وقفات مع رحيل رمضان.
العبد له في أيام دهره نظرات، يتطلع فيها لرحمات الله تبارك وتعالى، وينتظر فيها فرجه ومدده وحسن عطائه لمن أطاعه، وصبر على أوامره، وابتعد عن نواهيه، أما الغافل قليل العلم والصبر ضعيف الطاعة والاتباع فهو متبع لهواه غير متفكر في آلاء الله ونعمه، ولا يُعمل حواسه في تدبر الكون وعظمته ليحصل اليقين في القلب؛ فتنقاد الجوارح للحق ويحسن حال البدن.
ومع رحيل شهر رمضان، أعدّ الباحث عبد العزيز مصطفى الشامي، ليذكّر بهذه الوقفات السريعة والمهمة.
الوقفة الأولى: الانتباه للعمر والحذر من الدنيا
إن عمر الإنسان هو كنزه الحقيق ورأس ماله، وإن تضييعه والتفريط في ساعاته وأيامه لمن الغبن والخسار الذي يقع فيه كثير من الناس، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ».
لذلك فمن الأمور المهمة التي ينبغي أن يقف معها العبد مع رحيل رمضان وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل». وكان ابن عمر يقول إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. فالنبي صلى الله عليه وسلم يوصي عبد الله بن عمر وهو من آخر الصحابة موتًا، يوصي شابًا في العشرين من العمر بقصر الأمل والحذر من الدنيا.
الوقفة الثانية: الجمع بين الإحسان والخوف
قال ابن القيّم- رحمه الله-: «إذا أراد الله تعالى بعبد خيرًا سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه، والإخبار بها من لسانه، وشغَله برؤية ذنبه؛ فلا يزال نصب عينيه حتى يدخل الجنة؛ فإن ما تُقبِّل من الأعمال رُفع من القلب رؤيته، ومن اللسان ذكره».
وقال بعض السلف: إن العبد ليعمل الخطيئة فيدخل بها الجنة، ويعمل الحسنة فيدخل بها النار. قالوا: كيف؟ قال: يعمل الخطيئة، فلا تزال نصب عينيه، إذا ذكرها ندم واستقال وتضرع إلى الله، وبادر إلى محوها، وانكسر وذلك لربه، وزال عنه عُجبه وكبره، ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه يراها ويَمُن بها ويعتد بها، ويتكبر بها حتى يدخل النار.
وثبت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه أنها قالت: قُلتُ يا رسول الله {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: «لا يا بنت أبي بكر، أو لا يا بنت الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق وهو يخاف ألا يُقبل منه».
الوقفة الثالثة: علامة القبول
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «في القلب فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة لا يسدها إلى فوزه بحصول الغنى بحب الله الذي إن حصل للعبد؛ حصل له كل شيء، وإن فاته؛ فاته كل شيء، فكما أنه سبحانه الغني على الحقيقة ولا غني سواه، فالغني به وبحبه هو الغني في الحقيقة، ولا غنى بغيره ألبتة، فمن لم يستغن به زالت عنه كل حسرة وحضره كل سرور وفرح، والله المستعان».
وقال رحمه الله مبينًا حال الصالحين الصادقين المداومين على الطاعة: (ومن علامات الصادقين: التحبب إلى الله بالنوافل والإخلاص في نصيحة الأمة، والأنس بالخلوة والصبر على مقاساة الأحكام، والإيثار لأمر الله، والحياء من نظره، والتعرض لكل سبب يوصل إليه..).
وعليه فإن أبيَن علامة على القبول هي استمرارُ العبد على الخير والعمل الصالح بعد رمضان. قال بعضهم: (ثوابُ الحسنة الحسنةُ بعدها، فمن عمل حسنة ثم أتبعها بحسنة بعدها كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى، كما أن من عمل حسنة ثم أتبعها بسيئة كان ذلك علامة رد الحسنة وعدم قبولها).
الوقفة الرابعة: بماذا نختم شهرنا؟
أمر الله عباده أن يختموا أعمالهم العظيمة بالاستغفار والتوبة، فبعد كل صلاة استغفار، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا، وقال: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام). قال الوليدُ: فقلت للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: تقول أستغفر الله، أستغفر الله.
والحاج بعد نزوله من عرفة يلزم الاستغفار قال الله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199].
بل إن الله تبارك وتعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يختم عمره المبارك بالاستغفار، فقال جل وعلا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر: 1- 3].
.