أمهات على خط النار

 

المرأة في كل زمان ومكان تتشابه مكوناتها وصفاتها مع بعضها، غير أن ما يميز امرأة عن أخرى هي التربية التي أثقلتها والتجارب التي عايشتها فبرزت فيها معاني التربية الصالحة فجعلت منها نموذجا كالنجوم في سماء الهداية.

إن معدن الزوجة الصالحة يظهر وقت الأزمات ومن هذه النماذج زوجة الأستاذ أحمد البس، ففي الفترة التي اعتقل فيها زوجها ومكث بالسجن عامًا ونصف عام من 5 فبراير 1949م، الموافق 20 شعبان 1369ﻫ حتى 6 يونيو 1950م، كانت نعم الزوجة الصابرة المحتسبة حيث قامت على تربية أطفالها فأحسنت تنشئتهم وكانت طوال فترة اعتقاله نعم الزوجة العفيفة التي- رغم ضيق ذات اليد- لم تطلب المساعدة من أحد وتمثلت بقوله تعالى: ﴿لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 273]، وبعد أن خرج زوجها وجدها صابرة راضية بقضاء الله وقدره والأولاد فى أحسن حال لكنه لم يمكث كثيرا حتى اعتقل ثانية يوم الأربعاء 13 يناير 1954م مع فئة قليلة من إخوانه كان على رأسهم المستشار الهضيبي المرشد العام للإخوان وظلوا داخل المعتقل حتى أفرج عنهم يوم 26 مارس 1954م لكن ما كاد يخرج حتى استشعر بأن الحكومة وعبد الناصر يخططان لتوجيه ضربة قوية ضد الإخوان فأخبر زوجته بأحاسيسه وقرر على إثر ذلك المبيت خارج البيت كل يوم فلم تجزع لذلك وكانت متمثلة بقول رسول الله: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» (حديث متفق عليه عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما)، وصدقت مشاعره فوجه عبد الناصر ضربته للإخوان بعد حادثة المنشية وعلى إثرها اختفى الأستاذ البس حتى اعتقل بعد عشرة أشهر ولم يعد لبيته منذ خروجه حتى 14 يناير 1973م الموافق 10 ذو الحجة 1393ﻫ- أي ما يقرب من ثمانية عشرة عامًا- لكنها استطاعت فى خلال هذه الفترة أن تتولى رعاية أولادها.

لكن كيف عاشت الزوجة وأولادها هذه الفترة؟

وكيف ربت أبناءها؟

وكيف كانت تتحصل على المال فى ظل التضييق الذي فرضه عبد الناصر على بيوت الإخوان؟

يجيب الأستاذ البس على ذلك بقوله: (لما دخلت السجن عام 1954 أيام عبد الناصر وحكم على بالسجن عشرون عاما. فصلت من عملي كمدرس ولم يبق لأسرتي مصدر للدخل من راتبي الذي قطع عنهم وبعد مدة طويلة من السجن سمح لأهالينا بزيارتنا في السجن وجاءت زوجتي ومعها أبنائي وبناتي مظهرهم طيب وملابسهم قيمة فبعد أن سلمت على زوجتي (رحمها الله) وقبلت يدي سألتها عن مصدر الأموال التي تعيشون بها قالت وبغير تردد: فضلت خيرك يا حاج نبيع الأرض ونصرف على البيت فشجعتها على ذلك وقلت لهاـ بيعي كما تريدين المهم أن تعيشي أنت والأولاد مبسوطين (وكنت أظن ساعتها أنها تبيع من الأرض التي ورثتها أنا عن أبى) وظللت كل زيارة أسالها عن الفلوس هل تكفيكم وهى في كل مرة تقول: الحمد لله فضلت خيرك يا حاج. ثم يستطرد قائلا في أوائل السبعينيات: وخرجت من السجن دون أن تعلم أسرتي بساعة خروجي، وسافرت من القاهرة إلى طنطا حيث توجهت إلى منزلي. فوجئت بي زوجتي فطارت فرحا وقبلت يدي كما تعودت، وبعد سلامي على أولادي. طلبت مني أن أدخل إلى حجرة النوم لأستريح بعض الوقت الذي ستقوم خلاله هي بإعداد طعام لي وعندما دخلت حجرة نومي وجدت حصيرًا وغطاء على أرض الغرفة، سألتها وأنا في غاية الدهشة أين سريرك النحاس يا حاجة؟ أين السراحة؟ أين الكمودينو؟ فنظرت إلي بابتسامة وكأنها تواسيني وتقول: كله يرجع في عزك يا حاج، وإذا بي أراها تضع طبلية خشب على الأرض عليها أطباق بلاستيك كل طبق من لون مختلف سألتها أين حجرة السفرة وأطباق الصيني بتاعتك يا حاجة؟ قالت: كله يرجع في عزك يا حاج، وعندما ألححت عليها أن تقص لي ما حدث حدثتني أن أهلي لم يوافقوا على بيع أرضي للإنفاق على أسرتي (لأنه في الريف من العيب أن يبيع الرجل أرضه فيعيره أهل البلد بذلك)، فقامت هي ببيع أرضها التي ورثتها عن والدها وقامت بإنفاقها على البيت والأولاد، وبعد أن باعت أرضها كلها بدأت ببيع أثاث البيت حتى وصل الحال إلى ما رأيت، ووالله ما عانيت يوما ولا امتنّت عليّ يوما بما فعلت وذلك أثناء غيابي في السجن، وقمت بحمد الله بعد خروجي بشراء أثاث للبيت وشراء الذهب الذي كانت تقتنيه وباعته من أجل بيتي وأولادي).

ولكن كل ذلك لم يعلم به أحد ولم يصل إلى ذل النفس ومد اليد، كل هذا الخير صنعتها هذه الزوجة الكريمة رغم تقصير كثير ممن كان يمكن أن يساعدوا من غير أن يجرحوا كرامتنا؛ لأنهم أهلنا ولكن الله أراد محنتي مصحوبة بالعزة والكرامة ولا يكون لأحد فضل عليّ إلا الله جل وعلا.

زوجة الأستاذ أحمد البس هي كريمة الشيخ (سليم إبراهيم رامون)، وقد ولدت فى قرية جناح بالقرب من مركز بسيون بمحافظة الغربية بمصر، وتزوجت منه عام 1940م ورزقهما الله البنين والبنات فكانت له نعم الزوجة الصالحة والمعين على طريقه وبالرغم من كثرة المحن التي تعرضوا لها إلا أنها كانت صابرة وراضية على قدر الله، وما كاد زوجها يخرج عام 1973م حتى كانت تنتظرها مفاجآت جعلتها شاكرة حامدة لله رب العالمين وظلت كذلك حتى توفاها الله أواخر سبعينيات القرن الماضي.

وزوجها الحاج أحمد البس ولد عام 1915م وهو أحد الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين ولد في قرية القضابة مركز بسيون بمحافظة الغربية بمصر. وكان عضوا بمجلس الشعب المصري في الدورة البرلمانية (1987-1990)، التحق بالإخوان عام 39م اعتقل عام 48م و54م وشاهد على مذبحة طرة 56م، وتولى رئاسة الجمعية التربوية الإسلامية، كان أحد رجال النظام الخاص ومسئول مكتب إداري الغربية ثم عضو مكتب الإرشاد حتى توفي عام 1992م.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم