التربية جزء من نظام الأمة تستهدف تنشئة وتكوين إنسان مسلم متكامل من جميع نواحيه: الجسمية والروحية والعقلية وغيرها، في جميع مراحل نموه، على ضوء القيم والمبادئ التي أتى بها الإسلام، وفي ضوء أساليب وطرق التربية التي بَيَّنها.
والمبادئ الإسلامية هي خير مؤسس وموجه وموحد للفكر التربوي الإسلامي في مختلف القضايا، التي يواجهها ويعالجها اليوم، سواء من ناحية الأهداف أو المحتوى أو الأساليب أو الوسائل وغيرها، والتربية لا تكون جديرة بأن توصف بأنها إسلامية إلا بقدر ما تتمثل مبادئ الشريعة وتصطبغ بها، وتترجمها إلى إجابات وحلول لقضايا التربية وإشكالاتها وتحدياتها.
ومن المعلوم أن الرحمة والرفق بالناس والتيسير عليهم من أهم مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء ومقاصدها، بل لم يرسل الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلا ليكون رحمة للبشرية جمعاء: {وَما أرسَلْناكَ إلَّا رحْمةً للْعَالمِينَ}، والنصوص التي تدل بجلاء على أن الرحمة مبدأ إسلامي أصيل تفوق الحصر.
وفى دراسة للباحث الدكتور علي مصطفى غيي، بعنوان: (التربية بالرحمة من منظور التربية الإسلامية)، مقدمة للمؤتمر الدولي الأول: الرحمة في الاسلام - قسم الدراسات الإسلامية- كلية التربية - جامعة الملك سعود – السعودية، أوصى الباحث جميع العاملين في المجال التربوي بضرورة مراعاة الرحمة في جميع عناصرالعملية التربوية، في وضع الأهداف والمحتوى، في اختيار الأساليب والوسائل التعليمية، في تخطيط الأنشطة المدرسية، وفي التقويم والاختبار.
مفهوم التربية بالرحمة
الرحمة في اللغة العربية تعني: الرقة والتعطف، والمرحمة مثله، وقد رحمه: بالكسر رحمة ومرحمة أيضًا وترحّم عليه، وتراحم القوم رحم بعضهم بعضًا.
والمعنى الاصطلاحي لا يختلف كثيرًا عن المعنى اللغوي؛ إذ يدور حول الرقة والإحسان؛ فالرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم.
وقيل: الرحمة: رقة في النفس، تبعث على سوق الخير لمن تتعدى إليه.
كما أن الرحمة تأتي بمعنى العطف والمودة، من ذلك قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رسُولُ الَّلِّه وَالذِينَ مَعَهُ أشِدَّاءُ عَلى الكُفَّارِ رحَمَاءُ بيْنَهُمْ...}، أي: متعاطفون متوادون بعضهم لبعض، كالولد مع الوالد.
وقال ابن القيم رحمه الله: ومما ينبغي أن يعلم: أن الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه، وشقت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية، فأرحم الناس بك من شق عليك في إيصال مصالحك، ودفع المضار عنك.
فمن رحمة الأب بولده: أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، ومتى أهمل من ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه ويريحه. فهذه رحمة مقرونة بجهل، كرحمة الأم.
ويفهم من التعريفين اللغوي والاصطلاحي: أن الرحمة شعور قلبي بالرقة والعطف والشفقة على المرحوم، وثمرة ذلك الشعور الإحسان إلى المرحوم والتلطف به، واللين وإرادة الخير له، وكف الأذى عنه، بجميع الوسائل والطرق الممكنة والمشروعة.
ومن هنا تتضح العلاقة الترابطية بين التربية بمفهومها الإسلامي الذي يعني إعداد الإنسان إعدادًا متكاملًا دينيًا ودنيويًا في ضوء منهج الشريعة الإسلامية، وبين الرحمة بالمفهوم السابق، فتكون الرحمة في هذه التربية وسيلة وغاية في آن واحد؛ لأن المطلوب من المربي أن يكون متحليًا بصفة الرحمة بوصفه أسلوبًا من أمثل الأساليب في التأثير في المتربي، وإعداده الإعداد الكامل من جميع النواحي، والرحمة أيضًا غاية بحد ذاتها؛ لأن التربية تهدف إلى غرس خلق الرحمة في نفس المتربي، حتى يصير إنسانًا سويًا مستقيمًا، يحمل الخير للبشرية جمعاء، بل وللكون كله حيواناته وجماداته، فلا يسعى في الأرض فسادًا، ولا يكون معول هدم للإنسان ولا للبيئة، لأنه رُبّي على الرحمة والشفقة على جميع المخلوقات.
فالتربية والرحمة متلازمان تلازم الهدف والوسيلة، التربية تستهدف غرس قيمة الرحمة في نفوس الناشئة بشتى الطرق التربوية، وفي نفس الوقت فإن الرحمة تمثل وسيلة تربوية ناجعة لتعزيز نفسها بوصفها سلوكًا وقيمة إيجابية ومرغوبة؛ ليس لدى الطلبة وحدهم، وإنما لدى المجتمع التعليمي بكامله.
ومن هذا المنطلق فإن مفهوم الرحمة في التربية هو: استخدام أسلوب الرحمة والعطف على المتربي والإحسان إليه، لغرس صفة الرحمة في قلبه، حتى تظهر آثار تلك الصفة الربانية في أقواله وأفعاله، فيعطف على بني جنسه على اختلاف ألوانهم وأشكالهم ومعتقداتهم، ويشفق على البيئة التي يعيش فيها، أيًا كانت تلك البيئة، ويبتعد عن العنف غير المبرر، والشدة غير المنضبطة، قال السعدي رحمه الله: (وهذه الرحمة التي في القلوب، تظهر آثارها على الجوارق واللسان، في السعي في إيصال البر، والخير، والمنافع إلى الناس. وإزالة الأضرار والمكاره عنهم).
التأصيل الشرعي للتربية بالرحمة وأهميتها في التربية الإسلامية
الرحمة صفة من صفات رب العالمين، ولقد انفردت صفة الرحمة في القرآن الكريم بالصدارة، وبفارق كبير عن أي صفة أخلاقية أخرى، حيث تكررت صفة الرحمة بمشتقاتها ثلاث مائة وخمس عشرة مرة. وهذا دليل على أن الأصل في الإسلام الرحمة والشفقة، لا العنف والشدة.
وقد وصف الله سبحانه وتعالى نفسه بصفة الرحمة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، قال تعالى: {كَتبَ ربكُمْ عَلى نفْسِهِ الرحْمةَ}، وقال سبحانه وتعالى: {وَرحْمتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ء فسَأكْتُبُهَا للذِينَ يَتَّقُونَ وَيؤْتونَ الزكَّاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتنا يؤْمِنُونَ}.
وقد جعل سبحانه وتعالى إرسال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أرسَلْناكَ إلَّا رحْمةً للْعَالمِينَ}، ووصفه بالرحمة، فقال: {لقَدْ جَاءكُمْ رسُولٌ مِنْ أنْ فُسِكُمْ عَزِيزٌ عَليْهِ مَا عَنتمْ حَريصٌ عَليْكُمْ بِالمُؤْمِنينَ رءوفٌ رحِيمٌ}.
أما في السنة النبوية فقد استفاضت نصوصها الداعية إلى الرحمة، الحاثة عليها، المرغبة فيها إما نصًا أو مفهومًا، كيف لا وصاحبها صلى الله عليه وسلم هو نبي الرحمة، كما وصف نفسه، فقال: «أنا محمد، وأحمد، والمقفى، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة»، فهو الرحمة المهداة إلى جميع العالمين، وقد حث النبي أمته على التحلي بخلق الرحمة، رغبة وأملًا في رحمة الله سبحانه وتعالى، فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرحم الله من لا يرحم الناس».
وعن أبي هريرة قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن بن علي، وعنده الأقرع ابن حابس التميمي جالس، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قَبّلت منهم أحدًا! فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «من لا يَرحم لا يُرحم».
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتقبلون صبيانكم؟! فما نقبلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة».
قال ابن بطال بعد أن ذكر عددًا من الأحاديث الحاضة على الرحمة: «في هذه الأحاديث الحض على استعمال الرحمة للخلق كلهم، كافرهم، ومؤمنهم، ولجميع البهائم والرفق بها، وأن ذلك مما يغفر الله به الذنوب، ويكفر به الخطايا، فينبغي لكل مؤمن عاقل أن يرغب في الأخذ بحظه من الرحمة، ويستعملها في أبناء جنسه وفي كل حيوان».
كل هذه النصوص وغيرها تدل دلالة صريحة على أن الإسلام رحمة من الله لبني آدم، لنستشعر سعة رحمة الله بخلقه، فإذا كان رب الناس الذي هو المالك لهم على الحقيقة، يعامل عباده بمقتضى هذه الرحمة التي وسعت كل شيء، فأحرى أن يتخلق عباده بأخلاقه، وتظهر عليهم آثار هذه الأخلاق في معاملة بعضهم لبعض، لا سيما في الميدان التربوي، الذي يكون التعامل فيه مع الفئة الغضة الطرية في المجتمع، وهم الصغار، ولا تنجح معهم وسيلة من وسائل التربية أو أسلوبًا من أساليبها إذا كان خاليًا من الرحمة والعطف والشفقة.
ويكاد يجمع التربويون على أن الرحمة والحب والعطف والحنان من أهم دعائم وأساسات التربية، فإن الحب يتمثل في الحنو على المتربي، وتقبيله واحتضانه، وإظهار محبته، والعطف عليه، والطفل وإن كان صغيرًا ضعيف الإدراك قليل الفهم إلا أنه يعي البسمة الحانية، ويدرك الغضب، فلا يمكن أن يتعلم الطفل الرحمة والحنان والعطف إذا كان والده يقسو عليه ولا يرحمه، فإن المربين لا يمكن أن يُربوا أولادهم بأسلوب الرهبة والقسوة فقط؛ بل لا بد من الحب الفياض الغامر، والرحمة والشفقة على المتربين، وهم من ثم ينقلون هذا الحب إلى غيرهم.
أصناف التربية بالرحمة
يعتمد الإسلام مبدأ الرحمة بصورة عامة في جميع شؤون الحياة، فيجعل منه سمة تميز المؤمن، وعنصرًا يقوي الإيمان، وفضيلة تزين العمل، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه».
والرحمة تدخل في جميع أنواع التربية، ومع جميع أصناف المتربين، وتتأكد التربية بالرحمة مع المتربي الضعيف، الذي لا حيلة له ولا قدرة على المقاومة والدفاع عن نفسه، ولذا نجد في التربية الإسلامية الحض على استعمال التربية بالرحمة مع الأطفال والصغار، ومع الفقراء والمساكين، ومع العمال والخدم، ومع جميع أصناف الخلق، فالمنهج الإسلامي في التربية بالرحمة لا تميز بين مسلم وكافر، وبين جنس وآخر، بل يربي جميع أصناف الخلق بالرحمة، يرفق بضعيفهم، ويسد خلة فقيرهم، ويطعم جائعهم، ويكسي عاريهم ويصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ارحموا تُرحموا، واغفروا يغفر الله لكم».
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «ارحموا» "أتى بصيغة العموم، ليشمل جميع أصناف الخلق، فيرحم البر والفاجر، والناطق والبهم، والوحوش والطير.
والتربية بالرحمة يمكن تصنيفها بناء على نوع الرحمة المستعملة فيها إلى:
1- الرحمة النافعة والضارة:
أولا: الرحمة النافعة تربويًا:
هذا النوع من الرحمة هو الأصل في التربية، والأدلة الدالة عليه كثيرة، وقد سبق سرد بعض منها، وعن أنس بن مالك قال: «ما رأيت أحدا أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إبراهيم مسترضعا في عوالي المدينة فكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت وكان ظئره قينا، فيأخذه ويقبله ثم يرجع». الحديث رواه أبو حاتم. ومعنى (ظئره قينًا) أي: كان زوج مُرضعته حدّادًا. وعن أبي هريرة قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل ومعه صبي، فجعل يضمه إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أترحمه؟» قال: نعم، قال: «فالله أرحم بك منك به، وهو أرحم الراحمين».
ثانيًا: الرحمة المضرة تربويًا:
وينبغي التنبيه إلى أن من الرحمة ما هو مذموم؛ كالرحمة التي يحصل بسببها تعطيل لشرع الله، أو تهاون في تطبيق حدوده وأوامره، قال ابن تيمية رحمه الله: «فإن الرأفة والرحمة يحبهما الله ما لم تكن مضيعة لدين الله»؛ لأن الرحمة الحقيقية في تطبيق شرع الله وإقامة حدوده، قال ابن تيمية رحمه الله: «إن العقوبات الشرعية كلها أدوية نافعة، يصلح الله بها مرض القلوب، وهي من رحمة الله بعباده ورأفته بهم، الداخلة في قوله تعالى: {وَمَا أرسَلْناكَ إلَّا رحْمةً للْعَالمِينَ}، فمن ترك هذه الرحمة النافعة لرأفة يجدها بالمريض، فهو الذي أعان على عذابه وهلاكه، وإن كان لا يريد إلا الخير، إذ هو في ذلك جاهل أحمق».
ولذا نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن أن تأخذهم رأفة أو رحمة في تطبيق حدود الله وإقامة شرعه، فقال: {الزانيةُ وَالزاني فاجْلدُوا كُلَّ وَاحِد مِنْهُمَا مِئةَ جَلْدَة ولَا تَأخُذكُمْ بِهمَا رأفةٌ في دِينِ الَّلِه إنْ كُنْتمْ تؤْمِنونَ بِالَّلِّه وَاليَوْم الْآخِرِ وَليشْهَدْ عَذَابهُمَا طائفَةٌ مِنَ المُؤْمِنينَ}.
ومن الرحمة المذمومة، ما يكون سببًا في فساد المرحوم وهلاكه، كما يفعل كثير من الآباء من ترك تربية الأبناء وتأديبهم، وعقوبتهم رحمة بهم، وعطفًا عليهم، فيتسببون في فسادهم وهلاكهم وهم لا يشعرون. قال ابن تيمية رحمه الله: «وما يفعله بعض النساء والرجال الجهال بمرضاهم، وبمن يربونه من أولادهم، وغلمانهم، وغيرهم، في ترك تأديبهم وعقوبتهم، على ما يأتونه من الشر ويتركونه من الخير رأفة بهم، فيكون ذلك سبب فسادهم وعداواتهم وهلاكهم».
وقال ابن القيم رحمه الله: «إن الرحمة، صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه، وشقت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية، فأرحم الناس بك من شق عليك في إيصال مصالحك ودفع المضار عنك، فمن رحمة الأب بولده: أن يُكرِهَهُ على التأدب بالعلم والعمل، ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه، ويرفهه، ويريحه، فهذه رحمة مقرونة بجهل كرحمة الأم».
واستخدام أسلوب الشدة في التعامل مع المتربين ليس ممنوعًا على الإطلاق، وإنما عندما يكون نافعًا ومؤديًا للمصلحة التربوية فإنه مقبول، ولكن بشروط وقيود، وذلك بأن يكون في الوقت المناسب، وبالقدر المناسب، وبالأسلوب المناسب، وأن يكون بعد استخدام الأساليب الأخرى، ويجب التفريق بين الرحمة النافعة والمضرة في التربية؛ لأن عدم التفريق بينهما قد يؤدي بالشخص إلى استخدام الرحمة المذمومة ظنًا منه أنه يستخدم أسلوب الرحمة المحمودة، وأهم الفروق بينهما أن الرحمة المحمودة تكون عن دراية وبصيرة بظروف لموقف ومقوماته، بل وبحالة الشخص، بعكس التربية بالرحمة المضرة، كما أن الرحمة المحمودة تكون لمصلحة الشخص، بينما تكون الرحمة المذمومة نتيجة انفعالات وعواف آنية من المربي، ولا يستطيع المربي أن يميز بين ما يفيد المتربي وبين ما يضره، وإنما هذه الرحمة ناتجة عن عواطف تجيش في صدره غير متبصر بالعواقب.
2- الرحمة الغريزية والمكتسبة:
ويمكن أيضًا تصنيف الرحمة من حيث الغريزة والاكتساب قال عبد الرحمن السعدي: «والرحمة التي يتصف بها العبد نوعان:
النوع الأول: رحمة غريزية؛ قد جبل الله بعض العباد عليها، وجعل في قلوبهم الرأفة والرحمة والحنان على الخلق، ففعلوا بمقتضى هذه الرحمة، جميع ما يقدرون عليه من نفعهم، بحسب استطاعتهم، فهم محمودون، مثابون على ما قاموا به، معذورون على ما عجزوا عنه، وربما كتب الله لهم بنياتهم الصادقة ما عجزت عنه قواهم.
والنوع الثاني: رحمة يكتسبها العبد بسلوكه كل طريق ووسيلة تجعل قلبه على هذا الوصف، فيعلم العبد أن هذا الوصف من أجل مكارم الأخلاق وأكملها، فيجاهد نفسه على الاتصاف به، ويعلم ما رتب الله عليه من الثواب، وما في فواته من حرمان الثواب؛ فيرغب في فضل ربه، ويسعى بالسبب الذي ينال به ذلك، ويعلم أن الجزاء من جنس العمل، ويعلم أن الأخوة الدينية والمحبة الإيمانية، قد عقدها الله وربطها بين المؤمنين، وأمرهم أن يكونوا إخوانًا متحابين، وأن ينبذوا كل ما ينافي ذلك من البغضاء، والعداوات، والتدابر».
ويتأكد على المربي السعي الجاد لاكتساب صفة الرحمة إن لم يكن مطبوعًا بها غريزيًا.
أهداف التربية بالرحمة
يشير التربويون إلى أن مفهوم الهدف التربوي يدل على التغيرات التي يراد حصولها في سلوك الفرد والمجتمع، وهو الغاية المقصودة من رسم الخطط التربوية ووضع المناهج الدراسية، وهو (ما تسعى التربية إلى تحقيقه في الطالب وفي المجتمع، الذي يعيش فيه من تغيرات مرغوب فيها، سواء كانت تحقيق شيء جديد، أو تنمية لشيء موجود).
وتهدف التربية بالرحمة إلى إشاعة سلوك الرحمة من الناحيتين النظرية والتطبيقية بين كافة عناصر المنظومة التربوية، سواء كانت العناصر البشرية في تعاملاتها أو العناصر المعنوية في محتواها، ويتفرع عن هذا الهدف أهداف فرعية أخرى كما يلي:
1- الاقتداء بالله سبحانه وتعالى وبنبيه صلى الله عليه وسلم:
وقد وصف الله سبحانه وتعالى نفسه بصفة الرحمة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، قال تعالى: {كَتبَ ربكُمْ عَلى نفْسِهِ الرحْمةَ}، وقال سبحانه وتعالى: {وَرحْمتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء فسَأكْتُبهَا للذِينَ يتَّقُونَ وَيؤْتونَ الزكَّاةَ وَالذِينَ هُمْ بِيَاتِنا يؤْمِنون}.
وقد جعل سبحانه وتعالى إرسال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، قال تعالى: {وَما أرسَلْناكَ إلَّا رحْمةً للْعَالمِينَ}، ووصفه بالرحمة فقال: {لقَدْ جَاءكُمْ رسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَليْهِ مَا عَنتمْ حَريصٌ عَليْكُمْ بِالمُؤْمِنينَ رءُوفٌ رحِيمٌ}، فإذا كان رب الناس الذي هو المالك لهم على الحقيقة، يعامل عباده بمقتضى هذه الرحمة التي وسعت كل شيء، فأحرى أن يتخلق عباده بأخلاقه، وتظهر عليهم آثار هذه الأخلاق في معاملة بعضهم لبعض، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو المربي الأول، وهو المقتدى به في كل شؤون الدين متحليًا بهذه الصفة العظيمة، فمن الواجب أن يتصف جميع العاملين في المجال التربوي بالرحمة والشفقة.
2- نيل رحمة الله ورضوانه:
وهذا بغية كل مربٍّ مسلم، والهدف الأسمى، الذي يصبو إليه كل معلم مؤمن، ولا يصل إلى هذه الغاية النبيلة إلا من اتصف بالرحمة في كل سلوكيته، وبالأخص في المواقف التربوية، فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرحم الله من لا يرحم الناس».
يقول السعدي رحمه الله: «رحمة العبد للخلق من أكبر الأسباب التي تنال بها رحمة الله، التي من آثارها خيرات الدنيا، وخيرات الآخرة، وفقدها من أكبر القواطع والموانع لرحمة الله، والعبد في غاية الضرورة والافتقار إلى رحمة الله، لا يستغني عنها طرفة عين، وكل ما هو فيه من النعم، واندفاع النقم، من رحمة الله؛ فمتى أراد أن يستبقيها ويستزيد منها، فليعمل جميع الأسباب التي تنال بها رحمته، وتجتمع كلها في قوله تعالى: {إنَّ رحْمةَ الَّلِّه قريبٌ مِنَ المُحْسِنينَ}، وهم المحسنون في عبادة الله، المحسنون إلى عباد الله، والإحسان إلى الخلق أثر من آثار رحمة العبد بهم.
أما من كان بعيدًا عن الإحسان بالخلق، ظلومًا قاسيًا عنيفًا، فهذا لا ينبغي له أن يطمع في رحمة الله، وهو متلبس بظلم عباده.
3- تحبيب التربية الإسلامية إلى المتربين:
إن استعمال الرحمة في التربية يجعل من تلك الأخلاق الكريمة سمة بارزة لهذه التربية، وصفة مميزة للمربين على نهجها، وحينما يلتزم المربي أو المعلم بالرحمة والرفق واللين واللطف والأناة من خلال سلوكه وممارساته في المواقف التربوية، تظهر من خلاله هذه السمة، فيكون المرآة الصادقة التي تعكس التربية الإسلامية الحقيقية، وقد امتثل المربي الأول صلوات ربي وسلامه عليه هذه الصفة في تربيته، كما يدل على هذا قصة الأعرابي الذي بال في المسجد.
كما كان يوصي صلى الله عليه وسلم المربين والمعلمين الذين كان يرسلهم إلى الأمصار لتعليم الناس أمور دينهم وتربيتهم عليها بالرحمة والرفق والتيسير، والبعد عن العنف والشدة والتعنت، وبهذا انشرحت قلوب المتربين والمتعلمين، وأحب الناس الإسلام، ودخلوا فيه أفواجًا.
عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جده قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل قال لهما: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا».
قال ابن حجر: «في الحديث: الأمر بالتيسير في الأمور، والرفق بالرعية، وتحبيب الإيمان إليهم، وترك الشدة؛ لئلا تنفر قلوبهم، ولا سيما فيمن كان قريب العهد بالإسلام، أو قارب حد التكليف من الأطفال؛ ليتمكن الإيمان من قلبه، ويتمرن عليه».
4- تحقيق الأهداف بأيسر الوسائل:
التربية بالرحمة والرفق واللين هي الاختيار الأمثل لتحقيق الغايات، والوصول إلى النتائج المرجوة من النجاح وتحقيق الأهداف التربوية بأيسر السبل، وبدون مشقة وعناء، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه».
5- توطيد العلاقات وتقوية الأواصر:
العلاقة بين المربي والمتربي يجب أن تكون وطيدة وقوية، حتى تحدث عملية التأثر والتأثير، ولا يتأتى ذلك إلا باستعمال الرحمة والرفق بينهما، وذلك لما في الرحمة من أسرار وخصائص عظيمة، فبسببها تهوي الحواجز، وتختصر المسافات، وتقوى الصلات، وتزول الضغائن والأحقاد من القلوب، ويحصل المطلوب، أما العنف والشدة والغلظة فلا تحقق إلا النفرة، والبغض، والقطيعة، قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فبمَا رَحْمة مِنَ الَّلِّه لنْتَ لَهمْ وَلوْ كُنْتَ فَظا غَليظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلكَ}.
نماذج من التطبيقات التربوية للرحمة في التربية الإسلامية
من تأمل في نصوص الشرع وسير السلف واجتهادات العلماء يجد نماذج كثيرة تفوق الحصر من تطبيقات تربوية للرحمة، ولا غرابة فإن نجاح التربية أيًا كانت تتوقف على إشاعة مبدأ الرحمة في جوها، وعلى امتثال معاني الرأفة مع المتربين، أما التربية بالعنف والقسوة فلا تجدي نفعًا، ولو كان من أعظم المربين، قال سبحانه وتعالى مخاطبًا معلم البشرية، ومربي الأمم صلوات ربي وسلامه عليه: {فبمَا رَحْمة مِنَ الَّلِّه لِنْتَ لَهمْ وَلوْ كُنْتَ فظا غَليظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلكَ}.
ولقد تجلت مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم في حياته كلها، وحفلت بها سيرته العطرة، وامتلأت بها شريعته المشرفة، فرحم صلى الله عليه وسلم كل صغير وكبير، وقريب وبعيد، وامرأة وضعيف، بل نالت رحمته الحيوان والجماد، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في معالجة المواقف التربوية بالرحمة، حينما قام أعرابي حديث عهد بالإسلام فبال في مسجده! فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه، وأهريقوا على بوله ذنوبًا من ماء، أو سجلًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين».
وفي موقف تربوي آخر حصل لأحد الصحابة، يتجلى فيه بوضوح انتهاجه صلى الله عليه وسلم نهج الرحمة في التربية، ما حكاه صاحب الموقف نفسه معاوية ابن الحكم السلمي، حيث قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن».
والتطبيقات التربوية للرحمة في الإسلام تعدت الإنسان إلى الحيوان والجماد، فقد جاء النهي في شرعنا عن تعذيب الحيوان أو إخافته أو إجهاده أو إجاعته، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت هزلًا».
وعلى نقيض هذه الصورة، ذكر وسول الله صلى الله عليه وسلم صورة أخرى، لامرأة غفر الله لها ذنبها بسبب كلب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما كلبٌ يطيفُ بِرَكيَّة قد كاد يقتله العطش، إذ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقَهَا، فاستقت له به، فسقته إياه فَغُفر لها به». ركية: بئر، موقَهَا: خُفّها.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار، أو رجل: يا رسول الله، ألا نجعل لك منبرا؟ قال: «إن شئتم»، فجعلوا له منبرًا، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمه إليه، تئن أنين الصبي الذي يسكن، قال: «كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها».
فالذي يرحم الحيوان والجماد، يرحم البشر وبني جنسه من باب أولى، قال تعالى: {مِنْ أجْلِ ذلكَ كَتَبْنَا عَلى بنِي إسْرائيلَ أنَّهُ مَنْ قَتلَ نفْسًا بغيِر نفْس أوْ فسَاد في الْأرْضِ فكَأَنَّما قَتلَ الناسَ جَمِيعًا}، وذلك لما في قلب الأول من القسوة، والغلظة، والشر، وما في قلب الآخر من الرحمة والرقة والرأفة، إذ هو بصدد إحياء كل من له قدرة على إحيائه من الناس، كما أن ما في قلب الأول من القسوة، مستعد لقتل النفوس كلها.
وصار الصحابة رضي الله عنهم على هذا النهج النبوي في الاتصاف في الرحمة لا سيما في المواقف التربوية، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثلًا الذي عرف بشدته، وقوته، تُغير الرحمة، من طباعه، فيصبح رقيقًا يمتلئ قلبه رحمة، ويفيض فؤاده شفقة، ومما يدل على ذلك قوله لعبد الرحمن بن عوف حينما أتاه يكلمه في أن يلين لهم؛ لأنه أخاف الناس حتى خاف الأبكار في خدورهن، فقال: «إني لا أجد لهم إلا ذلك، والله لو أنهم يعلمون ما لهم عندي من الرأفة والرحمة والشفقة؛ لأخذوا ثوبي عن عاتقي».
وهذا أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه من رحمته أنه كان له جفنة من ثريد غدوة وجفنة عشية للأرامل واليتامى والمساكين.
ولم يزل العلماء والباحثون والمفكرون على مر التارين حتى عصرنا هذا يوصون بالتحلي بخلق الرحمة لا سيما في المواقف التربوية، وقلب المربي والمعلم أحوج ما يكون إلى الرحمة. وعلامة الرحمة الموجودة في قلب العبد، أن يكون محبًا لوصول الخير لكافة الخلق عمومًا، وللمؤمنين خصوصًا، كارهًا حصول الشر والضرر عليهم، فبقدر هذه المحبة والكراهة تكون رحمته.
الآثار التربوية والنفسية للتربية بالرحمة
من منظور التربية الإسلامية للتربية بالرحمة آثار تربوية ونفسية حميدة، لعل من أهمها:
1- إشباع الحاجات العاطفية والاجتماعية للمتربي:
من أهم حاجات الطفل الاجتماعية الحاجة إلى الحب والعطف والحنان والرحمة ممن حوله، وهذا الحب المتبادل بينه وبين والديه وإخوته وأقرانه ومعلميه حاجة لازمة لصحته النفسية.
والطفل الذي لا يشبع هذه الحاجة العاطفية، فإنه يعاني من العطش العاطفي، ويشعر بأنه غير مرغوب فيه، ويصبح سيء التوافق، مضطربًا نفسيًا.
ويكاد يجمع التربويون على أن الحب والعطف والحنان من أهم دعائم وأساسات التربية، فالحب يتمثل في الحُنوّ على المتربي، وتقبيله واحتضانه، وإظهار محبته، والعطف عليه، والطفل وإن كان صغيرًا ضعيف الإدراك قليل الفهم إلا أنه يعي البسمة الحانية، ويدرك الغضب، فلا يمكن أن يتعلم الطفل الرحمة والحنان والعطف إذا كان والده يقسو عليه ولا يرحمه، فإن المربين لا يمكنهم أن يربوا تلاميذهم بأسلوب الرهبة والقسوة فقط؛ بل لا بد من الحب الفياض الغامر، والرحمة والشفقة على المتربين، وهم من ثم ينقلون هذا الحب إلى غيرهم.
2- تحقيق الصحة النفسية للمتربي:
وقد أجريت دراسات متعددة لاستقصاء أثر أساليب الوالدين في التعامل مع الأبناء على صحة الأبناء النفسية، وتشير نتائج هذه الدراسات إلى أن التعامل الذي يعطي للطفل شعورًا بالاطمئنان، ويقوم على التقبل والمسايرة والنصح والإرشاد يؤدي إلى نتائج تكيفية أفضل من تلك التي يؤدي إليها التعامل، الذي يقوم على الحرمان والنبذ والضغط والإكراه والعقاب البدني.
إذًا لكي ينشأ الأطفال نشأة سوية خالية من العقد، ومن الكبت والضغط، ولكي يشعروا بالرحمة والسعادة والاستقرار وهم بين آبائهم وأمهاتهم، ولكي يُعَدوا إعدادًا يجعلهم نافعين لغيرهم، مكملين رسالة آبائهم، رافعين من شأن أمتهم، لكي يكونوا كذلك، فهم يحتاجون إلى أن يُعامَلوا معاملة رحيمة رقيقة لطيفة في صغرهم، وأن يشعروا بالاستقرار والراحة النفسية والسعادة القلبية، وهم بين آبائهم وأمهاتهم، إن ذلك يجعلهم يحبون أسرهم، ويقدرون الروابط الأسرية حق قدرها، ويحاولون إقامة مجتمع مماثل أينما وجدوا.
3- رفع المستوى التحصيلي لدى المتربي:
حفظ كرامة الإنسان أهم حق من حقوقه، لأن الإنسان إذا كان يشعر في نفسه بالمهانة جراء ما يعامل به من تحقير وإذلال وانتهاك للكرامة فإنه يكون مكسور الإرادة، ويقتل فيه روق الإبداع، فلا يستطيع أن يقدم أو ينتج شيئًا، فضلًا عن أن يكون في مقام الريادة والابتكار، ويعجز عن أداء الأمانة الملقاة على عاتقه، ولذا منعت الشريعة كل ما من شأنه أن يشعر الإنسان بالمذلة والهوان والوهن؛ فأيما فعل أو قول يشعر بالكرامة والعزة فهو مطلوب في الشرع، وأيما فعل أو قول يشعربالمذلة والهوان فهو ممنوع، وفي ذلك كله حفظ للكرامة.
والتربية بالرحمة تجعل المتربي واثقًا بنفسه شغوفًا بالتحصيل الدراسي، محبًا لأساتذته وللبيئة التعليمية، بعكس التربية التي مبناها القهر والكبت، حيث أثبت علم النفس أن النجاح الذي يحققه الطفل في المستقبل ليس مرده إلى بنيان جسمه وتغذيته بقدر ما يرجع إلى الحب الذي تلقاه في أسرته في سنين طفولته المبكرة.
وعلى العكس من ذلك تمامًا، فإن حرمان الطفل من حب وحنان الأبوين يؤثر سلبًا على نموه الانفعالي والعضوي الفيزيولوجي معا؛ لأن هذه العلاقة تؤثر تأثيرًا مباشرًا، وتدفع الطفل لتعلم أنماط السلوك غير المتكيف، وقد تسبب له حالات من القلق والتوتر؛ يقول ابن خلدون في مقدمته: «ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر، وضيق عن النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث، وهو الظاهر بغير ما في ضميره خوفًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقًا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالًا على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين».
والطفل يحتاج إلى حب المربي ورحمته حتى يأنس به ويشعر بأنه قريب إليه، وعلى العكس إذا لم يجد هذا الحب فإنه ينفر من المعلم ولا يستفيد من تعليمه.
4- حمل رسالة الرحمة لجميع الناس:
المنهج الإسلامي في التربية بالرحمة لا يميز بين مسلم وكافر، وبين جنس وآخر، بل يربي جميع أصناف الخلق بالرحمة، يرفق بضعيفهم، ويسد خلة فقيرهم، ويطعم جائعهم، ويكسي عاريهم، ويصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله ادعُ الله على المشركين، قال: «إني لم أبعث لعانًا، ولكن بعثت رحمة». (بعثت رحمة)، أي: بالرسالة العامة، والإرشاد للهداية، والاجتهاد في التبليغ، والمبالغة في النصح، والحرص على إيمان الجميع، وبالصبر على جفائهم، وترك الدعاء عليهم؛ إذ لو دعا عليهم لهلكوا، وهذه الرحمة يشترك فيها المؤمن والكافر.
5- تحقيق السكينة والدفء الاجتماعي للمتربي:
قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتهِ أنْ خَلقَ لكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ أزْوَاجًا لتسْكُنوا إليْهَا وجَعَلَ بيْنكُمْ مَوَدَّةً وَرحْمَةً إنَّ في ذلكَ لَآيَات لقَوْم يتَفَكَّرونَ}.
جعل الله المودة والرحمة من عناصر الرابطة الزوجية، ومن أهم مقوماتها، وهما من القيم التي تشكل حصنًا واقيًا من كل ما يهدد أمن الأسرة واستقرارها، بعد مرحلة التأسيس، فالمعاملة الحسنة أو العشرة الطيبة قد يكون باعثها المودة، وقد يكون الدافع إليها الرحمة، أو هما معًا.
فهذان العنصران لا بد منهما في محيط الحياة الأسرية؛ وإلا تعرض البناء للانهيار أو الدمار في أي لحظة تطير فيها المودة من القلوب، والرحمة تفوق المودة في الأهمية، لأنها تبسط جناحيها على العلاقة الزوجية في حالات الرضا وفي حالات الغضب، وفي حالات الشقاق وفي حالات الوئام، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ولذا ذكرت الرحمة بعد المودة؛ لأن المودة قاصرة على حالة واحدة: حالة الرضا والمحبة والصفاء بين الزوجين.
ذلك أن الأسرة كما جعلها الله وأراد لها أن تكون هي محل السكن والسكينة، والدفء الاجتماعي والنفسي، ووسيلة المودة والإيثار، وموطن الرحمة والتراحم والإحسان، والأرض المناسبة لزراعة بذور مستقبل حياة الإنسان السلوكية، وميدان التدريب على هذه المعاني الإنسانية الرفيعة، لتصبح سجية وخلقًا.
فيجب على الزوج أن يرحم زوجته ويعطف عليها ويأخذها بالرفق واللين ويعاملها بالحسنى، ويظهر لها الحب والعطف والحنان، وكذلك على الزوجة أن تحب زوجها وترحمه، وهما بذلك يكون أسوتهما رسول الهدى والرحمة، فقد كان صلى الله عليه وسلم خير الناس معاشرة لأزواجه وأحسن الناس رفقًا بهن، وتسامحًا معهن.
وبناء العلاقة بين الزوجين على المودة والرحمة له مغزى تربوي واضح، وهو أنه إذا كانت العلاقة بين الزوجين منسجمة، فإن هذه العلاقة تعمل على نمو شخصيات متكاملة متزنة بين الأولاد، وبالعكس فإن الخلاقات والمشاحنات والقسوة في التعامل بين الزوجين، من شأنها إحداث الاضطراب والنمو النفسي غير السليم بين الأطفال.
وبالجملة ما من معاملة من المعاملات، أو رابطة من الروابط الاجتماعية أو الإنسانية، إلا وأساسها وقوام أمرها الرحمة، فمن علاقة الإنسان بنفسه التي بين جنبيه، وعلاقته بذويه وأهله، إلى علاقته بمجتمعه المحيط به، إلى معاملته لجميع خلق الله من إنسان أو حيوان، كل ذلك مبنيٌّ على هذا الخلق الرفيع، والسجية العظيمة.
ويمكن تلخيص واستنتاج الآثار التربوية والنفسية للتربية بالرحمة مما يلي:
أ. الشعور بالثقة والأمان.
ب. قوة الشخصية مما يؤدي إلى القدرة على المناقشة وإبداء الرأي والدفاع عن النفس والأهل وغيرها.
ج. التعود على خلق الصدق والصراحة لا الكذب والخبث والمكر.
د. المبالاة والاهتمام بالأمور الشخصية والأمور العامة للمجتمع.
هـ. قوة العلاقات الاجتماعية وخاصة مع الوالدين.
ختامًا
1. إن التربية الإسلامية تتميز عن غيرها من النظريات التربوية الأخرى، باستمداد مبادئها وأهدافها وأساليبها من المصادر الإسلامية الثابتة، التي ليست مجموعة فرضيات تثبت عن طريق التجربة، وتكون قابلة للرفض أو القبول، كما أنها ليست مجموعة من المبادئ التي من وضع البشر، بل هي منهج رباني من الله سبحانه وتعالى.
2. إن التربية الإسلامية مبناها وأساسها على الرحمة بالمتربين، فكل ممارسة تربوية خرجت عن الرحمة إلى الشدة والغلظة والعنف، فليست من التربية الإسلامية، وإن مارسها مربون مسلمون، ونسبوها ادعاءً إلى التربية الإسلامية.
3. إن التربية بالرحمة هي الأصل في التربية الإسلامية، وما عداها لا يُلجأ إليه إلا عند الضرورة القصورى، وعند استنفاد كافة أساليب التربية بالرحمة.
4. إن التربية بالرحمة لا تتنافي مع العقوبة المنضبطة، التي لا تستهدف تعذيب المتربي، أو إيذاءه جسديًا أو معنويًا، أو الاعتداء على كرامته وإنسانيته، وإنما العقوبة التي تهدف إلى إصلاح الاعوجاج، وتقويم السلوك المنحرف، وتوقع هذه العقوبة في الوقت المناسب، بالقدر المناسب، وعلى الشخص المناسب.
5. حفل تاريخ هذه الأمة من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا بتطبيقات تربوية رائعة لمبدأ الرحمة والرفق واللين بالمتربي.
6. إن التربية بالرحمة لها آثار حميدة وفوائد جمة تربوية ونفسية على الفرد والمجتمع.
7. إن كثيرًا من الانحرافات الفكرية والاجتماعية حدثت نتيجة لبعد المناهج التربوية الوضعية عن خاصية الوسطية التي تتميز بها التربية الإسلامية، التي تتجلى في تربية الجيل على الرحمة وغرس معانيها في نفوسهم، وهذه التربية هي القادرة على إخراج نوع الإنسان الذي تحتاجه البشرية اليوم للخروج من دوامة الغلو والتطرف والانحلال والتسيب؛ ذلك الإنسان الرحيم المتوازن المعتدل.
.