شاءت إرادة الله تعالى أن يكون نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أبًا للبنات دون البنين، فأبوة الرسول لبناته ورقي معاملته يعد حدثًا جديدًا في حياة المرأة، وفي هذا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرًا، حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم».
وفى دراسة بعنوان: «تربية النبي ﷺ لبناته»، للدكتورة نسرين بنت عطية بن إبراهيم الزهراني- جامعة أم القرى- السعودية، اختزلت تربية الأب المثالي للبنات في شخصية النبي ﷺ الكريم ﷺ ، فلا يوجد أروع من تلك الشخصية ولا أكمل منها على الإطلاق، فهو خير البشر على وجه الأرض، وهو نموذج حي لكل من رُزق بالبنات، فقد كان صلى الله عليه وسلم أبًا لبنات أربع، خرجن إلى الدنيا في أكرم بيت.
الجانب الإيماني
اهتم النبي ﷺ بتغذية الجانب الإيماني لدى الأمة بشكل عام ولدى بناته وزوجاته بشكل خاص، حيث بدأ النبي ﷺ بأهل بيته وذويه، وذلك اشتغالًا بالأهم، وهو أن يبدأ المربي بعد تكميل نفسه بتكميل أهله، ومما يدل على حرص النبي ﷺ على البدء بأهل بيته وبناته وخاصته، الحديث التالي:
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «دخلَ عليَّ رسولُ اللَّهِ وعلى فاطمةَ منَ اللَّيلِ، فأيقظَنا للصَّلاةِ ثمَّ رجعَ إلى بيتِهِ فصلَّى هُويًّا منَ اللَّيلِ فلم يسمَع لَنا حسًّا فرجعَ إلينا فأيقظَنا، فقالَ: قوما فصلِّيا. قالَ فجلَستُ وأنا أعرُكُ عيني وأقولُ: إنَّا واللَّهِ ما نصلِّي إلَّا ما كَتبَ اللَّهُ لَنا، إنَّما أنفسُنا بيدِ اللَّهِ فإن شاءَ أن يبعثَنا بعثَنا، قالَ: فولَّى رسولُ اللَّهِ وَهوَ يقولُ ويضربُ بيدِهِ علَى فخذِهِ: ما نصلِّي إلَّا ما كتبَ اللَّهُ لَنا، وَكَانَ الْإِنْسَانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا».
الجانب الاقتصادي
حرص النبي ﷺ على مراعاة هذا الجانب من خلال اليسر في صداق بناته، ومن خلال اليسر في وليمة العرس، حيث كان زواج بناته رضي الله عنهن مظهر من مظاهر التيسير وعدم التكلف بلا داع، فلم يكن ليتعب أصهاره، وفيما يلي دليل ذلك:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عليًّا قال: «تزوجت فاطمة رضي الله عنها فقلت يا رسول الله: ابن بي، قال أعطها شيئًا، قلت ما عندي من شيء، قال: فأين درعك الحطمية؟، قلت: هي عندي، قال: فأعطها إياه»، وفي ليلة زواج فاطمة رضي الله عنها قال رسول الله: «يا عليّ لابد للعروس من وليمة، فقال سعد: عندي كبش، وجمع له رهط من الأنصار آصعا من ذرة، فلما كان ليلة البناء، قال: لا تحدث شيئًا حتى تلقاني، قال: فدعا رسول الله بإناء فتوضأ فيه ثم أفرغه عليٌّ عليه ثم قال: اللهم بارك فيهما، وبارك عليهما، وبارك لهما في نسلهما».
الجانب النفسي
راعى النبي ﷺ هذا الجانب في تعامله مع بناته، ويتجلى ذلك بالتأمل في المعاني التالية بأدلتها الشاهدة من تربيته:
- استشارته لبناته قبل تزويجهن:
اهتم النبي ﷺ برأي ابنته واستشارتها حال خطبتها، حتى تشعر البنت بكيانها وأهميتها، وتبدي رأيها في الرجل الذي ستنتقل إلى بيته، وهذا أدعى لدوام السعادة والوفاق بين الزوجين، لاقتناع كل من الطرفين بصاحبه، وتمهيدًا لحياة ملؤها المودة والرحمة.
رُوي أن أم عياش خادمة النبي ﷺ دخلت إلى السيدة أم كلثوم تدعوها للقاء النبي ﷺ لأخذ رأيها في أمر الزواج من عثمان؛ فلما أطرقت صامتة حياء من النبي، عرف أنها ترى ما يراه، فقال النبي ﷺ لعثمان: «لو أن عندي عشرًا لزوجتكهن واحدة بعد واحدة فإني عنك راضٍ».
- احترام البنت وإعطاؤها قدرها في المجلس
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشي النبي ﷺ، فقال صلى الله عليه وسلم: مرحبا يا بنتي، ثم أجلسها عن يمينه، أو عن شماله ثم أَسَرّ إليها حديثًا فبكت، فقلت لها: لم تبكين. ثم أسرّ إليها حديثًا فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحًا أقرب من حزن. فسألتها عما قال، فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله، حتى قُبض النبي ﷺ، فسألتها فقالت: أسر إليّ أن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي وإنك أول أهل بيتي لحاقًا بي فبكيت، فقال: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة، أو نساء المؤمنين فضحكت لذلك».
ومن الفوائد التربوية المستنبطة من الحديث: ضرورة الاقتداء بالنبي ﷺ في احترام الأب لابنته، وإظهاره البشر والفرح بزيارتها، فقد كان النبي ﷺ يكرم فاطمة حين تزوره وذلك بالقيام لها وإجلاسها مكانه أو بجانبه ويفرح برؤيتها. واختصاص البنت ببعض الحديث لإدخال السرور إلى نفسها وذلك أمام جمع من أزواجه. واهتمام النبي ﷺ بالبنت ومحاولة تسليتها وترك ما يحزنها.
- قبوله طلب ابنته وعدم ردها وقبول إجارة من أجارته
دخل أبو العاص بن الربيع على زينب بنت رسول الله ﷺ واستجار بها، خرج رسول الله إلى الصبح فلما كبر في الصلاة صرخت زينب أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع، فلما سلم رسول الله من صلاته قال: أيها الناس، هل سمعتهم ما سمعتُ؟ قالوا: نعم، قال: أما والذي نفس محمد بيده ما علمت شيء مما كان حتى سمعت منه ما سمعتهم، إنه يجير على المسلمين أدناهم، ثم دخل رسول الله على زينب فقال: أي بنية، أكرمي مثواه ولا يقربنك فإنك لا تحلين له ولا يحلك».
لم تكن مراعاة النبي ﷺ لمشاعر بناته محصورة أثناء وجودهن في بيته أمام ناظريه وتحت رعايته، بل كان يطمئن على راحتهن وهن في بيت الزوجية ولا يسمح بما يؤذي مشاعرهن أو يعرضهن للضرر في دينهن ومما يدل على ذلك:
أن المسور بن مخرمة قال: إن عليًّا خطب بنت أبي جهل، فسمعَت بذلك فاطمة، فأتت رسول الله فقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك: وهذا علي ناكح بنت أبي جهل: فقام رسول الله فسمعته حين تشهد يقول: «أما بعد، أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني وصدقني، وإن فاطمة بضعة مني وإني أكره أن يسوءها، والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد فترك علي الخطبة».
- اهتمامه بأصهاره ومدحه وثنائه
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «دخلت على رقية بنت رسول الله امرأة عثمان، وبيدها مشط، فقالت: خرج رسول الله من عندي آنفًا، رجّلت رأسه، فقال لي: كيف تجدين أبا عبد الله، قلت: بخير، قال: أكرميه فإنه من أشبه أصحابي بي خلقًا»، ولما ماتت أم كلثوم قال النبي: «لو كان عندي ثالثة لزوجتها عثمان».
1- حملهم والعناية بهم: عن أبي قتادة الأنصاري قال: «خرج علينا النبي ﷺ عليه السلام وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه، فصلى فإذا ركع وضع، وإذا رفع رفعها».
2- إعطاؤهم حقهم في اللعب: عن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: «خرج علينا رسول الله في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حسنًا أو حسينًا، فتقدم رسول الله ﷺ فوضعه، ثم كبر للصلاة فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسوله الله وهو ساجد فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله الصلاة قال الناس: يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر.. قال كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته».
الجانب الاجتماعي
من مظاهر اهتمام النبي ﷺ بالجانب الاجتماعي عنايته بأسرة بناته، فعن سهل رضي الله عنه قال: «ما كان لعلي رضي الله عنه اسم أحب إليه من أبي تراب، وإن كان ليفرح به إذا دُعي به: جاء رسول الله بيت فاطمة، فلم يجد عليًا في البيت: فقال: أين ابن عمك؟ فقالت: كان بيني وبينه شيء، فغاضبني. فخرج فلم يَقِل عندي، فقال رسول الله لإنسان: أنظر أين هو؟ فجاء، فقال: يا رسول الله، هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شقه، فأصابه تراب، فجعل رسول الله يمسحه عنه، ويقول: قم أبا تراب قم أبا تراب».
النتائج
- أن في بدء النبي ﷺ في الدعوة والتربية بأهل بيته وذريته وذويه اشتغالًا بالأهم ثم المهم.
- تثبيت فؤاد النبي ﷺ لبناته وحثهن على الصبر والتسليم لقضائه حين وقوع المصيبة.
- تسلية النبي ﷺ لبناته وتذكيرهن بأجر الآخرة.
- حرص النبي ﷺ على مراعاة الجانب الاقتصادي من خلال اليُسر في الصداق.
- تعاون النبي ﷺ مع أصهاره في تيسير الزواج يُظهر مدى حبه وشفقته عليهم، وعدم تكليفهم ما لا يطيقون.
- استشارة النبي ﷺ بناته عند تزويجهن يبين مدى اهتمامه برأي ابنته واحترامها، وحرصه على اختيارها وإسعادها.
- أن نتائج التربية الصالحة تظهر على الأبناء، فالله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
- مراعاة النبي ﷺ لمشاعر بناته ومشاركتهن، سواء في فرحهن أو حزنهن رضي الله عنهن.
- إنصاف النبي ﷺ أزواج بناته، بالرغم من خطأ بعضهم وحربه قبل إسلامه.
- أن في إكرام الأب لابنته دلالة على محبتها ورفعة لشأنها عند زوجها.
- أن في إكرام الأب لأولاد بناته دلالة على محبته لهم وجبرًا لهم ولأمهاتهم.
.