ذكريات مع المربي كبير العائلة

عاشتها حنان عطية

يمر رمضان بعد رمضان دون أن تحتفظ الذاكرة بالكثير، سوى من محطات قليلة تركت في نفسي أثرها ولا أدري لماذا؟

ولعل أهم وأجمل ذكرياتي مع رمضان كانت مع لحظاته الجميلة التي تَشَارَكناها في العمارة التي كان يسكنها المربي الدكتور سناء أبو زيد- رحمه الله-، فقد كان كل من في العمارة من تلاميذه ومحبيه، رغم ذلك كنا درجات لونية متعددة داخل هذا اللون التربوي الواحد، وكان الدكتور سناء سعيدًا جدًا بتجمع تلك الكوكبة من حوله، كنا نعد الإفطارات الجماعية، فتحدد لنا زوجته الأخت الكبرى أم خلاد نوعية الطعام التي سوف نعدها، وتوزع علينا المهمات والنوعيات، كنت أحب هذا الجو، فطوال عمري يغريني نظام بيت العائلة، حيث الزحام والأصوات العالية وصراخ الأطفال وضحكاتهم، هكذا تحولت العمارة إلى بيت عائلة، عميدها مربٍّ فاضل يتمتع بقلب كبير قادر على أن يستوعب الكثير، في إحدى إفطارات العمارة، كانت نسيبة- ابنة الدكتور الكبرى- تشاركنا وزوجها هذا الإفطار، وكان إفطار الرجال في شقتنا، وإفطار النساء كان في شقة أخرى، ويحكي زوجي عن فرحة الدكتور بالجمع ووصفه لزوج ابنته بأننا في العمارة كلنا عائلة واحدة، وكان يأتي مبكرًا عن موعد الإفطار والفرحة تعلوه لا ينكرها أحد على وجهه، يسلم على الأطفال الذين يمرحون في طرقات العمارة آمنين فرحين بهذا الجمع العائلي المبارك، ثم يرحب بإخوانه وأبنائه من شباب العمارة الذين يشاركونه السكنى والانتماء والحب.

البيت كان على شارع رئيسي، وكان الجو متربًا جدًا، وكنا نمسح البيت مرتين في اليوم، وكنا نريد أن ننتقل من البيت لهذا السبب، لكننا تراجعنا عن فكرة النقل خوفًا على مشاعر هذا الرجل الصالح، فقد كان إنسانًا رقيقًا لا نجرؤ على إيذاء هذا القلب الذي يحبنا جميعًا.

عندما كان يمرض أحد أبنائي كنت أتركه ينزل بمفرده للدكتور، فيفحصه، ويكتب الروشتة، ثم يصعدون، كان زوجي يسافر في هذه المرحلة كثيرًا، ولكنني كنت أشعر بأمان غريب يحوطنا، فقد كنت فقط بمجرد رؤية سيارة الدكتور تحت العمارة أشعر بالاطمئنان بأننا لسنا وحدنا.

لم تدم لمتنا كثيرًا، سرعان ما انتقلت من العمارة معظم جاراتنا، ثم مات الدكتور سناء رحمه الله، فأصبح البيت كئيبًا لا يطاق، وغدا مظلمًا متربًا لا نور له ولا بهجة، ولم يعد في البيت إلا نحن وأصحاب العمارة، وفارق البيت كل الذين كانوا يعمرونه بالذكر والحب.

ذات يوم، وبعد رحيل الجميع نظرت إلى شقة الدكتور من شباك غرفة الضيوف، وقد أغلق البيت، وكسا الصمت جنباته، وغطى التراب شرفاته، وتذكرت النور الذي كان يملؤه، والذكر الذي كان يعمره، وتخيلت رفيدة وهي تذاكر على مكتب الدكتور وكان تحت الشباك الذي يطل على المنور الذي به نافذتنا، نمت باكية، فرأيت في منامي الشقة يسكنها ملائكة جميلة تطير بأجنحة شفافة لامعة، ربما كان حديث نفس، ولكنه مسح شيئًا من الحزن.

هكذا يكون جمال البيوت بالإنسان، وهكذا الذكريات الجميلة، نفوس مؤمنة وقلوب طيبة لا تعرف إلا الحب والعطاء، تشكل في حياتنا أجمل وأرق المحطات.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم