Business

القيم الإسلامية في التعامل مع أصحاب الأعذار

قد يصاب الإنسان بإحدى الإعاقات التي تمنعه كليًا أو جزئيًا عن القيام بأعباء الحياة ومهامها، وعن أدواره في الأسرة والعمل والمجتمع ككل. ومشكلة الإعاقة ليست طارئة أو ثانوية، بل هي موجودة مع وجود الإنسان، وبلغت نسبتها الآن من 8-10% من سكان العالم، حسب أرقام منظمة الصحة العالمية. وقد نظر إليها بعض العلماء أنها من نعم الله على الخلق، حيث إن الله لم يخلق شرًا محضًا، فكان هؤلاء محطات للخلق لمعرفة نعمة الصحة والعافية.

وفى دراسة بعنوان: «القيم الإسلامية في التعامل مع أصحاب الأعذار من منظور تربوي وفقهي»، للدكتور مراد نواف أحمد الرفاعي، تناول فيها بيان القيم الإسلامية في التعامل مع أصحاب الأعذار من منظور إسلامي، ولا سيما احتواء القرآن الكريم والسنة الشريفة على منهج تربوي متميز، ومبادئ تربوية، تسهم في تحقيق الاستقرار النفسي والاجتماعي، وتعزيز قدراتهم وإمكانياتهم، التي تدفعهم إلى الاستقلال وعدم الاتكالية والاعتماد على النفس؛ ليصبحوا طاقة منتجة في المجتمع.

 

نشأة مصطلح «أصحاب الأعذار»

إن مصطلح أصحاب الأعذار، ظهر على لسان الفقهاء في العصور الإسلامية، وقصدوا به كل من منعه عذرٌ: من مرض، أو إعاقة، أو تشوه خِلقي من القيام بواجب شرعي أولًا، ثم استُعمل في كل ما كان من شأنه أن يُعذر على أي عمل كان، وبالمقابل ظهرت كلمة الإعاقة بمفهومها الخاص في القرن التاسع عشر، حيث أُطلقت بادئ الأمر في المجتمعات الغربية على المتسولين، الذي كانوا يجلسون على المقاهي أو في الأماكن العامة، يمسكون قبعاتهم في أيديهم طلبًا للإحسان.

ومصطلح أصحاب الأعذار مميز في التربية والفقه الإسلامي، فالعذر عبارة عن حالة أو وصف عارض، يعتري المكلَّف، ويستدعي تخفيف الحكم الشرعي عنه، أو إسقاطه، أو إبداله من غير إثم، ومنه قول النبي ﷺ: «إن أقوامًا بالمدينة خَلفَنَا، ما سلكنا شِعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر».

وهذه بعض الألفاظ ذات الصلة بأصحاب الأعذار:

  1. الإعاقة أو المعاق.
  2. أهل البلاء: وقد وردت هذه التسمية في حديث ابن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: «يود أهل العافية يوم القيامة، حين يُعطى أهل البلاءِ الثوابَ، لو أن جلودَهم كانت قُرِضت في الدنيا بالمقاريض».
  3. ذوو العاهات: والعاهةُ آفةٌ تصيب حاسةً أو عضوًا؛ فتفسدُه. وهذا المصطلح يترك أثرًا سيئًا في نفسية صاحب العذر.
  4. المَرْضَى: كما في قوله تعالى: {... وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ...} [النور: 61].
  5. أولو الضرر: كما في قوله تعالى: {... غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ...} [النساء: 95].
  6. الضعفاء: والضعف هو عدم قدرة الإنسان على الإتيان بالتكاليف على وجهها الصحيح، وذلك لنحافة جسمٍ، أو هشاشة عظامٍ، أو علةٍ أقامت في الإنسان؛ فخارت قواه، أو تقدمٌ في السن أورثه العلل، يقول تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91].
  7. أهل الزَّمَانة: أو الزَّمْنَى، وهم دائمو المرض، أو الضعفاء نتيجة الكبر، وقد استعمل الخلفاء المسلمون هذا المصطلح.

 

حكم تربية أصحاب الأعذار والعناية بهم

  1. الأول: أنها فرض عين، على من تجب عليه كفالته، وهم الأصول والفروع. فالآباء كافلون لأبنائهم لأنهم فروعهم، والأبناء كافلون لآبائهم لأنهم أصولهم، ثم تتسع بعد ذلك دائرة التكليف لتشمل الأقارب والأرحام؛ لأن رعاية بعضهم بعضًا هي امتداد لصلة الرحم التي أوجبها الإسلام فيما بينهم، فكما أنهم يتوارثون فإنهم يتكافلون.
  2.  والثاني: أنها فرض كفاية على المسلمين، إذا قام به بعضهم سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يقم به أحدٌ كان الجميع آثمين. فكفالة العميان والصم والمشلولين، وسائر أصحاب الأعذار، واجب على مجموع الأمة، كما هو واجبهم نحو الفقراء والمساكين والمُعْوِزِين، فكما يجب على الأمةوالجماعة سد حاجات هؤلاء يجب عليهم كذلك سد حاجات أصحاب الأعذار، وإلا كان الجميع آثمين.

 

الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها أصحاب الأعذار

  • الإقلال من الشكوى: يتمثل ذلك في صبره واحتماله للبلاء، وعدم إظهار الجزع والسخط، وهذا مسلك الأنبياء -عليهم السلام- والصالحين من هذه الأمة. قال عطاء بن أبي رباح: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي ﷺ فقالت: إني أُصْرَعُ وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيكِ، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف؛ فادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها.
  • التزام الدعاء: زعم بعض العباد أن الدعاء بكشف البلاء يقدح في الرضا والتسليم، فرد البخاري هذا الزعم وقال: «إن الطلب من الله ليس ممنوعًا، بل فيه زيادة عبادة، لما ثبت مثل ذلك عن المعصوم وأثنى الله عليه بذلك، وأثبت له اسم الصبر مع ذلك».
  • عدم تمني الموت: لما رواه أنس بن مالك عن النبي ﷺ أنه قال: «لا يَتمنَّينَّ أحدُكمُ الموتَ مِن ضُرٍّ أصابَهُ، فإن كانَ لا بدَّ فاعِلًا، فليقُلْ اللَّهُمَّ أحيِني ما كانتِ الحياةُ خَيرًا لي، وتوفَّني إذا كانتِ الوفاةُ خَيرًا لي».
  • الاعتقاد بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، فإن القضاء مكتوب قبل أن يُخلق الإنسان، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]، وإذا استقر في نفس المعاق الإيمان بقضاء الله وقدره وأن الذي أصابه لا بد وأن يصيبه، وأنه أمر لا مفر منه، ولا مهرب منه لأن الله قد كتبه في الأزل؛ فإن نفسه تهدأ وقلبه يسكن، ويكون هذا بداية ومقدمة للرضى بقضاء الله وقدره.
  • أن يوقن بأن الله إذا ابتلى المؤمن فلأنه يحبه، ولذلك كان الرسل هم أشد الناس بلاءً، فعن أبي سعيد الخدري قال: يا رسولَ اللهِ! أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قالَ: «الأنبياءُ ثمَّ الصَّالِحونَ، وقد كانَ أحدُهم يُبتلَى بالفَقرِ، حتَّى ما يجِدُ إلَّا العَباءةَ يجُوبُها فيلْبسُها، ويُبتلَى بالقُمَّلِ حتَّى يقتُلَه، ولأحدُهُم كانَ أشدَّ فرَحًا بالبَلاءِ، من أحدِكم بالعَطاءِ». (صححه الألباني).
  • أن يعلم المصابُ أن الله يأجر المؤمن على كل مصيبة، مهما صغُرت ولو كانت شوكة يشاكها، كما جاء في الحديث: «ما يُصيبُ المُسلِمَ، مِن نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا هَمٍّ ولا حُزْنٍ ولا أذًى ولا غَمٍّ، حتى الشَّوْكَةِ يُشاكُها، إلا كَفَّرَ اللهُ بِها مِن خَطاياهُ».

 

الحكمة من وجود أصحاب الأعذار

  1. تحقيق العبودية لله رب العالمين: فإن كثيرًا من الناس عبدٌ لهواه، وليس عبدًا لله، يعلن أنه عبد الله، ولكن إذا ابتُلي؛ نكص على عقبيه، خسر الدنيا بتذمره وعدم قبوله ما حل فيه، والآخرة بعدم الرضا بقضاء الله، فنزول البلاء بالإنسان المسلم تمحيص واختبار يظهر فيه صدق المدعي، والمؤمن الصادق في إيمانه يصبر لقضاء الله وقدره، ويحتسب الأجر منه، وحينئذ يهون عليه الأمر.
  2. كفارة للذنوب: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة: في نفسه، وولده، وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة»، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا أراد الله بعبده الخير، عجّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة».
  3. حصول الأجر ورفعة الدرجات: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة، أو حط عنه بها خطيئة».
  4. أن يعلم الإنسان حقيقة نفسه الضعيفة، قال ابن القيم: «فلولا أنه-سبحانه- يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء؛ لطغوا وبغوا وعتوا، والله-سبحانه-إذا أراد بعدٍ خيًرا؛ سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله، يستفرغ به من الأدواء المهلكة، حتى إذا هَذَّبه ونَقَّاه وصَفَّاه، أَهَّلَهُ لأشرف مراتب الدنيا، وهي عبوديته، وأرفع ثواب الآخرة، وهو رؤيته وقربه».
  5. إظهار حقائق الناس ومعادنهم، فهناك ناس لا يُعرف فضلُهم إلا في المحن، قال الفضيل بن عياض: «الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم؛ فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه».

 

الأسباب الموجدة لأصحاب الأعذار

من النادر أن تكون الإعاقة لأصحاب الأعذار عند الكل نتيجة لعامل واحد؛ بل في الغالب تحدث نتيجة لأكثر من عامل. بل وكثيرًا ما يصعب تحديد سلسلة العوامل أو الأحداث التي أدت إلى ذلك، ومنها:

  •  العوامل الوراثية.
  •  الأسباب المكتسبة: مثل الولادة المبكرة، أو التعرض للأشعة الضارة بعد الولادة.
  • الأسباب الاجتماعية: مثل المبالغة في زواج الأقارب، أو الزواج المبكر قبل اكتمال نمو الأم، وانتشار الأمية وانخفاض المستوى التعليمي والثقافي للأم، مما يجعلها ترتكب أخطاء في تنشئة الأطفال قد ينتج عنها تشوهات، وكذلك الفقر، وحوادث الطرق، والحروب.

 

تربية أصحاب الأعذار

تعددت مجالات تربية أصحاب الأعذار، وتشمل:

  • التربية الصحية والبدنية:

تعد الصحة من أهم الأشياء في حياة الناس، فمن دونها لا يستطيع أن يعمل، ‏أو يؤدي واجباته الدينية والدنيوية على أكمل وجه. وينطلق مفهوم التربية من كون أصحاب الأعذار، أناسًا مرضى ينبغي معالجتهم، ويكون الاهتمام بالصحة هنا في أول سلم الأولويات، والاعتماد على الله سبحانه وتعالى، جانب منهم في مجال شفاء المريض، قال تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [سورة الشعراء: 80]، لكنه سبحانه وتعالى يأمر بالتداوي، وأنه قد أوجد الدواء لكل داءٍ، فعلى المخلوق أن يتدبر شؤون صحته.

وتتمثل التربية الصحية لأصحاب الأعذار بتكوين الوعي لديهم، وتبصيرهم بأسباب المرض المختلفة، وتكوين الشعور بالمسؤولية الصحية عن أنفسهم وغيرهم، وبيان أن الإنسان حين يهمل المبادئ الصحية، يؤدي ذلك إلى مرضه، ومرض غيره.

  •  التربية النفسية والأدبية:

اهتم الإسلام بأحوال أصحاب الأعذار النفسية ليحقق لهم الطمأنينة والأمن والحماية، ومن أساس طمأنينة النفس = تقبل الإنسان لوضعه الذي خلقه الله عليه: كلونه: وملامحه: وحجمه، أو ما أصيب به من نقص في جسده وقدراته، وفي هذا المجال أقر الإسلام مفاهيم جديدة، كمفهوم الجمال الذي كان مرتبطًا عند الناس بجمال الشكل: من طول، ولون، وتقاطيع، وهي كلها خارجة عن إرادة الإنسان ولا يد له فيها، وأبدلها بالتقوى وسلامة القلب.

‏كما أكد الإسلام على تجنيب الإساءة لأصحاب الأعذار وإلصاق الألقاب بهم، كالقول: هذا أعمى، وهذا أعرج، وهذا مجنون؛ ونهى عن تبادل هذه الألقاب السيئة التي تجرح المشاعر وتؤدي للظلم، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ‏[سورة الحجرات: 11].

  •  التربية العقلية والتعليمة:

المجتمع الإسلامي يكفل لجميع أفراده حق الرقي العقلي، ولن يتاح ذلك إلا بالتعليم، ولقد حض الدين الإسلامي في مجمل تعاليمه على العلم والمعرفة، بل جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وفي القرآن الكريم: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ}[سورة الرحمن: 1-2]، وقرن النبي ﷺ العلم بالمنفعة: «اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا»، كما جعل سبحانه وتعالى الحواس وسيلة مباشرة للمعرفة: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم