، كما وقف الإخوان مع من تعلن توبتها من هؤلاء النسوة عن البغاء السري مطالبين الحكومة بتوفير العيش الكريم لهن حتى لا يعدن مرة أخرى له.

كما شكر الإخوان مأمور مركز ميت غمر على قراره بإلغاء البغاء السري والعلني، حيث ذكرت "التعارف" أن هذا إصلاح حيوي طالما نادينا به وعملنا له، وإنها لأمنية عزيزة تتحقق وتمسح هذه الوصمة السوداء من مصر، وكان أمر الإلغاء يقرر تقديم المساعدة المالية للداعرات حتى تقيهن من العودة للبغاء مرة أخرى.

كما وقف الإخوان مع من تعلن توبتها من هؤلاء النسوة عن البغاء السري مطالبين الحكومة بتوفير العيش الكريم لهن حتى لا يعدن مرة أخرى له(14).

لم يضن الإخوان يومًا عن تقديم النصيحة للملك، والكتابة إليه لتبصيره بالفساد الذي ينتشر في المجتمع  ليعذروا أمام الله، ولقد حدث أن وفدًا من الإخوان قصد السراي الملكية -وكان على رأسهم المرشد العام– وقدموا عريضة للملك يطالبون فيها بإلغاء البغاء الرسمي والسري، وتحريم الخمر، ومحاربة السفور والإباحية، كما طالبوا بتحريم المقامرة، وسن قانون يمنع الربا، كما طالبوا بالعناية بالتعليم والمساجد.

وقد لام الإخوان بشدة وزارة محمد محمود باشا، فكتب الأستاذ صالح عشماوي يعيب على رئيس الوزراء قبوله بالسماح للزنا والدعارة التي تمارس سرًّا وجهرًا قائلا: "إننا نعلم -يا رفعة الرئيس- أنك نشأت في أرض صعيد مصر المحافظ على عاداته وتقاليده، وأنه يجري في عروقك الدم الشرقي الحار، وما نظن أن بضع سنوات قضيتها في أكسفورد قد غيرت طبيعتك، وحالت بينك وبين المحافظة الشديدة على العادات والتقاليد، أما أنت يا سيدي هيكل –محمد حسين هيكل وزير المعارف– يا صاحب كتاب "حياة محمد" و"في منزل الوحي" كيف ترضى أن يصرح بكل هذا الفجور لوزارة أنت فيها مسئول؟ أما اللوم الكبير فهو لوزير جليل صاحب المعالي مصطفى بك عبد الرازق وزير الأوقاف وهو مسئول بحكم التضامن عن سياسة الوزارة العامة، كيف ترضى معاليكم وأنت من خريجي الأزهر الشريف وعلماء الإسلام أن تسكت على هذا وقد توليت أمر المسلمين وأصبحت من ولاة الأمر والنهي؟"(15).

كتب الإخوان إلى عبد السلام الشاذلي باشا وزير الشئون الاجتماعية خطابا يستحثونه على القضاء على البغاء جاء فيه: «يا صاحب المعالي.. سلام الله عليك. وبعد فإن وزارة الشئون الاجتماعية التي تشرفون عليها قد صادفت هوى في نفوس الشعب وأصابت موطن الداء ومكمن المرض، هذه الوزارة الجديدة التي نحدثها عن آمالنا ومآربنا ونلقي إليها آراءنا ومطالبنا».

واليوم -يا صاحب المعالي- أمامك قضية من القضايا التي نسج عليها الدهر خيوطه، وطال عليها الأمد حتى أوشكت أن تشيب رغم أنها لا تزال في عنفوان شبابها، هذه القضية هي قضية إلغاء البغاء، إنه قلما وجدت حكومة من الحكومات السابقة لم تعلن في خطبها الرسمية وفي أحاديث وزرائها وكبرائها أنها جادة في هذا الموضوع، وأنها ستحل المسألة حلاًّ عاجلاً.

فسنوا القوانين الصارمة والعقوبات المؤلمة لكل مستهتر ومستهترة، وكل معتد على كل فتاة، وكل امرأة معتدية على فتاة أيضًا.

فإن لم تتداركوا الحال بما عرف عنكم من الغيرة والجرأة والشهامة عسر في المستقبل إيجاد جيل يعتصم بالفضيلة ويستمسك بالأخلاق الفاضلة، وكان من الصعب مداواة هذا المرض الذي يربو كل يوم ويزداد.

وقد استجابت كثير من الإدارات لدعوات الإخوان وقررت إلغاء البغاء الرسمي بها، وقد احتفى الإخوان بهذه الإدارات ووجهوا لهم الشكر الجزيل على تلبية دعواتهم متمنيين أن يعم ذلك كافة أنحاء القطر(16).

وفي عام 1946م قام حاكم باريس بسن قانون يلغي فيه البغاء بعدما رأى ضعف شباب فرنسا أمام الجيوش الألمانية وهزيمتهم أمامهم في أقل وقت بسبب الانحلال والخنوعة التي كان يعيش فيها شباب فرنسا لانتشار البغاء وانغماسه في الترف، ومن ثم طالب الإخوان الحكومة بالاقتداء بما حدث في باريس فلا مصر أقل من باريس وفيها الأزهر الشريف والدين القويم.

2- تصحيح الأفكار الخاطئة في محاربة البغاء

لقد كثرت الأفكار الشاذة حول ضرورة وجود البغاء الرسمي مثل أنه لو تم إلغاء البغاء الرسمي سيزداد البغاء السري، وعليه فعلى الحكومة ألا تلغي البغاء الرسمي حتى يكون تحت نظرها وتعلم ما يجري.

وقد أوضح الإخوان أن البغاء السري يزداد في وجود البغاء الرسمي، وقد تبين من إحصائية رسمية أن عدد المنازل التي ضبطت أكثر من مرة في ممارسة البغاء السري لا يقل عن 370منزلاً، وأن عدد البلطجية والقوادين 120بلطجيًا، وعدد الفتيات المترددات عليها نحو ألف فتاة مما دفع البكباشي محمود حسين رئيس إدارة الآداب العامة تقديم مذكرة إلى الحاكم العسكري اقترح فيها إصدار أمر عسكري بإغلاق دور البغاء السري في العاصمة، كما اقترح أن يشمل الأمر إبعاد جميع البلطجية والقوادين الذين لهم صلة بهذه المنازل.

وأشار الإخوان أن ما جاء في الإحصاء الرسمي رغم خطورة أرقامه وما تدل عليه من تغلغل الفساد وانتشار الانحلال الخلقي، إلا أنه دون الحقيقة بمراحل، فكم من بيوت للدعارة السرية لا يعرف البوليس عنها شيئًا، أو لم يوفق لمهاجمتها والقبض على من فيها، وقد شكت كثير من المناطق من تفشي بعض الأمراض الخبيثة بين الشباب بسبب انتشار الدعارة السرية.

كما كان من هذه الأفكار أيضًا أنه يجب أن يمارس المرء الجنس قبل الزواج، ويكون من الأفضل أن يتم مع امرأة عاهرة فهي أقدر على توجيهه بحيث لا يصاب فيما بعد بأي اضطراب نفسي نتيجة جهله بطرائق هذا الاتصال، واعتبر الإخوان أن هذا الأمر عطب في التفكير، وتعبير عن قصر الفهم وخلله، فمثل هذه الأفكار لا تخرج إلا ممن ينظر إلى الأمور الحيوية بمجرد العين التي ينظر بها الوسط الموبوء الذي يعيش فيه، ولذلك فهي لا تخرج من إنسان يعيش حياة طبيعية.

ومن الأفكار الغريبة التي كانت تروج في هذه الفترة أن البغاء شر لابد منه، ولذا يجب تنظيمه وليس القضاء عليه، وقد عاب الإخوان على من يدعون لذلك، وأكدوا أن هذه الأفكار يجب أن تقتلع من أساسها، فإننا في دولة مسلمة لها من دينها ونظمها وتقاليدها ما يمنع انتشار هذا الفساد أو غيره من أنواع الفساد(17).

وحينما اقترحت الحكومة من أجل مقاومة البغاء السري إبعاد صاحبات هذه المنازل والفتيات اللاتي يترددن عليها خارج العاصمة، اعتبر الإخوان أن هذا الإجراء ساذج في حل المشكلة، ولن يقضي على الظاهرة، بل سينشرها في الأماكن التي ينتقل إليها، حيث تختلط هؤلاء النسوة بالعفيفات المحصنات من السيدات فيفسدن أخلاقهن، لكن الإخوان يرون أن يصحب الإبعاد تدبير وسائل العيش لهؤلاء النسوة، أو حصرهن في منطقة توضع تحت المراقبة الشديدة، أما إخراجهن من العاصمة وإطلاقهن في سائر المدن فعلاج مضر لا يفيد، كذلك الأمر فيما يخص البلطجية والقوادين فإنه لا يكفي مجرد الإبعاد، بل لابد من توقيع عقوبة جسدية تتناسب معهم مثل الجلد، ثم يرحلون إلى الطور ليوضعوا تحت المراقبة مع أمثالهم من المشبوهين والمتشردين.

وكان من أشد الأمور غرابة ما بررت به محافظة القنال عدم إلغاء البغاء بها بعد أن تقدمت لجنة الدعاية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بجمعية الإخوان المسلمين ببورسعيد بشكوى إلى محافظ القنال بشأن إلغاء البغاء بالمدينة، ولم يجد الإخوان أثرًا لهذه الشكوى، وبعد التحري وجدوا أنها قد حفظت وكان نص حفظ الشكوى هو: تحفظ مؤقتًا بسبب الحالة الحاضرة ولا يمكن عمليًّا النظر في هذا الأمر، وإلغاء البغاء في مثل هذه الظروف يكاد يكون من غير الممكن بالنسبة للجنود الذين ينزلون ببورسعيد الآن "الجنود الأجانب"، وقد شن الإخوان على ذلك هجومًا عنيفًا؛ حيث إن المحافظة لا تستطيع إلغاء البغاء من أجل تقديم هؤلاء الداعرات للجنود الأجانب القادمين لتلك المنطقة، وعلق الإخوان وماذا يهمنا من أمر الجنود الذين ينزلون إلى المدينة؟ أنقدم إليهم بناتنا ونساءنا بأيدينا ليزنوا بهن ويتركوا أمراضهم وعدواهم التي أتوا بها من بلادهم كي تنتشر بين الشباب المصري؟

إن من المخزي أن يصدر هذا الكلام من حكام مسئولين سيحاسبون أمام الديان عما اقترفته أيديهم من الحط بكرامة الدين وضياع شرفه لرضا الكفرة الفجرة الذين يقتحمون علينا ديارنا(18).

3- المطالبة بتشريع تجريم البغاء

رأى الإخوان أن الاكتفاء بإبطال التراخيص للساقطات لا يكفي فالجريمة شنيعة والعلاج الشافي لهذه الظاهرة بعد إلغاء البغاء الرسمي حصر الساقطات في مستعمرة يحترفن حرفة تدر عليهن رزقًا شريفًا، وعدم الإبطاء في تنفيذ مواد الدستور الرباني على من يعود لهذه الجريمة.

وعندما طالب النحاس باشا الإمام البنا بالتنازل عن الترشيح في انتخابات عام 1942م ووافق الإمام البنا على ذلك، واشترط على النحاس باشا بعض الشروط، والتي كان منها إلغاء البغاء، ووافق النحاس، وتحمس لذلك وزير الشئون الاجتماعية عبد الحميد عبد الحق، إلا أن قائد الجيوش البريطانية في مصر اعترض على إلغاء البغاء، فما كان من الحكومة إلا أن ألغت البغاء الرسمي في القرى، واكتفت بعدم إعطاء تراخيص جديدة لممارسة البغاء في المدن توفيقًا بين مطالب الإخوان ورفض الإنجليز، وكان ذلك أول انتصار للإخوان في معركة البغاء، واعتبر الإخوان هذه الخطوة أولى مراحل الإصلاح، واستمروا في حربهم للبغاء إلى أن يقضى عليه تمامًا.

ونتيجة لضغط الإخوان ومعهم عدد كبير من دعاة الفضيلة والوطنيين المخلصين من المصريين فقد استجاب بعض المسئولين بإلغاء البغاء الرسمي من إدارته، ولم يستجب البعض الآخر، لكن ظل الأمر نتيجة لرأي وهوى المسئول حيث لا يوجد قانون، ولذلك فقد ضغط الإخوان في هذا الجانب لإيجاد قانون رسمي(19).

لم تتوقف جهود الإخوان سواء من خلال المركز العام أو الشعب المنتشرة في جميع المحافظات، حتى أن قانون ولوائح الإخوان كان من بين بنودها أن من وسائل الإخوان المسلمين العمل على إنشاء المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والدينية والعملية والمساجد والمدارس والمستوصفات والملاجئ إلى أخره، وتأليف اللجان لتنظيم الزكاة والصدقات وأعمال البر والإصلاح بين الأسر والأفراد ومقاومة الآفات الاجتماعية والعادات الضارة كالمخدرات والمسكرات والمقامرة والبغاء وإرشاد الشباب إلى طريق الاستقامة وشغل وقت الفراغ بما ينفع ويفيد(20).

وحينما قامت وزارة الداخلية بتقديم مقترح بأن تعد دراسة لكيفية إلغاء البغاء, ولا يقتصر الأمر على إعطاء المومسات بعض المبالغ المالية كإعانة تشجيعا لهن على الاستقامة، زاد الإخوان بمطالبتهم وزارة الداخلية بأن يتبع القول العمل, وأن تعمل وفق هذه الدراسة على إلغاء البغاء.

وكتب صالح عشماوي تحت عنوان" تم الجلاء فأين إلغاء البغاء "ذكر فيه أنه منذ دخول الاحتلال لمصر وغزاها عسكريا غزاها أيضا أخلاقيا ففتح حانات الخمور وصالات الرقص, وفتح أبواب الدعارة على مصراعيها وأصبح البغاء يحميه القانون بحجة خدمتهن لجيش الاحتلال البعيد عن بلاده وتلبية احتياجاته(21).

طالبوا من الحكومة المصرية الاقتداء بما حدث في سوريا حيث اتخذ مجلس الوزراء السوري قرار بإلغاء البغاء, وطالب إدارة البوليس بإخراج جميع النساء الأجنبيات الساقطات من البلاد فى مدة خمسة أيام, كما عهدت إلى مختلف البلديات بإخطار جميع النساء الساقطات بالكف عن مزاولة البغاء فى ظرف ثلاثة أشهر ابتداء من أول يوليو ومنح كل امرأة ساقطة مكافأة لتتزوج بها أو إيجاد عمل شريف تتعيش منه, فحث الإخوان الحكومة المصرية بأخذ هذا النهج خاصة أن قانون إلغاء البغاء صادر في مصر منذ عام 1930 لكنه لم ينفذ, وأن ذلك يعد وصمة عار فى جبين مصر بلد الأزهر الشريف والجامعة العربية.

كما طالبوا الشعب بمعاونة الحكومة للتصدي لهذه الظاهرة والتخلص منها وطرد المومسات من بين أظهرهم، فتحت عنوان" لكل داء دواء فى الشريعة السمحاء" بين الكاتب العقاب الرباني الذي يحل على أمة فشى فيها البغاء، وانتشرت فيها هذه الظواهر، وبين المقال كيف يكون علاج هذه الظاهرة  من خلال شريعة الله(22).

وفي اليوم 20 فبراير عام 1949 أصدر الحاكم العسكري العام في مصر أمرا بإغلاق جميع بيوت الدعارة في البلاد، بالأمر العسكري رقم 76، بعد ان استطاع الوزير جلال فهيم وزير الشئون الاجتماعية إلغاء البغاء بقرار رسمي، ونص القرار على المعاقبة بالحبس ستة أشهر كل من عاون أنثى على ممارسة البغاء.

وبعد ثورة 1952 ورحيل الملك وبداية عصر الجمهورية، وفي سنة 1958 أصدر جمال عبد الناصر قرار بإلغاء الدعارة في سوريا ضمن حكومة الوحدة مع مصر وبذلك ينتهي البغاء الرسمي فيها.

 

وسائل عملية وسط المجتمع الأوربي

يظن من يحمل على عاتقه أن نشر الأخلاق تتطلب مجتمعا إسلاميا، لكن الداعية يدرك أنها تطلب مجتمعا انسانيا، يعرف حدود الفطرة.

وهذا ما جعل الإخوان في ألمانيا يحاولون علاج هذا الداء في هذا المجتمع الغير إسلامي، يقول أ/ مهدي عاكف: كان من المشكلات التي واجهتها في المركز الإسلامي بميونخ بألمانيا وجود بيت دعارة لا يفصله عن المركز إلا سور من النباتات، والنساء كن يقفن في النوافذ عرايا كما ولدتهن أمهاتهن، وينمن في الشمس عرايا، فرفعنا دعوى قضائية، وتضامن معنا أهل الحي، والبيت كان ثمنه 750 ألف مارك، فعرضنا على المحكمة شراءه، وجمعنا 250 ألفًا وبقي نصف مليون، حتى قام أحد الإخوة بدفع المبلغ وتم شراء المبني(23).

وهكذا استطاع الإخوان أن يقدموا واقع عملي لعلاج مشكلة تعاني منها جميع المجتمعات خاصة المجتمعات الإسلامية، والمواقع الإباحية التي غزت جميع البيوت لابد من حسن التعامل مع الأبناء وتعريفهم بمخاطرها وضررها على الفرد والأسرة والمجتمع.

 

المصادر

  1. رسالة التعاليم: مجموعة رسائل الإمام البنا، دار التوزيع والنشر الاسلامية، 2002م.
  2. عاصم الدسوقي: كبار ملاك الأراضي الزراعية ودورهم فى المجتمع المصري 1914-1952م –دار الثقافة الجديدة- 1975م- ص (319).
  3. جريدة الإخوان المسلمين: السنة الثانية، العدد 33 ، 6رمضان 1353هـ / 20ديسمبر 1934م، صـ15.
  4. جريدة الإخوان المسلمين : السنة الثانية، العدد 19 ، 4جمادى الثانية 1353هـ / 14سبتمبر 1934م، صـ7.
  5. مجلة لواء الإسلام: السنة 42 – العدد 12– غرة شعبان 1408هـ / 19مارس 1988م – صـ27.
  6. جمعة أمين عبدالعزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، الكتاب الثالث، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2003م.
  7. جريدة الإخوان المسلمين: السنة الثالثة، العدد 17 ، 7جمادى الأولى 1354هـ،صـ9.
  8. جريدة الإخوان المسلمين: السنة الخامسة، العدد 24 الموافق 16رمضان 1356هـ / 19نوفمبر 1937م.
  9. جريدة الإخوان المسلمين: السنة الثالثة، العدد 6 ، 18صفر 1354هـ / 1935م، صـ22.
  10. جمعة أمين عبدالعزيز: مرجع سابق، صـ390- 393.
  11. جريدة الإخوان المسلمين: السنة الثانية، العدد 33 / 6رمضان 1353هـ / 20ديسمبر 1934م.
  12. جريدة الإخوان المسلمين : السنة الثانية ،العدد 17 / جمادى الأولى 1353هـ / أغسطس 1934م.
  13. جريدة الإخوان المسلمين: السنة الرابعة، العدد 14 / 25ربيع الثاني 1355هـ / 14يوليو 1936م، صـ21.
  14. التعارف، العدد 10، السنة الخامسة، 12ربيع الأول 1359ﻫ/ 20أبريل 1940م، صـ 7، 12.
  15. مجلة النذير، العدد 2، السنة الأولى، 7ربيع الآخر 1357ﻫ/ 6يونيو 1938م، صـ14.
  16. مجلة النذير، العدد 32، السنة الثانية، 11شعبان 1358ﻫ/ 26سبتمبر 1939م، صـ5.
  17. مجلة النذير، العدد 19، السنة الثانية، 8جمادى الأولى 1358ﻫ/ 27يونيو 1939م، صـ11.
  18. التعارف: العدد 21، السنة الخامسة، 7جمادى الآخرة 1359ﻫ/ 13يوليو 1940م، صـ6.
  19. جمعة أمين عبدالعزيز: مرجع سابق، صـ180.
  20. المادة الثالثة - فقرة هـ،  قانون النظام الأساسي للإخوان المسلمين المعدل بقرار الجمعية العمومية بتاريخ 2 من شوال 1364 الموافق 8من سبتمبر 1945م، كتاب لوائح الإخوان، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، 2013م.
  21. جريدة الإخوان المسلمين اليومية: العدد 296 السنة الأولى/ 29 جماد أول 1366هـ/ 12/4/1947م، صـ2.
  22. جريدة الإخوان اليومية: العدد 357 السنة 2/ 12شعبان 1366 هـ, 1/7/1947 ، صـ2.
  23. مذكرات الأستاذ محمد مهدي عاكف، موقع العربي 21.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم