إن كل أمة طموحة، تسعى دائما للنهضة والتقدم لبلوغ الأفضل، وأن يكون حاضرها خير من ماضيها، ومستقبلها أفضل من حاضرها، وهذا لا يتحقق إلا بالتربية الصحيحة الجادة، وخير تربية هي التربية الإسلامية القائمة على المنهج الرباني والقيم والمفاهيم القرآنية، عن رب العزة في محكم تنزيله قال: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ ۖ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة: 19).
فالإسلام جاء للأمة بمنهاج شامل قويم في التربية وتنشئة الأجيال وبناء الحضارات، والأمة بحاجة إلى منهاج يُقَوِّمُها ويُصلِحُها، ليخرجها من الأزمات الفكرية والانحرافات والفساد وهذا لا يكون إلا بالمناهج الإسلامي.
وفى دراسة بعنوان: «التصور الإسلامي للمنهاج التربوي» -1990-، للباحث بوكبشة جمعية، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف بالجزائر، يحاول تسليط الضوء حول المنهاج من منظور إسلامي، فلكل مجتمع فلسفته الخاصة به، والتي تنعكس على الفكر التربوي لذلك المجتمع، فالمنهج من المنظور الإسلامي يقوم على أسس فلسفية تتمايز عن الأسس الفلسفية التي يقوم عليها المنهج الحديث، ضمن النظرة الإسلامية نحو الإنسان والكون والحياة.
مفهوم المنهاج
فالإسلام هو رسالة الأمة العربية إلى العالمين وهو مصدر حضارتها، وهو عقيدة وشريعة، ونظام الحياة قال تعالى في كتابه العزيز: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة: 48). ومنه فإن الشرعة والمنهاج هي رسالة الإسلام والتربية الإسلامية.
المنهاج هو أداة التربية ووسيلتها، لذلك فإن المنهج المدرسي قد خضع لتطورات وتغيرات طبقًا للنظرة التربوية، ولا يمكن القول بأن المنهج ليس سوى انعكاس وتطبيق للتغيرات التربوية، ويعني بالمفهوم الواسع مجموعة واضحة من المحتويات وحالات التعلم المستخدمة في النظام التعليمي وبصفة عامة النظام التربوي متدرج ومحدد وواضح المعالم.
ومن التعريفات أنه: هو مجموعة نظامية من الدروس والأنشطة المدرسية أو الأكاديمية التي تساعد في تنمية النشء من النواحي الجسمية والعقلية والاجتماعية والأخلاقية؛ حتى تمكنه من عيش حياة سوية في البيئة التي يعيش فيها.
المفهوم الكلاسيكي للمنهاج
لقد عُرِّفَ المنهاج كلاسيكيـًا بأنه مجموعة المواد الدراسية أو المقررات التي يدرسهـا التلاميذ في الصف، ويرى طه إبراهيم فوزي أنه كل الخبرات المخططة التي تقدمها المدرسة من خلال عملية التدريس.
ومن هنا يظهر لنـا من خلال التعاريف السابقة، أن المنهاج بهذا المفهوم يقتصر فقط على عنايته بالمجال المعرفي للمتعلم، أي تقتصر وظيفتها على الجانب الذهني وإهمـال الجوانب الأخرى في تربية الأجيال، وفي هذا الصدد يقول كل من أبو هرجة مكارم حلمي وسعد زغلول محمد: «كان المنهج المحدود يعتمد على مجمـوعة من المقررات الدراسية يدرسهـا المتعلمـون داخل المدرسة، بهدف اجتيـاز الامتحانـات للتعرف على مدى استيعـابهم لهذه المقررات، ولـذا فإن هذا المنهاج قد اقتصر فقط على عنايته بالناحية العقلية».
المفهوم الحديث للمنهاج
لقد وضع جون ديوي كتابًا بعنوان (الطفل والمنهج) يقوم على التكامل بين المنهج بمفهومه التقليدي المعتمد على المادة الدراسية، وبين المفهوم الحديث القائم على النشاط.
ويُعَرَّف المنهج بمفهومه الحديث بأنه جميع ما تقدمه المدرسة إلى تلاميذها تحقيقًا لرسالتها وأهدافها، ووفق خطتها في تحقيق هذه الأهداف. أو أنه مجموع الخبرات التربوية الثقافية والاجتماعية والرياضية والفنية التي تهيؤها المدرسة لتلاميذها داخلها وخارجها بقصد مساعدتهم على النمو الشامل في جميع النواحي وتعديل سلوكهم طبقًا لأهدافها التربوية.
أما التربية الإسلامية فلها تمايز خاص لمبادئ التربية والأهداف التربية الإسلامية كلها مصاغة من القرآن الكريم:
- التعامل مع الذات الإنسانية على أساس أنها وحدة واحدة دون التركيز على جانب الروح أو الجسم.
- الإيمان بالغيب كما جاء من عند الله سبحانه وتعالى.
- عدم إقحام العقل الإنساني في القضايا التي لا يقوى عليها.
- إثارة الدوافع وتشكيل الحوافز عند الأبناء.
- تكافؤ الفرص أمام الأفراد.
- السعي نحو العلم.
- تعليم الأفراد وتفجير طاقاتهم الكامنة.
- الرقابة الذاتية هي التي تضبط أعمال الأفراد.
- طلب العلم النافع الذي يعود بالخير على الإنسان.
- تلبية ميول الأفراد ورغباتهم.
- تحقيق الغاية الوجودية التي خلق الإنسان من أجلها وهي العبادة.
- اتباع الإنسان للخير.
- الوصول بالإنسان إلى أعلى المراتب.
- إرساء قواعد العدل والمساواة.
- تحرير العقل الإنساني من الخرافات والأساطير.
- تحرير العقل الإنساني من ضغوط الشهوات.
- بث روح التعاون والإخاء.
- تأهيل الأفراد وإعدادهم بما يتناسب مع قدراتهم ومع ظروف العصر.
وفي ضوء هذه المبادئ فإن التربية الإسلامية تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: يسمَّى المناهج التربوية الثابتة، ويحتوي على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهو ثابت المحتوى ويتجدد في أسلوب التقديم.
القسم الثاني: يحتوي على كافة المواد الدراسية.
تصور المنهاج عند بعض علماء العرب المسلمين
المنهاج عند القابسي
يتنوع المنهاج عند القابسي حسب المتعلمين ذكورًا أو إناثًا إجبارية كالقرآن الكريم والفقه والفرائض والكتابة والخط والإعراب، وهناك موضوعات اختيارية برغبة الأهل وهي الحساب والنحو والشعر، واستثنى من المواد شعر الحمية والغزل والهجاء لأنه يقود إلى الغناء.
ومنه فالمنهاج عنده يهدف إلى بناء الفرد المسلم المتشبع بالأخلاق الإسلامية علمًا وعملًا؛ حيث يُعَوَّد الصبي منذ الصغر على تجنب الرذائل، وفي صدد تعليم الصبيان يقول: «ولا يحل له- أي المعلم- أن يأمر أحدًا أن يعلم أحدًا منهم إلا أن يكون فيما فيه منفعة للصبي في تخريجه» وأكد على إلزامية التعليم للجنسين.
المنهاج عند إخوان الصفا: تأليف الرسائل ما بين سنتي 418/427
تكلم إخوان الصفا على العلوم والتعليم والمناهج وقد وافقوا ابن خلدون في آرائه وأفكاره؛ وملخص المعنى يتضح من القول التالي: «واعلم يا أخي أن العلم إنما هو صورة المعلوم في نفس العالم، وضده الجهل وهو علم تلك الصورة في النفس، واعلم أن أنفس العلماء عَلَّامة بالفعل، وأنفس المتعلمين علَّامة بقوة، وأن التعلم والتعليم ليسا شيئًا سوى إخراج ما في القوة، يعني الإمكان إلى الفعل، يعني الوجود، فإذا نُسِب ذلك إلى العالم سمي تعليمًا، وإذا نُسِب إلى المتعلم سمي تَعَلُّمًا»، وعلى هذا فإن دور المعلم يتلخص في تفجير الطاقات الكامنة في نفسية المتعلم.
المنهاج التعليمي عند ابن مسكويه
التربية عنده على أساس الشريعة والأخذ بوظائفها ومراعاة الأخلاق والتمسك بها والعمل بها، وتعليم الحساب والهندسة والأخذ من بقية العلوم، والاهتمام بتأديب الأطفال وتهذيبهم.
وله قول في تربية الصبيان يلخص منهجه القويم حيث يقول: «وذلك أن الصبي في ابتداء نشوئه، يكون على الأكثر قبيح الأفعال إما كلها وأما أكثرها، فإنه يكون كذوبًا، ويُخْبِرُ ويحكي ما لم يسمعه ولم يره، ويكون حسودًا، سَرُوقًا، نَمَّامًا، لَجُوجًا ذا فُضُولٍ، أضر شيء بنفسه، وبكل أمر يلابسه ثم لا يزال به التأديب والسن والتجارب، حتى ينتقل في أحوال بعد أحوال».
ويُضيف: «ثم يُمدح بكلّ ما يظهر منه من خلق جميل وفعل حسن، ويُكرم عليه، فإن خالف في بعض الأوقات ما ذكرته فالأولى ألا يوبخ عليه، ولا يُكَاشَف بأنه أقدم عليه، بل يُتغافل عنه تغافل من لا يخطر بباله أن تجاسر على مثله ولا همّ به، ولا سيما إن ستره الصبيّ، واجتهد في أن يخفي ما فعله عن الناس، فإن عاد فليُوبّخ عليه سرًّا».
ويتضح أن أهم أفكاره التربوية هي ما يلي:
- التربية عملية بناء مستمر وينادي بالأخلاق.
- العلم من أجل الفضيلة لا الرذيلة.
- التعود على الصبر والشدائد وغيرها من الأسس التي تُبنى عليها التربية وكذلك التعليم عند ابن مسكويه.
مناهج التعليم عند ابن سحنون
جاء على لسان نزيه أحمد الجندي أن المنهاج الدراسي عند ابن سحنون يتألف من قسمين:
- القسم الإلزامي: يتضمن تعليم القرآن الكريم، فقد أكد ابن سحنون على ضرورة تعلم القرآن وتعليمه مستشهدًا بالأحاديث النبوية التي تُبين مكانة حامل القرآن وفضل تعليمه: قال رسول الله ﷺ: «خيرُكم من تعلَّم القرآنَ وعلَّمه».
- القسم الاختياري: يتضمن هذا القسم تعليم الحساب والشعر العربي واللغة العربية والخط والنحو، ويبقى التعليم الاختياري حسب شروط أهل الولد، وهي عملية تفاعلية بين كل من المعلم والمتعلم وأهله.
أبا حامد الغزالي
يقسمه المنهاج التعليمي حسب رأيه إلى قسمين:
- العلم الذي هو فرض عين؛ يقول الغزالي: «اختلف الناس في العلم الذي هو فرض على كل مسلم، فتفرقوا فيه أكثر من عشرين فرقة، ولا نطيل بثقل التفصيل، ولكن حاصله أن كل فريق نزل الوجوب على العلم الديني؛ فقال المتكلمون: هو علم الكلام.. وقال الفقهاء هو علم الفقه.. وقال المفسرون والمحدثون هو علم الكتاب والسنة.. وقال بعضهم هو علم بالإخلاص وآفات النفوس وتمييز أمة الملك من أمة الشيطان».
- العلم الذي هو فرض كفاية؛ أما فرض الكفاية فهو كل علم لا يُستغنَي عنه في قوامه أمور الدين؛ كالطب إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، كالحساب فإنه ضروريّ في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرها.
ابن خلدون
جاء في كتابه المشهور (كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) الذي رتبه في مقدمة وثلاثة كتب- جاء فيه: «وذلك أن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه، إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله. وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلًا..».
ونجده يؤكد في هذا الباب المخصص للتعليم على المتعلم الذي هو لب العملية التعليمية التعلمية إذ يركز على ما يلي:
- يؤكد أن تلقين العلوم يكون بالتدرج.
- مراعاة القوى العقلية للمتعلم واستعداده.
- لا يخلط المعلم مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره.
- تفريق المجالس في التعليم أي الفصل بين مختلف العلوم.
ونلاحظ بعد هذا العرض الموجز، أن لكل عالم من علماء العرب المسلمين آراء حول المنهاج التعليمي، بحيث تصب في قالب واحد وأسس ومبادئ إسلامية مبنية على القرآن والسنة، وعلى الطريق الصحيح والمنهج السليم، وهي توضح وتعكس المنظور الحديث للمنهج بصفة تكاملية وشمولية وعادلة انطلاقًا من القرآن والسنة.
خصائص المنهج التعليمي في ظل الفكر الإسلامي
إن المنهج التعليمي في الفكر التربوي الإسلامي لا بد أن يتميز ببعض الخصائص وأبرزها:
- أن يكون المنهج شاملًا متكاملًا لتربية الإنسان؛ لأنه وسيلة لتحقيق غاية وهي تنمية شخصية الإنسان من جميع الجوانب.
- أن يتسم المنهج بالثبات الذي يشتق من ثوابت القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
- أن يكون متوازنًا مرنًا قابلًا للتعديل بالإضافة أن التربية الإسلامية تربية تجديدية وليست تقليدية جامدة.
- أن تُبنى المناهج وفقَ حقائقَ علمية يقينية.
- الأخذ بوحدة المعرفة وترابط موادها والتكامل من حيث المعرفة الحسية والعقلية والروحية.
- الاعتماد على الخبرة التي هي أساس بناء الإنسان والمجتمع.
- مراعاة استعدادات المتعلمين والفروق الفردية.
- الرجوع إلى التراث العربي في اختيار المحتوى.
إن التربية والتعليم لا تختلف في حقيقة كون (المنهج والمعلم والمتعلم) هي الأركان الأساسية في العملية التربوية- التعليمية، والعلاقة بين هذه الأركان حتمية وديناميكية، وإن المنهج التعليمي هو لسان التربية المسؤول عن تحقيق أهدافها ومحتوياتها، وهو يحتاج في وضعه وتصميمه إلى أن يستند إلى أسس ضرورية تجعل منه منهجًا ملائمًا ومحققًا للأهداف التربوية التي وُضِع من أجلها، ومن هذه الأسس فلسفة الأهداف وحاجات النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي القائم، وتفهم طبيعة المتعلمين وحاجتهم وطبيعة المادة الدراسية التي تؤلف محتوى المنهج ومدى تقدمه والفكر التربوي والاتجاهات التي يحملها واضعو المناهج.
والذي ينظر إلى مخرجات التعليم في الوطن العربي يلاحظ أن أغلب الخريجين غير قادرين على تحليل وفهم ما يجري في العالم، ومِن ثَمَّ عدم القدرة على الرد والتصدي؛ وتعرض الأجيال الصاعدة لعملية الغزو وغسيل الدماغ الذي تمارسه أمريكا لإشاعة النموذج الغربي وتصدير القيم الغربية النفعية والمناهج التربوية الثقافية التي يبثها التلفاز وشبكات الإنترنت؛ هذا التدخل السافر في تشكيل عقول شبابنا ونفسياتهم عبر غزوٍ ثقافيٍ تكنولوجيٍ يفرض علينا التفكير في كيفية المواجهة وبناء تربية إسلامية عربية مستقلة.
والمنهاج الإسلامي كفيل بحل كل هذه القيود التي تتخبط فيها الدول العربية، فلو اتخذنا المنهج الصحيح والكامل والشامل والعادل بعين الاعتبار أثناء بناء المناهج الدراسية انطلاقًا من فلسفة إسلامية ونمط ديني بحت من القرآن والسنة، ومحاولة إدماج طرق حديثة في التدريس لتخطي كل الحواجز التي تحول دون اللحاق بالركب حتى ولو القليل، فالتربية الإسلامية شاملة تأخذ بالحرية والمثالية من جهة، ومن التجربة والخبرة من جهة؛ وعلى هذا يجب بناء مناهج من تصور إسلامي؛ حتى لا نبقى نتخبط في متاهات التبعية، وحتى تكون لدينا مخرجات توافق قيم مجتمع إسلامي عربي.
.