المربي حسن البنا وتربية الإرادة

إعداد: أحمد شوشة

 

«إذا صح العزم وضح السبيل» مبدأ كثيرًا ما ردده المربي القائد "حسن البنا" -عليه رحمة الله تعالى- الذي أطلق طاقات الأمة؛ فلم يغادر عالمنا إلا والأمة الإسلامية تنتفض من أقصاها إلى أقصاها، ففي ما يقرب من عشرين سنة -هي عمره الدعوي المبارك- تعدلت الغايات والأهداف والانتماءات والولاءات، وتحركت الأفكار والمشاعر والأحداث؛ حركة استعاد التاريخ بها سيره الطبيعي؛ فتجددت الحياة ونهضت الآمال من بعد انحراف طال أمده، ولكن كيف فعل الرجل الرباني هذا؟ فعله بتربية الأمة برجالها ونسائها، بشيوخها وشبابها، بعوامها ونخبها، رباهم تربية نفسية قوية تُحرك الإرادة الفاعلة المؤثرة لديهم، وفي نص -لا نمل من ترديده- يقول الأستاذ البنا:

«إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال، ومناصرة المبادئ، تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو الفئة التي تدعو إليه على الأقل إلى "قوة نفسية عظيمة" تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه، والخديعة بغيره، على هذه الأركان الأولية التي هي من خصوص النفوس وحدها، وعلى هذه القوة الروحية الهائلة، تبنى المبادئ وتتربى الأمم الناهضة، وتتكون الشعوب الفتية، وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمنًا طويلًا}. (رسالة إلى شيء ندعو الناس: أ.حسن البنّا)

فكيف ربي الإمام البنا عليه رحمة الله الإخوان والأمة على الإرادة الفاعلة المؤثرة؟

الشباب ومبادراته المدهشة:

إن الشباب يمتلك الحماسة والإخلاص والنقاء والقدرة على الفعل، ولذلك إذا فتح لهم المجال لتحقيق مبادراتهم، والوقوف بجوارهم تصحيحًا وتوجيهًا، نمت فيهم الثقة بالنفس، وتولدت لديهم طاقات الإبداع، وانطلقت منهم القدرة على العمل والإتقان.

ولكن هنا -في هذه القصة التي نعرضها على حضراتكم- شيء آخر عجيب، تجاوز مجرد الاستجابة لمبادرات الشباب إلى اقتراح من المربي -وهو هنا حسن البنا- لمبادرة تصيب الشباب بالدهشة، وتطلق فيهم تحدي الإنجاز.

 فها هو المربي الراشد يتجاوب مع خصائصهم الشبابية، بل ويتجاوز طموحاتهم وتصوراتهم، ويقف منهم موقف القائد لهم، فيَحدث في الشباب تجاوب نفسي وحب عميق للمربي، وانتماء قوي لهذه الدعوة التي يمثلها ذلك المربي القائد، وكذلك أطلقت قدراتهم العجيبة من العمل والإنجاز المبدع.

وهذه هي القصة كما يرويها الأستاذ / محمود عبد الحليم عليه رحمة الله في كتابه أحداث صنعت التاريخ، مع بعض التصرف والاختصار:

وفد من إخوان مغاغة بمحافظة المنيا يزور المركز العام بالقاهرة:

زار وفد من إخوان مغاغة – محافظة المنيا– المركز العام على غير موعد ليعرض علينا مشكلة غريبة؛ تتلخص هذه المشكلة في أن في مغاغة مدرسة ابتدائية أهلية تملكها جمعية قبطية، وهي المدرسة الابتدائية الوحيدة التي يلتحق بها أبناء مغاغة وضواحيها الكثيرة، وناظر المدرسة من قديم هو الأستاذ الشيخ "حسن سيد" وهو من العلماء وإمام وخطيب المسجد الكبير بمغاغة، فلما أنشئت شعبة الإخوان المسلمين بمغاغة انضم إليها فضلاء أهالي مغاغة ومنهم الأستاذ الشيخ" حسن سيد" وأسندت رياستها إليه، ولم يدر بخلد "الإخوان" ولا خلد الأستاذ الشيخ "حسن سيد" أن في هذا تعارضًا مع مصلحة المدرسة.

لم يفاتحه مديري الجمعية في ذلك بل أسروه في أنفسهم حتى انتهى العام الدراسي فلم يفاتحوه أيضًا، وانتظروا حتى قاربت إجازة الصيف على الانتهاء وتيقنوا أن جميع المدارس الأهلية في القطر قد استوفت العدد اللازم لها من المدرسين والنظار، وأن جميع المدرسين قد تم تعاقدهم مع المدارس؛ حينئذ فاجئوا الرجل الذي أفنى زهرة شبابه في خدمتهم بخطاب يقولون فيه: إن الجمعية قد قررت الاستغناء عنه.

وأصاب الارتباك الأستاذ الشيخ حسن، والذي كان يعول أسرة كبيرة، وقد رتب معيشته على أساس هذا المورد الذي يكتسبه من عمله بهذه المدرسة حيث لم يكن مرتبه من وظيفته في الأوقاف يبلغ نصف مرتبه من المدرسة، ولم يكن في ذلك الوقت في تلك المدارس حق للمفصول أو المستغنى عنه في معاش ولا مكافأة.

وامعتصماه:

كان وقع هذه القصة حين قصها وفد إخوان مغاغة على سمع الأستاذ المرشد حسن البنا كوقع كلمة "وامعتصماه" إذ قال لإخوان مغاغة وهو يبتسم:

"لا بأس، إذن ننشئ له مدرسة يكون هو ناظرها وصاحبها".

لم يكن لقولة الأستاذ المرشد هذه معنى في عرف العقل والمنطق والقياس للأسباب الآتية:

أولًا: لم يبق على بدء الدراسة إلا أقل من شهر واحد.

ثانيًا: أن هذا المشروع يحتاج إلى رأس مال لا يقل عن بضعة آلاف من الجنيهات في ذلك الوقت، ويستغرق تنفيذه إذا وجد المال سنة على الأقل.

ثالثًا: استحالة العثور في هذا الوقت على مدرس واحد يتعاقد معه بعد أن ارتبط كل مدرس بمدرسته.

رابعًا: أن إعداد المقاعد والقماطر (التخت) والسبورات لمدرسة كهذه يحتاج إلى عدة أشهر.

خامسًا: باعتبارها مدرسة جديدة تحتاج إلى عام كامل؛ حتى يعلم الناس بوجودها، ويثقوا بها؛ لاسيما وفي المدينة مدرسة قديمة أثبتت جدارتها من قبل والجميع يثقون بها.

تلقى وفد إخوان مغاغة وتلقينا -نحن الحاضرون- من إخوان المركز العام قولة الأستاذ هذه بابتسامة فيها كل المعاني التي تضمنتها الخمسة أسباب السابقة، ولكن الأستاذ المرشد مصممًا على قولته حيث كررها أكثر من مرة تكرار الواثق المتمكن، ومع ارتيابنا مما نراه من استحالة في تحقيق هذا المشروع فإن ثقتنا التي تفوق كل تصور في الأستاذ المرشد جعلتنا نتهم عقولنا ونتهم المنطق والواقع ونصدق ما يقول.

حسن البنا وتربية الرجال لقيادة مجتمعاتهم:

إن هذا الرجل الذي آتاه الله تعالى من العلم والحكمة ما بهر عقول كبار العلماء؛ فطلبوا إليه أن يؤلف كتبًا يودعها هذه المعارف فكان رده عليهم: إنني لا أؤلف كُتبًا يكون مصيرها تزيين الرفوف وأحشاء المكتبات، وإنما مهمتي أن أؤلف رجالا أقذف بالرجل منهم في بلد فيحييه، فالرجل منهم كتاب حي ينتقل إلى الناس، ويقتحم عليهم عقولهم وقلوبهم، ويبثهم كل ما في قلبه وعقله، ويُؤلف منهم رجالًا كما أُلف هو من قبل.

إن هذا الرجل الذي ربى هذا الشباب الغض على أسمى المعاني الإنسانية وأجلها من إيمان وإيثار وتضحية لم تكن تربيته هذه تربية عقيمة يقف بها عند حدود تطهير النفس وتزكية الروح ثم يعتزل أصحابها المجتمع متفانين في العبادة، بل كان يربيهم هذه التربية ثم يلقي بهم في خضم المجتمع باعتبار أنهم كنوز يستثمرها في إصلاح ما فسد منه وبناء ما انهار من بنيانه.

وكان الأستاذ نفسه هو أقدر الناس على استثمار هذه الكنوز وأبرعهم في الإفادة منها، وأبصرهم بمكامن اللآلئ والدرر فيها، وأكثرهم تمكنا من سد كل ثغرة من ثغرات المجتمع بما يناسبها من هذه اللآلئ والدرر كما يقول المثل العربي "يضع الهناء مواضع النقب"، على أساس من معرفته بما تحت يده من هذه الكنوز قال واثقا قولته التي قالها، قالها وهو يعلم أنها بحكم العقل وحده والمنطق والحساب إنما هي نوع من المحال، ولكن الذي بيده مفاتيح هذه الكنوز هو فرق العقل والمنطق والحساب {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (النور:٣٨). إن العنصر البشري طاقة كامنة لا حدود لقوتها ولكنها مفتقرة دائمًا إلى من يستطيع تفجيرها.

وبدأت خطوات إنشاء المدرسة أو تحقيق المحال:

قال الأستاذ المرشد لوفد إخوان مغاغة، أنتم مكلفون بأمرين اثنين عليكم أن تنجزوهما:

الأول: أن تقولوا للأخ الأستاذ الشيخ "حسن سيد": إن الإخوان قرروا أن ينشئوا لك في مغاغة مدرسة ابتدائية تبدأ الدراسة فيها -إن شاء الله تعالى- من أول هذا العام الدراسي وتكون أنت ناظرها.

الثاني: أن تجتمعوا بإخوانكم جميعًا وتدبروا مكانا يصلح أن يكون مدرسة مهما كان إيجاره والمركز العام متكفل بدفع إيجاره.

فإذا تم تدبير المكان فأخبرونا لنكمل الخطوات الأخرى إن شاء الله.

تمت الخطوتان بفضل الله تعالى، وبعد أيام وصل وفد من مغاغة يحمل إلينا نبأ إيجاد المكان المطلوب وقالوا: إن الأخ المهندس الزراعي الأستاذ "شلبي محمد جاد" وكيل الشعبة قدم لنا منزلًا يملكه ملحقًا به فناء واسع وهو مكون من ثلاثة طوابق ليكون مقرًا للمدرسة، وتبرع بقيمة إيجاره في السنة الأولي.

الإعلان والدعاية للمدرسة:

وأراد الأستاذ المرشد أن يقتحم على منافسينا بصاعقة تذهلهم وتفقدهم رشدهم، فقال لوفد مغاغة: ارجعوا إلى إخوانكم واطبعوا أكبر عدد ممكن من الإعلانات، واكتبوا فيها أن المدرسة الإسلامية بمغاغة قد استقدمت جميع هيئة التدريس بها من القاهرة وكلهم من خريجي كليات الجامعة ويحملون شهادات البكالوريوس والليسانس، واكتبوا أسماءهم ومؤهل كل منهم أمام اسمه، واكتبوا في الإعلان أنهم سيحضرون إلى مغاغة يوم كذا في قطار الساعة كذا، وحدد لهم اليوم والساعة.

وقال لهم: عليكم أن توزعوا الإعلانات في جميع أنحاء مغاغة وفي جميع قري المركز، وعليكم أن تكونوا جميعًا في انتظارهم على محطة السكة الحديد.

إعداد هيئة التدريس

ثم التفت إليَّ وقال: عليك أن تتأهب أنت وزميلك "عباس حلمي" و"محمد بسيوني" للسفر معًا إلى مغاغة في يوم كذا وفي قطار الساعة كذا وهو اليوم والساعة اللتان حددهما لإخوان مغاغة.

ودعوت زميلي وقابلنا الأستاذ فقال لنا: إن عليكم أن تعرفوا الناس بأنفسكم وبمؤهلاتكم، وعليكم أن تزوروا أعيان مغاغة وجميع البيوت المعروفة في قري المركز، وستكون زياراتكم لهذه البيوت مبعث ثقتهم في نجاح المشروع، ودافعًا لهم على التبرع له بسخاء، وحين تبدأ المدرسة فعليكم أن تقوموا بأنفسكم بتدريس جميع العلوم وسنضم إليكم في التدريس الأستاذ الشيخ "حسن سيد" الناظر، ولا تتركوا مواقعكم في التدريس إلا بعد أن نعثر على عدد كاف نتعاقد معه من المدرسين المحترفين.

مظاهرات من نوع جديد:

حزمنا أمتعتنا، وركبنا القطار الذي حدده لنا الأستاذ وتوكلنا على الله، حتى إذا صارت محطة مغاغة قاب قوسين أو أدنى أعددنا أنفسنا أمام باب عربة القطار التي كنا فيها لنكون أول النازلين حين يقف القطار، ولما كنا لم ننزل بمغاغة من قبل طمأننا الأستاذ أننا سنجد في انتظارنا عددًا من الإخوان الذين عرفناهم في القاهرة.

ووقف القطار، ولم نكد نقدم رجلا للهبوط حتى رأينا المحطة تموج بمئات الناس الذين يبدو عليهم أنهم من علية القوم، ورأينا الجميع يشيرون بأيديهم إلينا، وتقدم نحونا الإخوان الذين عرفناهم في القاهرة وتناولوا حقيبتنا وأخذوا بأيدينا وأحاطوا بنا، وخرجنا من المحطة في موكب ضخم مهيب نتقدمه نحن الثلاثة وحولنا إخوان مغاغة وخلفنا هذه الجموع كأننا "عرسان" يزفون ليلة الزواج والهتاف "الله أكبر ولله الحمد" يشق عنان السماء، وسلكوا بنا في هذا الموكب الشارع الرئيسي الذي يخترق المدينة من أولها لآخرها، وعلى طول الطريق يرمقنا الناس على الجانبين بنظرات، ويوجهون نحونا إشارات كأنهم كانوا على علم بمقدمنا وفي شوق لرؤيتنا، حتى وصلنا إلى مقر المدرسة؛ فدخلنا ودخل معنا كثير من الناس وأخذ الجميع يرحبون ويبدون سرورهم بمقدمنا.

توزيع المهام، وإتمام إنشاء المدرسة:

كان باقيًا على موعد بدء الدراسة في المدارس الابتدائية أقل من شهر، ولم يكن بد من تقسيم المسئوليات على الإخوان لينهض كل بما يوكل إليه في أسرع وقت ممكن، وكان من مسئولية الأخ الأستاذ "شلبي محمد جاد" المتبرع بالدار أن يغير من شكل المبني ومحتوياته فيهدم أجزاء ويضيف أجزاء حتى يتواءم المبني مع الرسم الذي طلبته وزارة المعارف وجعلته شرطا لاعترافها بالمدرسة، وكان على الأخ الأستاذ محمد فؤاد سليمان ومعه مجموعة من الإخوان أن يحصلوا من مخازن الوزارة ومن المكتبات الأخرى على الكتب اللازمة والكراريس وغيرها من الأدوات المكتبية للصفوف الأربعة.

وهكذا قسم العمل وكان الموكول إلينا من المسئوليات هو أن نشترك في النهار مع اللجان المختلفة في مسئولياتها حتى إذا انتصف النهار وتناولنا طعام الغداء، أعددنا أنفسنا لرحلة يومية يشترك معنا فيها الأستاذ الشيخ "حسن سيد" وبعض "الإخوان" لنزور كل يوم بلدًا من بلاد المركز أو بلدين؛ لنشرح للناس مزايا هذه المدرسة والسبب في إنشائها وما كان من أمر الغدر بالشيخ "حسن سيد"، كما يرون بأعينهم الأشخاص ذوي المؤهلات العالية الذين سيقومون بمهمة التدريس، فتكون نتيجة كل زيارة من هذه الزيارات ضمان نقل أولادهم من مدرسة الأقباط إلى المدرسة الإسلامية وإلحاق أولادهم الجدد بها، ثم تبرعًا سخيا يقدمه أثرياء البلد لحساب إنشاء هذه المدرسة.

كان هذا المجهود المتواصل شاقًا فقد كنا نغادر مغاغة كل يوم عصرًا ولا نعود إليها إلا منتصف الليل لنستأنف في الصباح الباكر العمل مع اللجان المتعددة المسئوليات.

تجاوب المجتمع مع الشباب الجاد:

انهالت التبرعات من أثرياء القرى التي زرناها وتمكنا بذلك من شراء جميع احتياجات المدرسة من كتب وأدوات وسبورات ومكاتب وكراسٍ للمدرسين والزوار وأدوات النظافة وغيرها، ثم واجهتنا معضلة أننا نريد قماطر للتلاميذ، ونريد عددًا كبيرًا يتسع للعدد الذي قدرناه من التلاميذ نتيجة دعايتنا وزياراتنا، وإذا كان معنا ثمن هذه القماطر فإن صناعتها قد تستغرق عدة أشهر ولم يبق على موعد بدء الدراسة إلا عشرة أيام، تذكرت أن أحد أصدقائنا في رشيد كان قد أنشأ مدرسة ابتدائية في مطوبس ولكنه أخفق في المشروع؛ فباع محتوياتها فاشتراها أخ كريم من إخواننا التجار برشيد فأرسلت إليه أن يشحن لنا جميع هذه القماطر (التخت) التي اشتراها، فوصلت مع بدء الدراسة وكانت جديدة وقد طلب في الواحدة المزدوجة المقاعد ثلاثة عشر قرشًا، وهو نفس الثمن الذي اشتراها به مع أنه كان يستطيع أن يبيعها في ذلك الوقت بأكثر من ثلاثين قرشًا، ولو أننا اضطررنا إلى صنعها لتكلفت أكثر من ضعف ذلك.

بدء الدراسة: 

بدأت الدراسة في موعدها والمدرسة مستوفية جميع ما لا تستوفيه مدرسة إلا بعد مضي أربع سنوات على إنشائها أو أكثر إذا كانت الظروف مواتية، وكادت مدرسة الأقباط تتوقف لولا ما تبقي بها من أولاد الأقباط وقليلا ما هم، وأحس المستكبرون الغادرون بفشلهم وخطأ تقديراتهم فبعثوا إلى الأستاذ الشيخ "حسن سيد" يطلبون الصلح معه لكن الرجل رفض أن يضع يده في يد غادرين.

وقمنا نحن الثلاثة بالتدريس طول اليوم ومعنا الناظر وابنه وأخ كريم حصل على دبلوم الفنون التطبيقية في ذلك العام هو الأخ الأستاذ حسن عبد الله القباني، قام بتدريس مادة الرسم، فكان كل منا يدرس جميع حصص اليوم متصلة، وقد يدرس لفصلين في آن واحد، وقد أنهكتنا هذه الفترة التي دخلناها ونحن في أشد حالات الإرهاق من أثر الزيارات المتلاحقة للبلاد، وكان الإخوان في خلال ذلك سواء في القاهرة أو في مغاغة يجدُّون في البحث عن مدرسين للتعاقد معهم حتى وفقوا إلى ثلاثة منهم حلوا محلنا بعد شهر من بدء الدراسة، وقد أدركونا ونحن في الرمق الأخير.

تقييم هذه التجربة:

كان هذا العمل الذي انتدب الإخوان أنفسهم للقيام به في مغاغة، والذي حتمت الظروف النهوض بأعبائه، وقد كشف هذا الامتحان عن طبائع هذه الدعوة بأسلوب جلي وقد تتضح منه القسمات التالية:

أولا: أثبتت الدعوة للإخوان أنفسهم أنها دعوة إيجابية فعالة، كما أثبتت ذلك لغير الإخوان ممن شهدوا مسرح الأحداث، وبينت للجميع أنها دعوة لا تقف عند حد الأقوال والدعاية الكلامية والإقناع العقلي بالأسلوب المنطقي بل إنها تفعل ما تقول وقد تفعل أكثر مما تقول.

ثانيا: أثبتت أن العنصر البشري إذا ما تربى التربية الإسلامية السليمة الكاملة النابعة من الكتاب الكريم يستطيع أن يأتي بما يشبه المعجزات، وأنه لا تعوقه العوائق المادية مهما عظمت.

ثالثًا: أن القيادة القادرة التي تولت الشباب الغض وأنشأته على أقوم الأسس وأعطته من ذات نفسها هي التي تعرف مقدار ما يكمن في هذا الشباب من طاقة خارقة للعادة، وهي التي تعرف كيف توجه هذه الطاقة ومن توجهها لإنجاز أعمال يحكم العقل والقدرة المادية والمنطق باستحالة إنجازها، ومن دستور هذه القيادة المأثور قولها: «إذا صح العزم وضح السبيل».

رابعًا: فسرت معني الأخوة الإسلامية "المسلم أخو المسلم لا يحقره ولا يخذله ولا يسلمه" وأنها إنما تقوم على أسس من التضحية والإيثار لا على الأثرة والاستغلال، فهذا المجهود الذي بذل في إنشاء هذه المدرسة في الظرف المعين الذي كان يجب أن تُنشأ فيه، لا يمكن تقديره بمال مهما كثر، ومع ذلك وبغير منٍّ ولا أذى حين اكتمل المشروع الاكتمال سُلِّم إلى الأخ الذي هببنا لنجدته يتصرف فيه كما يشاء، حيث قال الأستاذ المرشد حين بلغه نبأ الغدر به: "إذن ننشئ له مدرسة يكون هو ناظرها وصاحبها".

خامسًا: أثبتت الدعوة أنها مع قدرتها دعوة سلام وعفة، فقد كان في تصور من دبروا جريمة الغدر من قادة جمعية الأقباط، كما كان في تصور الناس جميعًا في مغاغة أن رد الإخوان على هذه الجريمة النكراء سيكون الاعتداء على هذه الجمعية باليد واللسان، ولكن المفاجأة كانت في أن شيئًا من هذا لم يحدث، وإنما كان الرد هو ما تحدثنا عنه دون مس أي من هؤلاء بكلمة نابية أو لفظ جارح، ذلك أن الدعوة الإسلامية أبعد الدعوات عن فحش القول وعن الاعتداء، لكنها تهب هبة المذعور لحماية من اعتدي عليه من أبنائها ولا تدخر وسعًا في حمايته وحياطته. اهـ.

هذا أحد المواقف التربوية للأستاذ حسن البنا عليه رحمة الله تعالى، يدلنا على طريقته في بناء هذا الجيل الذي عاصره، ثم دفع به إلى الأمة ليحدث بهم هذا التغيير نحو قيم الإسلام ونظمه، ولقد عايشناهم فوجدناهم جيلا مميزا، إذا عايشتهم تشعر أنك انتقلت إلى رحاب الأجيال الصالحة الأولى لأمة الإسلام، وقد يكون لنا - إن شاء الله- وقفة مع قصة أخرى لهذا المربي الملهم الأستاذ حسن البنا رحمه الله تعالى.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم