إن المتأمَّل في أحوال العالم يرى شيوع الفواحش بشكل لا يُنكره أحد، بل لقد أضحت صناعة الفاحشة من أكبر الصناعات، وأهلها من أكبر الأثرياء اليوم تحت غطاء الفن، وبسبب التطور الهائل في وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات وتطوُّر الفضائيات، أصبح لأهل الفاحشة الآن وأبناء التعري ألقابٌ وهالاتٌ؛ فهذا فنان قديرٌ، وهذه راقصةٌ كبيرة، وتلك أم المسرح، والأخرى ثروةٌ قوميةٌ؛ مما جعل منهم قدوة للكثير من الشباب والفتيات... وإنَّا لله وإنا إليه راجعون!
إن هذا الواقع المؤلم جعل الأستاذ الدكتور فؤاد محمد موسى، يتلمَّس أسباب هذا الفشل، وكيفية علاجه في: «التربية الناجحة للعفَّة في القصص القرآني في قصة موسى مع بنتَي صاحب مدين»، وهو شعيب عليه السلام كما هو شائع، وهو هنا لا يسرد القصة كاملة، ولكن يقف على نجاح تربية العفة عند الفتاتين في هذه القصة.
خروج الفتاتين وقيامهما بالعمل
لقد خرجت الفتاتان وقامتا برعي وسقي الأغنام في بيئة رعوية مفتوحة، بها الكثير من الرُّعاة الآخرين، ولم يمنعهما من ذلك أنهما فتاتان، وفي نفس الوقت تحافظان على نفسيهما في وسط هذا الخضمِّ من الناس والجلبة، وهذا هو المقياس الحقيقيُّ للحفاظ على العفة؛ فالتربية على العفة في بيئة تخالف بيئةَ المجتمع الحقيقيِّ تكون تربية غير ناجحة في الغالب، وبمجرد خروج الفتاة إلى المجتمع الحقيقي بعد التربية في بيئة مغلقة أو مصطنعة لا تستطيع مواجهة المشكلات والمغريات التي تواجهها في الواقع الحقيقي، وهذا ما نلاحظه الآن في مجتمعاتنا.
فليس هناك مانع من خروج المرأة للعمل، ولكن بضوابط منهج الإسلام.
تعامُل الفتاتين مع غيرهما من الرجال
لقد امتنعت الفتاتان عن مزاحمة الرجال في سقي الأغنام، ولم تطلبا من أحد من الرعاة أن يسقيَ لهما؛ حيث لم يجدا فيهم من يطمئن قلباهما له، أو يَثِقْنَ فيه للتعامل معهما، فكانت عزلتهما عن الرعاة لحين انصرافهم، ولو وَجَدا من الرعاة من هو في خُلق موسى لفعلا معه ما فعلاه مع موسى عليه السلام، ولكن عندما تقدَّم إليهما موسى، وسألهما عن سبب وضعهما هذا، لم يتردَّدا في التحدث معه والاستجابة لتطوعه ليسقي لهما، فقد استشعَرا فيه الخُلق القويم من مجرد حديثه معهما، فتفاعلا معه بنفس الخلق في الحديث والتجاوب في العمل، وهذا هو خلق الإسلام.
فالإسلام لا يمنع النساء من التعامل مع الرجال لتحقيق أهداف نبيلة في الحياة بمنهج الله ولله.
إرسال والد الفتاتين إحدى ابنتيه إلى موسى
لقد أرسل الرجلُ الصالح إحدى ابنتيه إلى موسى؛ لتدعوه إليه، والعجيب أنه لم يرسل الفتاتين معًا وهو الرجل الصالح، ولو كان في هذا التصرف خللٌ خلقيٌّ، لبيَّنَه لنا الله حتى نتجنَّبه، وهذا يدل على عدم حرمة تعامل الرجال مع النساء بمنهج الله، كما أن هذا الموقف يدل على ثقة هذا الرجل في تربيته لابنته على العفة والخلق الكريم، وثقته فيما أبلغه بنتاه عن موسى، وقد تكون نيته في إرسال فتاته هذه بمفردها تزويج موسى عليه السلام منها، كما ذكر بعض المفسرين، وهذا هدف حياتي نبيل فيه طهارة للبيت المسلم.
سلوك الفتاة مع موسى عليه السلام عند عودتها إليه
لقد كان في مظهر الفتاة ومشيتها ما أشاد به ربُّ العزة في قوله: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص: 25]، ما أجملَ هذا التعبير الربانيَّ لوصف جمال عفة هذه الفتاة! إن رب العزة الخالق البارئ المصور هو الذي يصف ويقول، الذي أحسن كلَّ شيء خلقه، فهو خالق هذه الفتاة، وهو الذي يشيد بها، أيُّ عفة هذه؟!
وعندما حدَّثت الفتاةُ موسى، كان حديثُها معه بأمر من أبيها، ولهدف محدد، وبأسلوب واضح لا لبس فيه ولا خنوع، وهذا هو المطلوب في تعامل النساء مع الرجال في واقع الحياة.
طلب إحدى الفتاتين من أبيها أن يستأجر موسى عليه السلام
عندما جاء موسى عليه السلام إلى والد الفتاتين وقَصَّ عليه أحواله، طلبت إحدى الفتاتينِ من أبيها أن يستأجره: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص: 26] دون أن تتردَّد ولا تتلعثم، ولا تخشى سوء الظن والتهمة، فهي بريئة النفس، نظيفة الحس، وهي ذات رأيٍ وفكر في حل المشكلات الحياتية بواقعية، وتعرض اقتراحها على أبيها وتشاركه همومه بإيجابية، إنها تحل مشكلتها وأختها حيث تعانيان من رعي الغنم، ومن مزاحمة الرجال على الماء، وتحل مشكلة موسى عليه السلام أيضًا، من أجل أن يجد له مأوى ومعاشًا، وقد تعبر أيضًا عن رغبتها في موسى عليه السلام للزواج منه على منهج الله ولله.
طلب الأب من موسى أن يزوجه إحدى ابنتيه
لقد استشعر الوالد رغبةَ ابنته في الزواج من موسى عليه السلام، فلم يتردد في تحقيق ذلك؛ لما وجد من صلاح موسى عليه السلام، وحل كثير من مشكلات الحياة للأطراف المختلفة، له ولابنتيه ولموسى بهذا الزواج، إنها الحياة بما فيها من مشكلات متداخلة، ومطلوب حلها بمنهج الله ولله: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } [القصص: 27]، إنه لم يتردد في طلب ذلك من موسى عليه السلام، ولم يخجل من ذلك، ولم يعتبره عيبًا أخلاقيًّا، كما هو الحال بمقياس الكثير الآن، بل إن العيب والخجل هو الخروج على منهج الله.
إن في تحقيق هذا الطلب تحقيقَ العفة لابنتيه ولموسى عليه السلام، وتطبيقًا لمنهج الله في الواقع الحياتي، فهذا هو النجاح في الدنيا والآخرة.
طلب الأب من موسى أن يَأجُرَه مقابل زواجه من ابنته
قال الرجل الصالح لموسى عليه السلام: كلُّ ذلك بشرط أن تكون أجيرًا لي ثماني سنين، ترعى فيها غنمي: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27]؛ أي فإن أكملتها عشرَ سنين فذلك تفضُّل منك، وقد يظن البعض أن في هذا الطلب (طول المدة) إجحافًا وغبنًا لموسى عليه السلام، ولكن بالرجوع إلى حالة موسى عليه السلام، نجد أنه طريد، وليس له مكان يَأويه ويشعر فيه بالأمان، ومن ثم فإن طول مكوثه مع هذا الرجل الصالح، وزواجه من ابنته = فيه الأمان والراحة النفسية له، ففي هذا مصلحة لكل الأطراف، وحل واقعيٌّ لمشكلاتهم معًا.
.