كتاب «البيان والتبيين» تراثي موسوعي، يؤكد أن اكتساب ودراسة تراث الغيـر ضرورة فهو يمثل المعاصرة، التي لا بد من مواكبتها، وعقلنته تعني المحافظة على أخلاقيات الأفراد المسلمين، مع تعريبه، لأن غالبية المجتمع تنطق العربية، ولا تعارض بين ما يدعو له الدين والعقل، بربط العلاقة بين الأصل الذي هو الدين الإسلامي، وتراث أهل الإلحاد وغيرهم الذين يبقون منابعًا للمعارف، الواجب الاطلاع عليها، لمعرفة المتهجمين على حرمة ديننا، لذلك لفت النظر إلى دور المثقف المستقبلي، فالتغيير يتطلب تجنيد كل الطاقات بإيجاد مؤسسات ثابتة إلى جانب ما يقوم به الفرد، لخلق ثقافة التواصل والحوار مع الآخر.
تقديم الكتاب بهذا الطرح، سيسهل تطبيق مشروع الجاحظ الإصلاحي التربوي، الذي وضعه في كتابه "البيان والتبيين"، لذلك تناولته أم الخير عثمانى، الأستاذة بقسم العلوم الإنسانية والاجتماعية- جامعة خميس مليانة بالجزائر، بالدراسة، قراءة وتحليلًا، فى محاولة للوصول إلى توضيح بعض من أهميته التربوية والحضارية.
تحليل ونقد موضوعات الكتاب
قيل في محتواه الكثير، هو مزج بين علوم البلاغة، الأدب، التاريخ، الأديان، فمن ناحية البلاغة: ماهيتها، نعمة الفصاحة، عيوب اللسان الخطابة، أما ما يخص الأدب العربي: فكلام العرب في عهد الخلافة الراشدية والأموية والعباسية، أما ما يخص فن التاريخ: فأخبار الخطباء والعلماء والأمراء والكهان والنُّسَّاك.
إن غلبة الفتن على بيئته، جعله يفكر في أزمة العالم الإسلامي ومسألة تحضيره بمفهوم ذاك الوقت، وكمعتزلي، رأى أن الأمر متوقف على العلاقة بين الدين الإسلامي والتراث الأجنبي وكيفية تقبل الفرد المسلم له سلوكيًا وأخلاقيًا، خاصة وأنه حل وافدًا على الدولة الإسلامية برغبة من خلفاء عباسيين، ومعه جاءت أفراد حاملة له كل وغاية يريدها، إما بالترجمة أو بالخطابة وغيرهما، فانتشرت أفكار متعددة، اختلفت الآراء حول تقبلها بين مقلد ومجدد ومتردد، مما أثار حفيظة الصوفية وغيرها، لذا ركز في كتابه على العقل كمصدر للحكمة، واللسان كترجمان لها، والإرادة كمظهر كسبي، تلازمه الاستطاعة، والأصل الذي هو الدين الإسلامي كمرجعية، وبالتقاء هذه الرباعية، توقـع أن أزمة العالم الإسلامي وقتها هي عقلية، فمشكلة تقبل كل جديد في كل المجالات، يخلق الفتن، لذا وجب النظر في تراث الغير الممثل للمعاصرة بمفهوم تلك الفترة، معترفًا بأن «الأمم التي فيها الأخلاق والحكم والعلم أربع: العرب، الهند، فارس، الروم».
عاصر الإمام أحمد بن حنبل، الذي تميز فقهه بالتقيد بما ورد في الحديث، فإن لم يجد اتجه إلى فتاوى الصحابة، ما يؤكد أن الآراء إزاء التراث الوافد متضاربة، وهو ما أزّم الوضع وزاد الشقة الأخلاقية، فكان إصراره على الاستبانة بإعمال العقل وترسيم المبدأ الأخلاقي: «حسن الخلق يرجع إلى اعتدال قوة العقل، وكمال الحكمة، وإلى اعتدال قوة الغضب والشهوة، وهذا الاعتدال يحصل… بوجود إلهي وكمال فطري، بحيث يخلق الإنسان يولد كامل العقل حسن الخلق، قد كفى سلطان الشهوة والغضب … فيصير عالمًا بغير تعليم، ومؤدبًا بغير تأديب».
أكد على أهم طرق التعليم، من خطابة وحكم وأحاديث وغيرها، منبهًا إلى: «التعلم في الصغر كالنقش في الحجر»، لاكتساب عادات، تغني عن بعض الطبائع: «العادة توأم الطبيعة»، وهو ما ذهب إليه المتأخرون: «ولا يبْعد أن يكون في الطبع والفطرة، ما قد ينال بالاكتساب، فرُب صبي خُلق صادق اللهجة، وسخيًا، وجريًا، وربما يخلق بخلافه، فيحصل ذلك فيه بالاعتياد ومخالطة المتخلقين بهذه الأخلاق، وربما يحصل بالتعلم»، داعيًا إلى الإكثار من المعارف وإيجاد منهج لدراسة التخصصات: «تكثر من العلم لتعرف، وتقللْ منه لتحفظ»، بالدعوة إلى إنشاء ما يشبه المدارس النظامية، تتفرع بها التخصصات.
وإيراده لعدة خطب ومواعظ، دليل عن إمكانية تبديل الأخلاق: «لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير، لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات»، ولما قال الرسول ﷺ: «حسنوا أخلاقكم»، فغاية التعلم هو إقرار التسامح والمحبة المقرونة بقلة الاستكراه: «أمهات محاسن الأخلاق هي: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدل، والباقي فروعها»، وما جاء في الأثر:
«صلاح شأن الدنيا بحذافيرها في كلمتين، صلاح شأن الجميع التعايش والتعاشر ملء مكيال، ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل».
أبرز تأثره بمن تأثروا بالنزعة الإنسانية التراثية، وانعكس ذلك على سلوكياتهم رغم أصلهم العربي، فالعتابي العربي صليبة، كان يؤمن بالثقافة في نطاقها الإنساني، مخالفًا الكثيرين من أهل زمانه، الذين كانوا منقسمين بين عروبيين وشعوبيين، ومن ثم لم يكن يجد غضاضة في تعلم لغة العجم والاعتراف بعراقة ثقافتهم وفيض علمهم، وتجلى في إعجابه بسلاسة لغة بعض القصاص، ومن القصاص موسى بن يسار الأسواري، وكان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس في مجلسه المشهور به، فتقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره، فيفسرها بالفارسية، فلا يدري بأي لسان هو أبين. ما يبين مدى البعد الأخلاقي في تعميق أسلوب التسامح بين العرب وغيرهم، فالاطلاع على المعارف التراثية، جمعهم في حلقة علم، شحذ فيها نفوسهم وحرك فيهم قوة البعد الإنساني المحافظ على أخلاق الجماعة، الأخلاق تدعو إلى القيام بواجبات من شأنها المحافظة على الجماعة والاستمرارية، فالأخلاق مجموعة وصايا أو مثل عليا وتمثلات مجتمعية، تمجد الخير، كما يراه المجتمع وترفض الشر المرذول والسيئ، ذاكرًا ما قاله عن الأصمعي: «وصلت بالعلم ونلْت بالملح»، أي لين جانب المعلم، ليتقبل الدارس علمه وهي فنيات مهنة التدريس، وأُثر عن الإمام علي كرم الله وجهه: «قيمة كل امرئ ما يحسن»، معقبًا: «فلو لم نقف من هذا الكتاب إلا على هذه الكلمة، لوجدناها شافية كافية ومجزأة مغنية».
.