تمثل التجربة الأندلسية الحضارية جزءًا من الدور الكبير الذي لعبه المسلمون في بناء صرح الحضارة البشرية، فقد كانت الأندلس بوتقة لما انصهر فيها من عناصر إيجابية للحضارة العربية الإسلامية، وقدمت للعالم الإسلامي شعراء مبدعين وعلماء مخترعين وفلاسفة منظرين وفقهاء مجتهدين، وأضحت بوابة عبرت من خلالها حضارة المسلمين إلى أوروبا بعد ترجمتها إلى لغات العالم آنذاك، ولعل أفضل ما نالته أوروبا من الأندلس هو منهجية البحث العلمي؛ فقد ضبط العلماء المسلمون بعد جهد وعناء منهجًا علميًا، قوامه العقل نظرًا وفكرًا، وآلته التجربة مادةً واستقراءً.
وجدير بالذكر أن النظم التربوية لدى كل شعب وأمة هي الأسس التي تبنى عليها حضارتها قديمًا وحديثًا، وقد كان النظام التربوي بالأندلس جزءًا لا يتجزأ من النظام التربوي الإسلامي، منطلقه القرآن الكريم عقيدة وأخلاقًا، وقوامه العقل تجربة واعتبارًا، وهدفه الإنسان روحًا وجسدًا.
ودراسة: «روافد الخطاب التربوي الأندلسي بين مرحلتي الفتح والسقوط ومضامينه التربوية المستفادة». التي أعدّها الدكتور حسام محمد خضر محمد، دكتوراه في أصول التربية، تُعَدُّ محاولةً للوقوف على أبعاد هذه التجربة الحضارية التربوية، لتحديد روافد الخطاب التربوي الموجه لها في مرحلتي الازدهار والانكسار ومضامينه التربوية والدروس المستفادة منه، تأكيدًا لدور التربية في صياغة مستقبل الأمم ونهضتها،
روافد الخطاب التربوي لدى الأندلسيين منذ الفتح وحتى نهاية القرن الخامس الهجري
يمثل العصر الأموي عصر القوة في بلاد الأندلس منذ تأسيس الدولة على يد الأمير عبد الرحمن الداخل سنة 138هـ، حيث كانت الدولة قوية موحدة ولأنها كانت تجاهد في سبيل الله نصارى تلك النواحي، ولأنها كانت كذلك ازدهرت بها العلوم والمعارف، ويكفي مثالًا على ذلك أن المنتصر بالله الحاكم الثاني ابن عبد الرحمن الناصر الذي تولى الحكم في 350هـ كان منصرفًا في أوقات فراغه إلى طلب العلم والقراءة، وكان يحرص على اقتناء الكتب النافعة فيرسل طلبها من الأمصار الإسلامية، ويدفع في ذلك الأموال الكثيرة، وكانت مكتبته في قصره بمدينة الزهراء في قرطبة مكتبة ضخمة عظيمة بها أكثر من 400 ألف مجلد.
ولم يقتصر الفاتحون الأولون على تلك الطاقة الهائلة من التصور الحضاري وفق العقيدة الإسلامية التي ما إن لبثت تلمس هذه الأرض اليافعة حتى أثمرت تلك الحضارة الزاهرة التي بنيت على تصورين أساسيين: أولهما العقيدة الصحيحة التي تؤمن بوحدانية الخالق سبحانه وتعالى وثانيهما المساواة بين البشر، فلم تكن الرسالة خاصة بأمة العرب وإنما بسائر الأمم أجمعين، فهي بالإضافة إلى كونها تنابذ العقائد الأخرى في أنه لا إله إلا الله الواحد الأحد، الخالق للناس جميعًا، فإنهم أيضًا ومن سيرهم ومغازيهم وفتوحاتهم كان لديهم وحدة الهدف في نشر العقيدة الصحيحة بلا إكراه أو إجبار، وإنما بوحي ربهم الذي دعاهم إلى الدعوة إلى الله بالحسنى.
إن مبدأ الأخوة الإنسانية مصطلح إنساني أبدعته العقلية المسلمة، كما قال ﷺ في الحديث: «يا أيها الناسُ! إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألا لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمرَ إلا بالتقوى، إنَّ أكرمَكم عند اللهِ أتقاكُم، ألا هل بلَّغتُ؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ، قال: فيُبَلِّغُ الشاهدُ الغائبَ»، ومن هنا نلحظ أن الإسلام كعقيدة بُني على تصور صحيح لأسس العلاقة بين الأفراد وهي في إيجاز، الأخوة الإنسانية والمساواة في التعامل، والتمايز بالعمل الصالح وليس اللون أو الجنس لأن المبدأ واحد، وهو المساواة التامة بين بني البشر.
ومن أجل ذلك لم يجد الفاتحون عناء يذكر في نشر تعاليم الدين الجديد، فقد تلقى الأندلسيون حروف القرآن فاستظهروا منه ما شاء الله لهم أن يستظهروا من قصاره وطواله، وتعلموا من هذه وتلك ما شاء الله لهم أن يتعلموا من أصول ديانتهم وحدود شريعتهم، ما انطوت عليه قلوبهم وأفصحت به ألسنتهم وبلورته جوارحهم، ومنذ ذلك الحين تعلقت أرواحهم بالقرآن ولعل هذا ما يلاحظ من تواتر الأخبار من حرصهم على:
- تحفيظ أولادهم للقرآن وتعليمهم إياه في سن مبكرة من أعمارهم، فلا يكادون يشارفون العاشرة إلا وهم قد حفظوا نصه وحذقوا تلاوته.
- تعهد القرآن وتلاوته دون انقطاع في عزم وحزم، كما كان شأن ابن وضاح الذي ختم القرآن في عشرين يومًا من شهر رمضان ستين ختمة وكان يعتزم- فيما روي عنه- أن يختمه أكثر من مائة مرة لولا أنه مرض في العشر الأواخر، وكما كان شأن يحي ابن يزيد الأزدي الذي لم يمنعه حبسه من أن يختم القرآن أربعين مرة.
- استنساخ القرآن وكتابته في المصاحف، وهو عمل لم يكن حكرًا على الرجال بل شاركهم فيه شقيقاتهم من النساء، ويكفي القول بأنه كان بالريفي الشرقي من قرطبة مائة وسبعون امرأة يكتبن المصاحف بالخط الكوفي.
- خدمة القرآن وعلومه في دأب وجلد موصولين، كان من آثارهما هذا النتاج القيم الذي أسهم به علماء الأندلس في جميع العلوم القرآنية، وخصوصًا علماء التفسير والقراءات، مما حملهم على التباهي به نحو ما وجدنا ابن حزم يفضل تفسير «بقي بن مخلد» من أبناء الأندلس على جميع التفاسير حتى أنه لا يستثنى تفسير ابن جرير الطبري، وعلى نحو ما وجدنا ابن الزبير الغرناطي يباهي بسبقه في عمله عن ترتيب سور القرآن.
روافد الخطاب التربوي الأندلسي من القرن الخامس الهجري حتى مرحلة سقوط الدولة
في مطلع القرن الخامس الهجري ساد الاضطراب السياسي بلاد الأندلس، فقد أضحت ميدانًا للنزاع بين أعتاب الأمويين والعلويين من ذرية إدريس بن عبد الله، فقد كانت الحال هناك في اضطراب يشبه ما كان في الشرق ويزيد عليه، فانفرط عقد الأندلس بين العناصر الثلاثة المتصارعة إلى أكثر من عشرين دولة: البربر في الجزء الجنوبي، والصقالبة في القسم الشرقي، أما باقي البلاد فكانت بين أسرات العرب. وكان استقلال هذه الإمارات استقلالًا شكليًا فقد كان كثير منها يدفع الجزية للأدقونش ملك قشتالة.
أما من ناحية ما تنتجه هذه الإمارات من سياسة وإدارة فليس بينها تفاوت يذكر، فكلها نظم مستبدة، مستهينة بالدماء، فكثرة من أسباب الترف وضروب العمران، واستجلاب المنافقين من الكتاب والوزراء والشعراء، كما سادت حالة من الخضوع والصفاء لأعداء الإسلام حتى دفعت الإتاوات لطاغية النصارى.
ويصف ابن بسام الأعوام السابقة للفتنة نقلًا عن ابن حيان (400هـ- 407هـ) بأنها: «كانت أعوامًا شدادًا نَكِدَات صعابًا، مشؤومات كريهات المبدأ والفاتحة، قبيحة المنتهى والخاتمة، لم يعدم فيها حيف، ولا فورق فيها خوف، ولا تمَّ فيها سرور، ولا فقد محذور مع تغير السيرة وخرق الهيبة واشتعال الفتنة، واعتلاء المعصية، وظعن الأمن وحلول المخافة».
لقد كانت قرطبة كمثال لبلاد الأندلس قبل الفتنة تعيش ازدهار حضارة بالغة حتى أن أهلها كانوا إذا رأوا رجلًا يتسول عنفوه وشتموه، فلم يكن أمامه إلا أن يخرج إلى الأرياف الواسعة المحيطة بقرطبة، ويلتمس قطعة من الأرض يزرعها ويعيش منها.
ونتيجة لذلك الازدهار كان سعر العامل في الصناعة مرتفعًا، شأن العمال في العواصم الكبرى، وكان متوسط أجر العامل نصف مثقال أي ما يقابل جنيهًا ذهبيًا، أما العامل العادي، فكان متوسط أجره نصف جنيه ذهبي، هذا في حين كان إيجار البيت الشهري عشرين درهمًا أي نصف جنيه، وكانت الأسرة الكبيرة لا تنفق أكثر من خمسة دراهم في اليوم، لتعيش عيشة طيبة.
لقد كانت قرطبة حاضرة العلم وشاهدًا ودليلًا على ثراء حضارة العرب المسلمين إلا أن الفتنة التي أنشبت أظافرها في نفوس القوم فبدلت أمنهم خوفًا وقوتهم ضعفًا، وكان للبربر دور في تخريب هذه الحضارة، وخاصة العامة الذين كانوا مادة للفتن، وكما عمرت بالعدل ونور الإيمان فإنها خربت بالجور والطغيان: جور الحكام، وجور البربر، وجور العرب، وجور الغوغاء، وجور الصقالبة، بل وجور الفقهاء.
لقد جفت الروافد التي استقى الفاتحون منها قوتهم ومنعتهم فلم يعد عمادهم كتاب الله وسنة رسوله الكريم التي حملها الفاتحون فتعلموها وعلموها، فكانت سور القرآن تمشي بين الأقوام لتقدم للإنسانية نموذجًا كانت في أحوج شيء إليه، لم يعد الاعتصام سمة من سمات الحكام بل تكالبوا على الدنيا وأضحى كل أمير يتحالف مع أعدائه ضد أخيه حتى ينال منه أو من مقامه.
لقد أضحى الخطاب التربوي بين الأندلسيين هو خطاب الفتنة، وكان أهم مظاهرها الابتعاد عن شرع الله والإقبال على الدنيا وملذاتها، والانغماس في اللهو والمجون، وتدخل النساء في شئون الحكم، وما نتج عن ذلك من فتن داخل قصور الحكم.
وليس أدل على ذلك من هذا المثال الغريب، وذلك لما حاصر المرابطون قرطبة قام أميرها الفتح بن المعتمد بن عباد بإرسال زوجته الجميلة الأميرة زائدة وأبنائه منها إلى حصن المدور على نهر الوادي الكبير، فلما اقتحم المرابطون قرطبة في صفر 484هـ، فرّت زائدة إلى ألفونسو السادس الصليبي ملك قشتالة وارتدت عن دينها العظيم، وتنصرت هي وأولادها وخدمها، وتسمت بإيزابيل وتزوجت من الملك الصليبي وأنجبت منه ولده الوحيد سانشو الذي قتل بعد ذلك صغيرًا في معركة أقليش ضد المرابطين في شوال 501هـ.
كل هذه الأمثلة وغيرها الكثير تدل على ضعف عقيدة ملوك الطوائف، وانعدام الولاء عندهم بل من يصدق أن محمد بن يوسف بن الأحمر الذي أسس المعقل الأخير- مملكة غرناطة- بعقد اتفاقية مع فرناندو الثالث ملك قشتالة، يتعهد بها أن يكون من أتباعه، ويعترف بسلطة ملك قشتالة على مملكة غرناطة وتنازل له عن الكثير من الحصون بما في ذلك مدينة جيان المهمة، ودفع له الجزية، وتعهد بمساعدته ضد أعدائه بما في ذلك إخوانه المسلمين، ولذلك اشترك جيش غرناطة مع جيش قشتالة في حصار أشبيلية حاضرة الثقافة والفن الأندلسي مما أدى إلى سقوطها عام 646هـ.
وهكذا امتد خطاب الفتنة والوقيعة إلى خطاب التبعية والاستكانة مما أدى إلى السقوط والتلاشي، وقد انغمسوا في الملذات والترف وانتشر بينهم الغناء والخمور، والأولاد المخنثون (الجنس الثالث)، واختلاط الرجال بالنساء، بل إن الخمور كانت تباع بصورة عادية في العاصمة مراكش في عهد أميرهم علي بن يوسف بن تاشفين، وعم اللهو والمجون وسيطرت نساء المرابطين على الأوضاع، وكن وراء معظم الشرور والمفاسد حتى عمت الكارثة عندما اكتسحهم الموحدون.
وحتى أن دولة الموحدين التي ورثت دولة المرابطين في المغرب والأندلس، نهجت نفس الخطأ واتبعت ذات السبيل فدب في أوصالها الضعف والوهن، وليس أدل على ذلك من أن الأمير الموحدي المأمون بن المنصور عقد في عام 642هـ معاهدة مع الملك القشتالي فرناندو الثالث، يتعهد له بدفع جزية في مراكش، بل ويتعهد أيضًا بأنه إذا أسلم نصراني فسيتعهد الموحدون بإعادته إلى النصارى، وإذا ارتد مسلم فليس للموحدين عليه سبيل.
وهذا أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن يوسف حاكم بلنسية، لما ثاروا عليه التجأ إلى الملك خايمي الأول ملك أرجون وارتد عن الإسلام، وتزوج من نصرانية وغير اسمه من عبد الرحمن إلى فيسنتي.
لقد ضعفت الدولة وأضحى هناك بون شاسع بين خُطا الفاتحين الأولين الذين حملوا مشاعل النور إلى هذه الجزيرة منذ قرون وهؤلاء المتأخرين الذين ابتعدوا عن شرع الله، بالإضافة إلى ذلك التنازع على الحكم والولاية وذلك حين طمع عبد الرحمن بن المنصور في الحكم عام 399هـ، وكانت أمة ابنة سانشو جارسيا أمير النافار فاشتعلت الفتنة، وكانت النتيجة ظهور دويلات الطوائف.
لقد كان للتربية أثرها البالغ في تأسيس الدولة حين أسست روافدًا لمجتمع جديد عماده القرآن والسنة علمًا وعملًا وتخلق القوم بها مما هيأ بيئة تربوية صالحة نشأت فيها تلك الأجيال المتعاقبة، حيث قيم المحبة والإخاء والتسامح والالتزام وتحصيل العلم وأهميته والعمل وضرورته، مما شكل مجتمعًا أندلسيًا جديدًا، فكان وإن اختلف عن المشرق في أواصره وظواهره إلا أنه اتفق معه في غاياته وجوهره، حيث قدم للحضارة الإنسانية أنموذجًا يحاكي في العيش الإنساني مع الآخر، مع الحرص على التوافق بين مطالب الدنيا وغايات الآخرة عملًا بقول الحق سبحانه وتعالى: {وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ولا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ ولا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} (القصص: 77).
فضلًا على الاهتمام بالروافد الأخرى للخطاب التربوي لدى الأندلسيين من حيث اهتمامهم بالعلوم وتحصيلها وعنايتهم بالتراث وتدوينه، وإضافة كل جديد نافع في مضمار العلوم والتأليف والترجمة في شتى ميادين العلوم، حيث عمرت الأندلس بالعديد من أسماء العلماء الأعلام، وكان على رأسهم الفيلسوف ابن رشد، والشيخ الفقيه محمد بن حزم الأندلسي، والذي يمثل بسيرته وحياته وصعوده وتألقه وأقواله، ثم نفيه ووفاته سجلًا وشاهدًا على كل ما جرى في الأندلس من ظروف وتطورات، فالثراء والعزة والتعدد والتنوع والخصب والموضوعية، والصعود والهبوط يجمع بينهما بصورة واضحة وارتباط وثيق.
لقد أسهم ابن حزم في رغبة الأندلس في الاستقلال لتكون مجتمعًا متفردًا ساهم بصورة واضحة وجهد كبير، ولم يقتصر ذلك على منهجه وفكره، بل امتد إلى شخصيته وحياته، فابن حزم رفع شعارًا غاية في الحسم والوضوح حين قال: «المجتهد المخطئ أفضل عند الله من المقلد المصيب» وبذلك كان بفكره نافذة للتطوير والتجديد والانفتاح والاستقلال ليس في الفقه وأصوله، بل أيضًا في الاقتصاد والسياسة والأدب والفكر والاجتماع والعمران؛ فمن خلال منهج ابن حزم فتح باب الاجتهاد ولم يؤيد الكتب الاتباعية وجرّب التأمل والبحث الحر.
هكذا كان الخطاب التربوي لدى الأندلسيين الرغبة في الجديد والانطلاق والتحرر من التزام مشكوك فيه أو اقتباس لا دليل عليه.
لقد ارتبط ابن حزم بعصره ومجتمعه في تبنيه للكثير من القيم والاتجاهات واختلافه مع المذاهب التي أثارت عليه العامة والدهماء، والأفراد والفقهاء، وعلى الرغم من ذلك استمر في فكره وجهده بحيوية وخصوبة وجدة وقسوة دفعت الصوفي الأندلسي (ابن العريف) المتوفي في سنة 526هـ إلى القول بأن لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقان.
لقد تبدلت روافد الخطاب التربوي لدى الأندلسيين وأضحت الغاية عرض الحياة الدنيا يطلبها القوم من خلال تبعية ذليلة وتآمر بغيض، فضاعت معالم الأخوة الإسلامية التي دعا إليها الدين وجاء بها الفاتحون إلى أرض هذه الجزيرة، حتى أصبح الناس كأنهم قوم آخرون، تداعت عليهم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، فما الذي أدى إلى تراجع التجربة الأندلسية بالرغم من قيمتها وأهميتها والتي يجادل فيها حتى خصومها أنفسهم، فلا شك أن هناك عوامل خارجية تعود إلى طبيعة الصراع بين الإسلام والمسيحية الغربية مع عوامل داخلية سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية أدت بالضرورة إلى هذه الوضعية وقد أسهم الجانب الأخلاقي بدور كبير في سرعة التراجع والاندثار للتجربة الأندلسية وذلك لارتباطه بالجانب العَقَدِيّ والقيمي.
ومن اللافت للنظر أن الإسلام في القرن الخامس الميلادي بينما أخذ يتراجع أمام زحف ايبيريا المسيحية، كان يتقدم على الطرف الآخر من المتوسط أمام بيزنطة المسيحية على يد الدولة العثمانية، فقد كانت الأدوار على طرفي المتوسط معكوسة. فهنا إخفاق وأفول وهناك اكتساح وانتشار.
لقد كانت دول المغرب المتعاقبة (المرابطين 1055- 1146) ثم دولة الموحدين (1135- 1276) ثم دولة المرينيين (1244- 1465) كانت جميعها في موقع دفاعي لأن العبور إلى الأندلس للقتال إلى جانب مسلميه كان جزءًا أساسيًا من برنامج عمل كل هذه الدول، فلم يمتلك أي منها مشروعًا يدفعه إلى الاستمرار في الهجوم، وكانت الأيدلوجيا التي تجاهد تحت رايتها كل هذه الدول ذات طابع محافظ. فقد تعاقبت في هذه الدول أربعة أجيال على الطريقة التي وصفها ابن خلدون بقوله: «أنها لم تنجح في إحداث تحول اجتماعي، ودون أن يؤدي قيامها إلى تغيير جذري في المفاهيم أو في الممارسات، بل كان التجديد لديها أمرًا مكروهًا كما تشير إلى ذلك المعاملة التي لقيها ابن رشد وكتبه على يد الموحدين».
مضامين الخطاب التربوي الأندلسي في مرحلتي الفتح والسقوط
تمثل مضامين الخطاب التربوي الأندلسي في مرحلتي الفتح والسقوط نظامًا فكريًا وعلميًا أسس لحضارة أظلت البشرية ردحًا من الزمان، وكان لها بصماتها الواضحة في العلوم والآداب، حيث بنيت هذه الحضارة على أسس فكرية وعقدية تنسجم مع الفطرة السليمة والتفكير المنطقي الصحيح، ولا شك أن الإسلام كدين كرم الإنسان وفضله وميزه على سائر الكائنات، بل حَمَّلَهُ في مقابل ذلك مسئولية عظيمة، وكَلَّفَهُ بتكاليف كثيرة، منها مسئولية حمل الأمانة بتبليغ الرسالة إلى سائر البشر في كل مكان وزمان.
أولًا: الإيمان بالله والثبات على العقيدة:
كان أول لبنات هذا البناء الفكري هو الإيمان الصحيح، إذ يمثل في نظر الإسلام كلٌّ لا يتجزأ، فهو سلسلة مترابطة الحلقات تتهدم أو تختل إذا انهدم أحد أركانها، ولذلك يرى المتتبع لآيات القرآن التي تتحدث عن الإيمان بأنها تضع تصورًا صحيحًا كاملًا للألوهية، إذ تثبت آيات الكتاب الألوهية لذات واحدة هي ذات الله، ويطالب القرآن الإنسان بألا يؤمن إلا بالله وحده، ولا يسجد إلا له ولا يعظم إلا إياه ولا يتوكل إلا عليه، ويعلم علم اليقين أنه راجع إليه ومحاسب بين يديه لا محالة، وأنه لا يتوقف حسن العاقبة أو سوؤها إلا على قضاء الله.
فعقيدة التوحيد وفق التصور الإسلامي تنظم حياة الإنسان النفسية، وتوحد نوازعه وتفكيره وأهدافه، وتجعل كل عواطفه، وسلوكه وعاداته قوى متضافرة متعاونة ترمي كلها إلى تحقيق هدف واحد هو الخضوع لله وحده، والشعور بألوهيته وحاكميته ورحمته وعلمه لما في النفوس وقدرته على خلق الكون وتدبير أمره.
وربيت الشخصية الأندلسية تربية عقدية صحيحة فكان قوامها التواضع وعدم التطرف أو الغرور بأي صفة من صفاته الإنسانية، لأنه إذا اغتر بقوته تذكر قدرة الله عليه، وأنه هو الذي يحيي ويميت، وإذا اغتر بماله وأسرف وبطر وتكبر ذكر أن الله هو الغني، وهو واهب المال لمن يريد فيعود إلى السخاء والبذل والتضحية.
لقد أفرزت هذه التربية جيلًا من الفاتحين كانوا لبنة في صرح حضاري شامخ ما تزال شواهده باقية لتدلل على هذا الأثر التربوي العظيم، والذي يجب أن نستقيه بضرورة التربية الصحيحة، وتعظيم قيمة العقل الإنساني وتدريبه على سعة النظر وحب الإطلاع على أسرار الكون، والطموح إلى معرفة ما وراء الحس، لأن كل ما في الكون ما نراه وما لا نرى من السموات والكرسي والعرش والملائكة- كل ذلك ملك لله يشهد بعظمته ودليل على وحدانيته، وقد أمرنا القرآن الكريم بتدبر ذلك والتأمل في خلق السموات والأرض وما فيهما من آيات وعبر؛ لأن كل شيء في الكون راجع إلى مشيئته وهو محيط بعلمه: {وعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ ويَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ والْبَحْرِ ومَا تَسْقُطُ مِن ورَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا ولا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ ولا رَطْبٍ ولا يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام: 59).
ومن أجل ذلك كانت ثمرة الإيمان بالله والثبات على العقيدة أن تكون لدى الفرد المسلم عزيمة قوية يمضي بها في دروب الحياة بلا وجل أو تردد أو خوف، فإذا يسر له الخالق ما عزم عليه فهو الخير المقدر له أو ليصرف الله عنه شرًا كان محتملًا، بالإضافة إلى الإيمان بقضاء الله وقدره فلا اعتراض على قدر الله ما دام قد وقع، ولكن المسلم عليه أن يعتبر فيتوب عن الخطأ أو الذنب الذي بدر منه، ولذلك وجب على المُربي المسلم أن يضع قيد نظره الاعتبارات التالية:
- تنظيم قيمة العقل وتدريبه على سعة النظر وإدراك حقائق الكون الدالة على عظمة الله وقدرته.
- تنمية الشعور بالمسئولية لدى النشء؛ فالإنسان مسئول عن أعماله طالما سيحاسب أمام خالقه يوم القيامة.
- تنمية الوازع الديني القائم على حب الخير والإيمان بالقضاء والقدر والتوبة والندم على كل عمل يغضب الله.
- إدراك قيمة الحياة، وأنها خلقت للعمل الجاد والمثمر من أجل الآخرة والفوز بنعيمها الدائم.
- تمجيد قيمة التواضع والتسامح وعدم الغلو والتطرف؛ فالإنسان حين يغتر بماله أو قوته يتذكر قدرة خالقه عليه.
ثانيًا: ثنائية العلم والعمل
لم يكن الإسلام دينًا كهنوتيًا مقتصرًا على طقوس تمارس وطلاسم لا يعي الفرد المسلم معنى ألفاظها ومراميها، بل يلاحظ أن مباحث القرآن الكريم جميعها تبين أنه دين بني على علاقة متينة بين المسلم وربه خالق الأكوان، وهو يطالب الفرد المسلم بالأعمال الصالحة التي يرضاها الله كما يدعوه إلى توجيه سلوكه وغرائزه وحياته توجيهًا يحقق الآداب والتشريعات الإلهية تحقيقًا علميًا.
إن ثنائية العلم والعمل الذي جعل الإسلام منها أساسًا للتربية الإسلامية الهادفة لتنمية شخصية الإنسان المسلم، إذ يجعل حياة الفرد أكثر استقرارًا واستقامة وتجعل المجتمع أشد تماسكًا وأكثر إنتاجًا، وذلك للاعتبارات التالية:
- إتقان العمل هو خير مقياس للتعلم الفعال؛ لأن من مظاهره تُعَوِّد الدقة وتَوَخِّي صحة النتائج، فكل متعلم يمارس العمل أمام معلمه، أو كل معلم يمارس العمل ثم يتابعه المتعلم، ثم يناظره المعلم ويصحح له أخطاءه كما صحح الرسول المعلم لصحابته الكرام.
- الشعور بالمسئولية عن صحة العمل، وتتجلى في إخلاص النية وتوجيه العمل نحو إرضاء الله بلا رياء أو استكبار أو استهتار.
- التواضع والبعد عن الغرور وترك الكسل والتواكل؛ لأن كل فرد يؤاخذ بعمله، لا يغني عنه نسب ولا جاه ولا مال ولا مجرد الانتساب إلى ملة أو دين معين.
ثالثًا: الاهتمام بتحصيل العلوم
حرص الإسلام على تحصيل العلم النافع، وجعل من المدرسة وسيلته لتحقيق هذه الغاية عبر تطورها التاريخي وفق متغيرات الأحوال والعصور، إلا أن هناك حقائق ثابتة لا تتغير في ملامح المدرسة الإسلامية، فهي فضلًا عن كونها أداة لنقل التراث الثقافي للأمة فإنها تقدم العقيدة للناشئين خالية من كل الشوائب والمبالغات لتبقى العقيدة سليمة والعقول قوية والمعارف صحيحة.
لقد أكد الإسلام على ضرورة اكتساب العلم وتعليمه وأن يطلبه الفرد المسلم حتى ولو ذهب لطلبه إلى آخر الدنيا يقول الرسول ﷺ: «اطلبوا العلم ولو في الصين»، ويجعله ﷺ تكليفًا واجبًا لكل مسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»، وأيضًا: «خيركم من تعلم العلم وعلمه».
لم يرفض الإسلام علوم الأمم الأخرى وحضارتها، وإنما حثنا على أن نأخذ منها ما يمكن للمسلم في الأرض ويمنحه أسباب القوة بكل معانيها: القوة الاقتصادية، والقوة الإعلامية، والقوة الحربية للدفاع عن العقيدة وأرض الإسلام.
وبهذا القصد يكون من الضروري التوسع في خبرات النشء العلمية: الفيزيائية، والكيميائية، والجغرافية، والحسابية، والرياضية، وغيرها، لا بقصد التباهي والتفاخر بمظهر المتحضرين الذين انتشرت لديهم الثقافات العلمية وكثرة المختبرات والكليات العملية؛ بل للوصول إلى الغاية التي من أجلها يتم تحصيل المعارف والعلوم، وهي تحقيق التفوق في مجالات العلم المختلفة لبناء صرح حضاري قوامه العقيدة فكرًا ومنهاجًا، والعلم غاية ووسيلة؛ لإعلاء شأن المسلمين؛ لتكون حضارتهم جامعة نافعة لكل بني البشر.
إن الغاية من دراسة العلوم وفق التصور الإسلامي تأهيل العقل البشري لاستيعاب كل ظاهرة من ظواهر الكون، وتأملها تأملًا منطقيًا علميًا؛ لأن الكون أُقيم على أساس الحق، ووجد لهدف معين وإلى أجل مسمى عند الله: {ومَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إن كُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنبياء: 16-17).
ومن هنا نلحظ أن اهتمام المسلمين بتحصيل العلم النافع قائم على مبدأ إيماني، قوامه ارتباط المسلم بخالق الكون؛ لأن الهدف الأسمى من الحياة هي العبادة لله الواحد الأحد، ولذلك فإنه ينبغي على المسلم أن يتربى على مجموعة من المسلمات منها:
- أن الحياة الدنيا زائلة، وهي دار لهو وتفاخر ومتاع عابر مؤقت.
- لابد للإنسان أن يكدح ويتعب من أجل فهم الكون وعمارته.
- الصبر على بلواء الحياة وبأسائها؛ لأنها دار اختبار وابتلاء.
- عدم حرمان النفس من لذات الحياة، بل التمتع بخيراتها لأنه عبادة لله.
- العلم للمسلم قوة تحقق له العزة والمنعة كما أمره الله.
رابعًا: الوحدة الفكرية والعَقَدِيَّة
إذا كانت العقيدة هي الأفكار التي يؤمن بها الإنسان ويصدر عنها في تصرفاته وسلوكه، فإذا قَوِيَ المرء فقد قامت سيرته على ما صدقه واطمأن قلبه إليه؛ فالإيمان الصحيح هو أساس متين لتربية ثابتة مضمونة النتائج، وكما أن سيرة الفرد وحياته تنتظم وتستقيم إذا كانت صادرة عن إيمان صحيح، كذلك فإن مجموعة الأفراد عندما يُخضِعون علاقاتهم فيما بينهم وسلوكهم وسيرتهم إلى الإيمان بفكرة مشتركة ببينهم مشتملة على أمور روحية، ربانية صحيحة، فإنهم يؤلفون أمة ذات حضارة متجانسة متجاوبة مع عقيدتها ودينها، وتكون العقيدة المشتركة هي الموجه لحياة الأفراد الشخصية، وهنا يكون التناسق ببين حضارة الأمة ونظمها الاجتماعية وبين سيرة أفرادها.
لقد بُني المجتمع الأندلسي في مرحلة فتح الأندلس على هذا التصور الصحيح للعقيدة فكرًا وممارسة، مما أدى إلى اكتمال الحياة النفسية الصحيحة لأفراده، وأصبح التجاوب الاجتماعي سمة تجمع الأفراد على مفهوم واحد ومضمون أسمى، وهو خدمة العقيدة ونصرة الدين، فأصبح المجتمع كالبنيان يشد بعضه بعضًا.
لقد أصبح الدين رابطًا يجمع القوم فوق كل الاعتبارات، واستطاعت الأندلس أن تتآلف مع سائر الأعراق والأجناس، حتى أهل الديانات الأخرى، وجدوا مكانًا لهم في المجتمع الجديد والذي بني على تصور صحيح لمفهوم الأمة المتضامنة، وبذلك أنتجت وكما يروي التاريخ مجتمعًا قويًا حضاريًا ومستقيمًا عَقَديًّا.
ووفق هذا التصور تصبح التربية الإيمانية السليمة مرتكزًا لبناء أمة ناهضة، حيث تنظم عقيدة التوحيد حياة الإنسان النفسية وتوحد نوازعه، ولتحقيق هذا يجب مراعاة ما يلي:
- تربية الفرد على عقيدة التوحيد؛ والتي تعني الإيمان بالله، وتعويد عقل الإنسان على سعة النظر والتدبر في أسرار الكون؛ لأن كل ما في الكون مما نرى أو لا نرى من صنع الله وتدبيره.
- تربية الفرد على التواضع وعدم التطرف أو الغرور؛ لأن الفرد إذا اغتر بقوته وأراد البطش أو الظلم تذكر قدرة الله عليه، وأنه هو الذي يحيي ويميت، وإذا اغتر بماله فأسرف وأترف وبطر وتكبر؛ تذكر أن الله هو الغني وهو الذي وهبه هذا المال فيعود إلى البذل والسخاء والتودد تواضعًا لله.
- تربية النشء على المحبة والتسامح وثقافة التعايش مع من يختلف معه فكريًا عقديا.
خامسًا: الاهتمام بثقافة وتراث الأمة
عاشت الأمة الإسلامية عبر عصورها المتواترة منذ فجر الرسالة حتى فتوحاتها العديدة شرقًا وغربًا لا تنفصل عن ثقافتها ولا تراثها، بل حرص الأولون على نقل هذا التراث الثقافي للأجيال المتعاقبة، للحفاظ على جوهر الدين ووسطية الرسالة وشموليتها بكل زمان ومكان، وليس أدل على ذلك من تلك المنهجية التي تركها المحدثون في المنهج الأوروبي الحديث.
لقد مر منهج المحدثون بخمس مراحل: بدأت بنقد المتون وهي مرحلة امتدت من عصر الصحابة حتى نهاية النصف الأول من القرن الثاني الهجري، وانتهت إلى مرحلة التأكيد على نقد السند استنادًا إلى أئمة الجرح والتعديل بعد جمعهم لها والموازنة بينها ووضع القواعد الخاصة بهذا الأمر.
لقد أَصَّلَ المحدثون المسلمون منهجًا جليًا، استفاد منه المحدثون حين وضعوا للحيطة والمحافظة على الحديث قرائن تدل على الوضع في المتن، منها إقرار واضعه وركاكة اللفظ، وفساد المعنى، ومناقضة الخبر للكتاب والسنة ومخالفته للحقائق التاريخية ومخالفته للعقل وغير ذلك.
وبتلك المسحة المنهجية والملكة العلمية لدى المحدثين كانوا يدركون الحديث الصحيح من الحديث المنكر، بل استطاعوا التحقق من الأخبار الموضوعة لتكون أساسًا للحكم على بعض الأحاديث بالشذوذ والنكارة والوضع والاختلاق.
ولم يكن هذا سبيل علماء الأمة في السنة النبوية دون غيرها من العلوم وإنما امتد إلى سائرها سواء أكانت في علوم اللغة والتي ازدهرت لتخدم بفروعها المختلفة علوم الدين والشريعة، ولذلك لم يكن علماء المسلمين نابهين في علوم الطب والفلك والطبيعة فحسب، وإنما كان نبوغهم يمتد إلى علوم الدين واللغة دراية وخبرة، بل وتأليفًا، فابن سينا كان عالمًا فقيهًا، وعمر الخيام كان عالمًا للرياضيات وشاعرًا مجيدًا.
لقد كان لحضارة المسلمين في الأندلس إبداعاتها في سائر العلوم والفنون عبر تاريخها الطويل وكان لكل ولاية علماؤها المبرزون، إلا أن الشيء الذي يذكر هو تشجيع الحكام للعلم والعلماء وإنزالهم المكانة اللائقة بهم في مجالسهم ومحافلهم.
لقد كانت الأندلس واحدة للعلم والإبداع وإطارًا للتلاقح الثقافي البديع بين حضارة العرب المسلمة والغرب المسيحي، حيث قدمت مزيجًا له رونقه وأصالته، فهو وإن كان للعرب نتاجًا يفخر به فقد كان للغرب أداة لبناء حضارته الحديثة التي بدأها بعد محنة سقوط الأندلس.
لقد وعى الأندلسيون أهمية الثقافة والتراث كأداة للتقدم، فتدارسوا اللغة وعلومها لفهم القرآن وتفقه آياته، وعلموه أبناءهم وجعلوا ذلك عماد حضارتهم المتألقة في عصور النهضة والازدهار، وكذلك كان شأنهم في سائر العلوم وما رواه التاريخ من تفاخر أهل الثراء في قرطبة مما تحويه مكتباتهم من مجلدات تحمل من سائر العلوم عناوين مختلفة، كانت دلالة واضحة على ثراء المجتمع علميًا وأدبيًا.
.