Business

الحسد.. أسبابه وعواقبه والعلاج

الإسلام نظام شامل لجميع مناحي الحياة الإنسانية ويغطي سائر الجوانب فيها، وقد اعتنى الوحي الكريم ببيان الرذائل من الأعمال، التي تعبر عن مرض نفسي وعلة دفينة، تعتري نفس الإنسان، فتنغِّص عليه حياته وتكدِّر صفوه، وتجعله يعيش جحيمًا لا يطاق.

وفى دراسة بعنوان: «الحس وأثره التربوي السيّئ على عقيدة المسلم»، للدكتور نصر محمد الكيلاني، رئيس قسم العقيدة بكلية أصول الدين، بجامعة أم درمان الإسلامية.. يتناول الحسد، حقيقته ومراتبه؟ وما وجه خطورته على إيمان المسلم وعقيدته في دنياه وآخرته؟ وما هو السبيل إلى علاجه بالنسبة للحاسد والمحسود على السواء؟

 

تعريف الحسد، ومراتبه، وأسبابه

يقول أهل اللغة: حسَدَه يحسِدُه ويحسُدُه وحسَّدَه: إذا تمني أن تتحول إليه نعمته وفضيلته، أو يسلبهما هو؛ والحسد بمفهومه الشرعي لا يخرج عن تعريف أهل اللغة إذ هو: تمني زوال نعمة الغير، وتمني عدم حصولها للغير شحًا عليه بها، وتمني صيرورتها إلى النفس مع السعي لإزالتها عن الغير.

ولقد تنوعت تعريفات علماء الإسلام للحسد على تشابه كبير بينها، ولعل أرجحها لدي وأكثرها شمولًا تعريف الجاحظ حيث يقول: «الحسد هو التألم بما يراه الإنسان لغيره، وما يجده فيه من الفضائل والاجتهاد في إعدام ذلك الغير ما هو له، وهو خلق مكروه وقبيح بكل أحد».

ولقد أورد الإمام الغزالي رحمه الله للحسد أسبابًا وهي تتلخص في الآتي:

  1. العداوة والبغضاء: وهو أشد الأسباب، قال تعالى: {ودُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ومَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118].
  1. التعزز: وهو أن يثقل على الإنسان أن يترفع عليه غيره، فهو قد يرضى بمساواته مثلًا ولكن لا يرضى بترفعه عليه.
  2. الكِبر: وهو أن يكون في طبعه أن يتكبر على المحسود ويستصغره ويستخدمه، ويتوقع منه الانقياد والمتابعة في أغراضه.
  3. الخوف من فوت المقاصد: وهو يختص بمتزاحمين على مقصود واحد. ومن هذا الجنس تحاسد الضرّات في التزاحم على مقاصد الزوجية.
  4. حب الرياسة وطلب الجاه: كالذي يريد الشهرة والمكانة في فن من الفنون.
  5. خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله: فهذا النوع همه أبدًا حب الإدبار والتأخر لغيره، والبخل بنعمة الله على عباده.

 

مخاطر الحسد وأثره السلبي على إيمان المسلم ودينه

الحسد لا يجتمع مع الإيمان في قلب واحد، فالقلب المملوء بالحسد خالٍ من الإيمان، والحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب. وقد أقرّ رسول الله ﷺ هذه الحقيقة في الحديث الذي رواه أبو هريرة عنه قال: «لا يَجْتَمِعَانِ فِي النَّار مسلمِ قَتَلَ كَافِرًا ثُمَّ سَدَّدَ وَقَارَبَ، وَلا يَجْتَمِعَانِ فِي جَوْفِ مُؤْمِنٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَفَيْحُ جَهَنَّمَ، وَلا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ الإِيمَانُ وَالحَسَدُ».

والحسد أول معصية وخطيئة عُصيِ بها الله عز وجل في السماء، حيث عصاه إبليس– عليه اللعنة– بعدم السجود لآدم؛ حسدًا منه وتكبرًا على ما حبا الله به آدم من مكانة وعلم. قال تعالى: {وإذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاَّ إبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء: 61- 62].

والحسد أول معصية وخطيئة عصي الله بها في الأرض، حيث حَسد قابيل أخاه هابيل– وهما ابنا آدم عليه السلام– لأن الله تقبل من أخيه قربانه ولم يتقبل منه، فأقدم على جرم أفظع، وهو قتل أخيه هابيل. قال تعالى: {واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا ولَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ..}.

إن من حسد أخاه المؤمن فقد نقض رباط الأخوة في الله والإيمان بينهما، وفسخ عقد الموالاة والنصرة معه، وهذا فيه إضعاف لصف الجماعة المؤمنة وانتهاك لنصوص صريحة بالترابط والتوحد بين الجماعة المسلمة، وحفظ جهد الأفراد من التشرذم والتفتت، ووجوب الانصهار في جماعة واحدة موحدة متوالية ومتناصرة على الإيمان والدين والشريعة، يتعاون أفرادها على البر والتقوى وحب الخير بعضهم لبعضٍ.  

ومما يسلب الحاسد إيمانه أنه لا يؤمن بقضاء الله وقدره، فهو يتسخط على حكم الله ومراده ومشيئته في تفضيل بعض عباده على بعض، إذ إن من البدهيات التي تقرها عقيدة المسلم وتسلم بها أن الله تعالى قد خلق خلقه وليس له في ذلك شريك، وقسَّم لهم الأرزاق، وأجرى لهم الحظوظ في علمه الغيبي وفق حكمة يعلمها هو، وعلّم جزءًا منها عبادة، فجعل من الناس غنيًا وفقيرًا، وطويلًا وقصيرًا، وصحيحًا وسقيمًا... ليبلوَ عبادَه أيهم أحسن عملًا، ويعلم المجاهدين منهم والصابرين، وليعيش الناس سنّة التدافع بين المتناقضات في الكون للمحافظة على توازنه.

 

مخاطر الحسد وأثره السلبي على الإنسان في دنياه وحياته

إن الحسد كما ينطوي على أضرار وسلبيات على دين الإنسان، فهو ينطوي كذلك على أضرار أخرى وسلبيات تصاحب هذا الإنسان في دنياه وحياته، فالحسد لا يكتفي بأكل الدين والحسنات للمسلم، بل إنه يخلف له تألمًا دائمًا، وكمدًا وغمًا وضيق صدر كلما رأى نعمة تنزل بأحد من الناس، وكلما زاد حسده زاد كمده وهمه وغمه، وازداد صدره ضيقًا وحرجًا، وازدادت نفسه عذابًا، وهو في ذلك كله لا أمل له في صرف النعمة بالحسد؛ لأنها إنما تحل وتنصرف بقدر الله ومراده ومشيئته.

والحاسد لا يرضيه شيء البتة إلا زوال النعمة. وفيه يقول معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: «كل إنسان أستطيع أن أرضيه إلا الحاسد، فإنه لا يرضيه إلا زوال النعمة». وكان معاوية- رضي الله عنه- كريمًا حليمًا.

ولعل صفة الحسد من أعدل الصفات، إذ هي تقتل الحاسد كمدًا وغمًا قبل أن تقتل المحسود. فالحاسد تراه على الدوام دائم السقم وإن كان صحيح الجسم، وهو لا يوجد مسرورًا أبدًا إلا أن يرى زوال نعمة عن عبد من عباد الله، حياته منغصة، وعيشه كنود، وقلبه من شدة تمنيه الشرور لإخوانه ممغوص ومعصور، ولو أدرك عقله أن السلامة والخير للناس جميعًا في نبذ الحسد والبعد عنه لما تردد في متابعة طريق الحب والخير، وأحس أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثلهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

 

 علاج الحسد

أولًا: علاج يتعلق بالحاسد والمحسود على السواء

  1. تربية النفس على التعوذ بالله من شر الحسد والمداومة على ذلك: يفعل الحاسد ذلك فعند إحساسه بالضعف ولدى إحساسه أنه وقع فريسة هذا الخلق الذميم، ويفعل المحسود ذلك فعند حلول كل نعمة عليه وخشيته أن يحسد عليها. قال تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) ومِن شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وقَبَ (3) ومِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ (4) ومِن شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ) [الفلق: 1- 5].
  2. تربية النفس على تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه واتباع سنة رسول الله ﷺ؛ فالمسلم إذا ما اتقى الله، وقهر نفسه وجاهدها وروضها على اتباع الدين والوقوف عند نصوصه ففعل الأوامر وانتهى عن المنهيات = اجتنب الحسد والأحقاد وكراهية الخير للناس.

ثانيًا: علاج يتعلق بالحاسد

  1. أن يكون حازمًا في دفع الوساوس الشيطانية المؤدية للأحقاد والكراهية للناس وحسدهم، وأن يفرغ قلبه من ذلك كله ولا يشغله بالتفكير فيه، وهذا من أنفع الأدوية وأقوى الأسباب المعالجة لحسد الحاسد، المعينة على اندفاع شره. قال تعالى: (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ ولا بَنُونَ (88) إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88- 89]. فالمسلم عليه أن يربي نفسه على محو الحسد من باله كلما خطر له، ويطهر قلبه منه.
  2. أن يستحضر الحاسد في نفسه نتائج الحسد وينظر في مخاطرها على نفسه وعلى المحسود فيستقبحها، ثم يعود لله ويقبل عليه تائبًا منيبًا مخلصًا وجهه له، فإن ذلك مما يذهب خواطر الحسد التي يجدها الإنسان في نفسه. قال تعالى: (إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222]. والحاسد إن تطهّر وتاب يحبه الله، ومن أحبّه الله وقاه وحفظه.
  3. أن يربي المسلم نفسه على أن يتجرد في توحيده لله، فهو إن أحس بالحسد في قلبه يعود بفكره لمسبب الأسباب، الله عز وجل، ولا ينظر بعين القدرة للأسباب، وينظر إلى الخلائق جميعًا على أنّ ضرّها ونفعها بيد الله وحده ولا يلحقها شر إلا بإذنه تعالى: (وإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ وإن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس: 107]. فهو إن أدرك ذلك علم أن حسده للمحسود لن يزيل عنه النعمة ولن يجلب له الضر إلا أن يشاء الله، فيطلب مثلها منه ويُقلع عن حسده لأخيه.
  4. أن يربي نفسه على الإيمان بالقضاء والقدر، فيسلم لله في حكمه لخلقه، ويروِّض نفسه وعقله على الاعتقاد أن ما أصاب أحدًا من شيء، لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبَه؛ فهو إن حفظ لله حقه في الإرادة والمشيئة وتسيير الكون وتدبيره، وحقه في إجراء الأرزاق والحظوظ على عباده، فإن الله يحفظه من كل شر وينقي قلبه من أدران الحسد كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
  5. أن يربي الإنسان نفسه على المداومة على ذكر الموت، فإن ذلك يُزهد في الدنيا ومتاعها، ويجعل المسلم يرى كل ما فيها من خيرات هو زينة وتفاخر بين الناس لا تساوي أمام نعيم الجنة والآخرة شيئًا، ويدرك بذلك أن هذه الدنيا لا تستحق أن يحسد عليها غيره، فيجر على نفسه من أجلها المتاعب النفسية والقلق الدائم والكمد المستمر.
  6. تربية النفس على حب الناس جميعًا، خصوصًا المسلمين منهم، واتقاء الأحقاد والضغائن وأسبابها، فإن ذلك مما يريح القلب والعقل ويفرغهما لله تعالى. ففي الحديث الشريف عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «دَبَّ إليكُم دَاءُ الأُمَمِ: الحَسَدُ والبَغْضَاءُ وهي الْحَالِقَة، لا أقُولُ تَحْلِقُ الشّعرَ ولكنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، والذِي نَفْسِي بِيدِهِ لا تَدخُلوا الجنَّةَ حتَّى تُؤمِنوا، ولا تُؤمِنوا حتَّى تَحابُّوا، أَفَلا أُخبِرُكُم بِمَا يُثبتُ لكم ذلك: أَفشُوا السَّلامَ بينكُم».

ثالثًا: علاج يتعلق بالمحسود

إن الإنسان إذا ما حلت به نعمة من الله وشعر بأنه قد يُحسد عليها، أو أصابه مكروه فشك أن ذلك سببه عين حاسد؛ فعليه أن يأخذ بأسباب منع ذلك الشر عنه بالآتي:

  1. أن يُحسن المرء توكله على الله، والتحسب به، وإرجاع الحول والقوة لله وحده؛ فإن ذلك من أقوى الأسباب التي يدفع بها الإنسان ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعداوتهم. فالله حسب عبده، أي كافيه وواقيه من شر الحاسد. قال تعالى: {ومَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3].
  2. أن يربي الإنسان المسلم نفسه على التوبة المستمرة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه الحسّاد. فهو يعيد الذنب والسبب لنفسه الأمارة بالسوء التي أوقعته تحت طائلة الحاسد العدو. قال تعالى: {ومَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ويَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]. فهو عندما يتخلص من ذنوبه يخلصه الله من الشرور.
  3. دفع النفس للصبر على الحاسد، وألا يقاتله ولا يشكوه ولا يحدث نفسه بأن يؤذيه، وما نصرٌ على حاسدٍ بمثل الصبر عليه.
  4. أن يلتزم الذي أصابته عينُ حاسدٍ بسنة رسول الله ﷺ في الرقية من العين، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ: «كَانَ يأمرُها أنْ تسترقَي منَ العينِ».

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم