Business

تربية اليتيم في ضوء القرآن الكريم

جاء القرآن؛ ليجمع القلبَ إلى القلب، ويضم الصفَّ إلى الصف، ويرسخ قيم المحبة والألفة، والرحمة والعدل، والترابط والتكافل في الأسرة والمجتمع؛ تثبيتًا للمبدأ العام: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وينشئ مجتمعًا قويًّا مترابطًا، لا يخاف فيه الضعفاءُ عامة، واليتامى خاصة، ضياعَ حقوقهم، وسلبَ أموالهم أو أكْلها بالباطل.

وفى هذه الدراسة التي أعدها الباحث: السيد مختار محمد، ألقي الضوء على مدى عناية القرآن الكريم البالغة باليتامى في جميع نواحي حياتهم، وكيف ربَّاهم القرآن ليجعل منهم عناصر قوة للمجتمع، ليتضح لكلِّ منصفٍ أن القرآن سبق كل أولئك المطالبين بإنصاف اليتامى؛ بل أعطاهم- بتشريعاته الشاملة- ما يعجِز عنه أيُّ تشريع سواه.

 

مَن هو اليتيم؟

اليتيم في كتب اللغة هو: الفرد من كل شيء، وكلُّ شيءٍ يَعِزُّ نَظيرُه، واليتيم من الناس: مَن فقَدَ أباه، واليتيم عند الفقهاء: مَن فقد أباه ما لم يبلغ الحُلُم، فإذا بلغ الحُلُم زال عنه اليُتم؛ قال النبي ﷺ: «لا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلامٍ».

وقد تعرَّضت الآيات في القرآن الكريم له في اثنتين وعشرين آية، ومَن تدبَّر هذه الآيات، وجدها مقسمة إلى أقسام ثلاثة:

القسم الأول منها: تعرَّض إلى بيان الإحسان إليه، والوصية به في شريعتنا والشرائع السابقة.

والقسم الثاني: تعرض إلى بيان حقوقه الاجتماعية.

والقسم الثالث: اعتنى ببيان حقوقه المالية.

 

الإحسان إلى اليتيم والوصية به

اليتيم وإن فقد أباه الذي يكفله، وفقد حنان الأب وعواطفه؛ لكنه لم يفقد الرحمة الإلهية، حيث إحاطته بالتشريعات التي تعتني به؛ قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء: 36]، وقال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]، وقال: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 14، 15]، وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220].

ورعاية اليتيم والمحافظة عليه لا تقتصر على الشريعة الخاتمة؛ بل كانت في الشرائع السابقة لشرعنا، فمن جملة مواد الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل: الإحسانُ إلى اليتامى؛ قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83].

 

اهتمام القرآن باليتيم من الناحية الاجتماعية

شرع له في هذا المجال ما يحقق رعايته كفرد فَقَدَ كفيلَه، فأوصى له بمن يبادله العطف والحنان، والتربية الصالحة؛ ليكون فردًا صالحًا، لا تؤثر على نفسيته حياة اليُتم، ولا تترك الوحدة في سلوكه انحرافًا يسقطه عن المستوى الذي يتحلَّى به بقية الأفراد، ممن يتنعم بحنان الأبوة وعطفها.

ولما كان النبي ﷺ قد نشأ يتيمًا، بيَّن الله- تعالى- له بأنه قد أنعم عليه، وكفله، وأغناه؛ فقال- تعالى-: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 6- 8]، وهذه الآيات الكريمة يُستنبط منها ما يحتاجه اليتيم في الحياة الاجتماعية، فهي بمجموعها تشكل بيان المراحل التي لا بد للأولياء والمجتمع من اجتيازها؛ فاليتيم يحتاج إلى: المسكن الذي يأوي إليه، والتربية الصالحة بما تشتمل عليه من تأديب وتعليم؛ حتى لا يقع فريسة للضلال، والمال الذي يُنفق عليه منه.

وقد جاءت آيات القرآن الكريم لتراعي اليتيم من الناحية النفسية والاجتماعية؛ لينشأ نشأة سويَّة، فأمرتْ بإكرامه والرفق به، ونهتْ عن قهره وزجره وإهانته؛ قال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [الضحى: 9]، وهذه الآية الكريمة خطاب للأمة في شخص النبي ﷺ.

 

اهتمام القرآن باليتيم من الناحية المالية

قد عُنيت الآيات في القرآن الكريم عناية عظيمة بالحقوق المالية لليتامى؛ حتى لا يكونوا عرضة للضياع ولسلب أموالهم، وشرعت لهم موارد كثيرة يأخذون منها المال، منها ما في قول الله- تعالى-: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} [البقرة: 177]، وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215].

وجعل لهم أيضًا نصيبًا غير محدد- جبرًا لخاطرهم- إذا حضروا قسمة الميراث، ولم يكن لهم نصيب من هذا الميراث؛ قال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 8]، سواء كان هذا النصيب على سبيل الوصية لهم من الميت، أو كان من الورثة؛ وهذا كله بالإضافة إلى ما يستحقه اليتامى من الزكوات إن كانوا فقراء أو مساكين.

 

هل الحفاظ على مال اليتيم يعني عدم تثميره ونمائه؟

رعاية اليتيم لا تقتصر على حفظ ماله وإيداعه، إلى أن يصل إلى حد البلوغ ليسلم إليه؛ بل ينبغي تثميره وتنميته؛ رعايةً لحق اليتيم، فالأدلة الواردة في رعاية اليتامى والإحسان إليهم ثبت فيها أنه إذا كان الترك للتصرف بأموالهم فيه ضرر ومفسدة، حَرُم ذلك؛ لأنه إتلاف لها وإفساد، وهذا ما لا يريده الشرع الحنيف؛ لذا يُستحبُّ تثمير مال اليتيم وتنميته، عن طريق التجارة، أو الزراعة، أو أي تصرف يعود عليه بالنفع والنماء، وهذا من التصرف الحسن الذي أقرَّه قول الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152- الإسراء: 34]، وهو أيضًا من الإصلاح المذكور في قوله – تعالى-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220].

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم