تصدى القابسي في رسالته "المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين"، إلى الكلام عن تعليم الصبيان من حيث أغراضه ومناهجه وطرق تدريسه وأماكنه ومراحله، كما تحدث عن بعض الأحكام الخاصة بالمعلم.
وفي هذه الرسالة تأثر بما كتبه ابن سحنون ونقل عنه نقلا حرفيا في بعض الأحيان، كما سبق أن أشرنا، كما نقل أيضا عن الفقهاء الذين أخذ عنهم ابن سحنون كابن القاسم وابن وهب إلا أن للقابسي فضل التوسع والاستفاضة في الأبواب والمعالجة.
التعريف بالقابسى
هو أبو الحسن علي بن محمد خلف المعافري المعروف بالقابسي، ولد بالقيروان سنة 324هـ، وبها تربى وتعلم وبها مات ودفن سنة 402هـ "1012م". ويرجع نسب القابسي على الأرجح إلى قرية المعافرين التي ينتسب إليها وكانت ضاحية من ضواحي تونس.
وكان القابسي عالما ضريرا فقيها ورعا، وله مؤلفات كثيرة تصل إلى 15 مؤلفا كلها في الفقه والحديث والمواعظ باستثناء واحد أفرده القابسي لشئون التعليم في الإسلام هي رسالته المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين. وقد صنفها في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري وضاع الأصل وبقيت منه نسخة.
الغرض من التعليم عند القابسي
يجعل القابسي من تعليم القرآن غرضا هاما لتعليم الصبيان، فالصلاة لا تتم إلا بقراءة شيء من القرآن وهي مفروضة على المسلمين لأنها ركن من أركان الدين، وهو يتفق مع غيره من علماء المسلمين في أن الغرض الأول من تعليم الصبيان هو معرفة الدين علما وعملا أو نظرا وتطبيقا وممارسة.
وجوب تعليم الصبيان
يتعرض القابسي للقول بضرورة تعليم جميع الصبيان فتعليمهم واجب وجوبا شرعيا، وهو يدلل على هذا الوجوب بوجوب معرفة القرآن والعبادات، وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ ولذا كان التعليم واجبا لأنه شرط معرفة القرآن والعبادات.
وهكذا نجد بذور فكرة التعليم الإجباري الإلزامي عند القابسي، وقد كان صريحا كما كان جريئا فيها، وقد استقر هذا المبدأ عند فقهاء المسلمين فيما بعد لآن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.
وتقتضي ضرورة تعليم الصبيان أن يكون الوالد مكلفا بتعليم ابنه بنفسه فإن لم يستطع فعليه أنه يرسله لتلقي العلم بالأجر فإذا لم يكن قادرا على ذلك قام بالتكليف أقرباؤه، فإذا عجز الأهل عن نفقة التعليم قام بها المحسنون أو قام معلم الكتاب بتعليم الفقراء احتسابا لوجه الله، أو دفع لهم الحاكم أجر تعليمهم من بيت المال.
تعليم البنت حق
يعترف القابسي بحق البنت في التعليم انطلاقا من أن التكاليف الدينية واجبة على الرجل والمرأة، وهو يتفق مع روح الإسلام الحقيقية التي جعلت من طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة على حد سواء، إلا أنه ذهب إلى عدم الخلط بين الصبيان والإناث لاعتبارات أخلاقية وينبغي أن تعلم البنت ما فيه صلاحها ويبعدها عن الفتنة.
الرفق بالصبيان
أقر القابسي مبدأ عقاب الصبيان لكنه يترفق معهم تمشيا مع روح الإسلام التي تتسم بالرحمة والعفو، وينزل المعلم من الصبي منزلة الوالد، وطالبه بأن يكون رفيقا به عادلا في عقابه غير متشدد فيه، ومن الرفق ألا يبادر المعلم إلى العقاب إذا أخطأ الطفل وإنما ينبهه مرة بعد أخرى فإذا لم ينتصح لجأ إلى العقاب.
وقد نهى القابسي عن استخدام أسلوب الحرمان من الطعام والشراب في العقاب، بل طلب من المعلم أن يترفق بالصبيان فيأذن لهم بالانصراف إلى تناول الغذاء من طعام وشراب ثم يعودون. وهذا يعني أن الدراسة بالكتًاب كانت تمتد إلى العصر. ونهى القابسي عن الانتقام في العقاب ولذا نهى المعلم عن ضرب الصبيان في حالة الغضب حتى لا يكون "ضرب أولاد المسلمين لراحة نفسه".
وأشار القابسي إلى اتباع أسلوب الترغيب والترهيب في معاملة الصبيان، فأقر الضرب كعقوبة إلا أنه اشترط لها شروطا من أهمها: لا يوقع المعلم الضرب إلا على ذنب، وأن يكون العقاب على قدر الذنب، وأن يكون الضرب من واحدة إلى ثلاث، ويستأذن ولي الأمر فيما زاد عن ذلك، وأن يقوم المعلم بالضرب بنفسه ولا يوكله لواحد من الصبيان، وأن يكون الضرب على الرجلين، ويتجنب الضرب على الوجه والرأس أو الأماكن الحساسة من الجسم، أن تكون آلة الضرب هي الدرة والفلقة، ويجب أن يكون عود الدرة رطبا مأمونا.
المعلم
اشترط القابسي في المعلم معرفة القرآن والنحو والشعر وأيام العرب إلى جانب شخصيته الدينية وسمعته الطيبة، وطالب المعلم بعدم الانشغال عن تعليم الصبيان وعدم طلب الهدايا منهم أو إرسال تلاميذهم في قضاء حوائجهم والحصول على طعام باسمهم في مناسبات الأفراح أو إحضار الطعام والحطب من بيوتهم.
ولا يجوز للمعلم أن يترك عمله للصلاة على الجنازة أو السير فيها أو عيادة المرضى أو حضور شهادة البيع والنكاح، وأن يأخذ المعلم أجرا نظير عمله إما مشاهرة أو مساناة.
وأعطى القابسي للمعلم سلطة كبيرة على الصبي تساوي سلطة الوالد، ولكنه حمل المعلم المسئولية والنتيجة النهائية لعمله، وليس له أن يعتذر عن فساد النتيجة بنقص سلطته أو إلقاء اللوم على الصبيان. ولهذا صح عقاب المعلم ومحاسبته على التقصير في أعماله، وقد يصل العقاب إلى حد منعه من الاشتغال بالتعليم.
.