التربية هي ذاك العلم الذي يهتم بالنمو الشامل والمتكامل للفرد، جسديًا ونفسيًا وعقليًا واجتماعيًا، والتنشئة الاجتماعية هي جزء من التربية في العصر الحديث ونستخدمها نحن للدلالة على تلك القولبة التي يقوم بها المجتمع تجاه الفرد وفق تقاليده وعاداته وقيمه وتراثه الثقافي، إنها تطبع اجتماعي.
وفى دراسة بعنوان: (دور الأسرة في تربية الطفل.. واقع ومرتجى) للدكتور رشراش عبد الخالق، الأستاذ بكلية التربية فى الجامعة اللبنانية قدمت لمؤتمر عن (واقع وآفاق التربية الأسرية)، عقد في ليبيا عام 1995م ناقشت مفهوم وإشكاليات التربية المنزلية وقدمت رؤية مقترحة للتغلب على صعوباتها.
اختلف الباحثون في تعريف الطفولة وتحديد نسبها. وقد جمع بعضها عبد السلام النوبي في كتابه المدخل لرعاية الطفولة يمكن العودة إليه. وتذكر الكتب التربوية أن هذه المرحلة من عمر الإنسان لم تلق ما تستحقه من اهتمام إلا مطلع هذا القرن.
وإن كان بعض الفلاسفة والعلماء، قد حاولوا ملاحظة أبنائهم وتسجيل بعض المعلومات عن تطور نموهم كما فعل العالم (داروين) الذي نشر عام 1877م مقال يدور حول ملاحظات سجلها خلال مراقبته لابنه (دودي) ، وكان الفيلسوف (ويليام بريير) في نفس الفترة تقريبا يدوًن ملاحظاته على ابنه بانتظام ثلاث مرات في اليوم وذلك منذ ولادته حتى سن الثالثة من عمره ونشرها عام 1881م بكتاب تحت عنوان (نفس الطفل) وكان لـ(ألفرد بينه) واختباراته عن الذكاء جهد مميز لقياس ذكاء الأطفال.
هذه المجهودات وغيرها حفّزت كريستمان عام 1893م لأن يطلق على ميدان هذه الدراسات مصطلح ((peologie أي علم الطفل الذي برز فيه عدد من الرواد منهم جان بياجيه في سويسرا. وفالون في فرنسا وجيز يل في أمريكا. وبصدور شرعية حقوق الطفل بتاريخ 20/11/1959م بدأت مسيرة الاعتراف بالطفولة وحقوقها منحى جديدًا. كان من نتيجته أن أصبح الطفل موضوعًا للدراسة في مختلف سنواته الأولى، ومن عدة جوانب.
ونخلص إلى القول بأن الطفل أصبح محور التربية الحديثة، فهو المنطلق وهو المحور، وهو الغاية على حد تعبير جون ديوي في كتابه (التربية والمجتمع).
بعد هذه الدراسات ظهر للجميع أهمية مرحلة الطفولة في عمر الإنسان وأهمية دور الأسرة في تربية أطفالها.
وكان بعض التربويين قد أكدوا على أهمية دور الأسرة أمثال بستالوتزي، وفرديل، وبرت، وكذلك علماء الاجتماع وعلماء النفس، فالمنزل هو المؤسسة التربوية الأولى التي تحتضن الفرد طفلًا ويافعًا وشابًا، ويرسي الأسس لتفتح شخصيته، وفيه يتقرر مستقبله.
والتربية الحديثة تؤكد على أهمية التربية المنزلية في غرس الأسس السليمة، سواء من خلال علاقة أفراد الأسرة بالطفل كأن تكون هذه العلاقة تسلطية أو ديمقراطية أو فوضوية أو إهمالية، أو من خلال علاقة الطفل بالآخرين، كأن يكون خائفًا أو مترددًا، أو متقلبًا أو عدوانيا وفيه يتشرب المفاهيم وقواعد السلوك وفيه يأخذ وحدات القياس التي سيزن بها الأمور ويحكم على ضوئها، وفيه يحب أو يكره بعض المبادىء كالحرية والتعاون والنشاط.... الخ.
ويتفق جميع الباحثين، على أن المنزل هو المكان الأفضل لتربية الأبناء وأن دور الأم التربوي هو الدور البارز في حياتها وحياة طفلها.
ونلاحظ أكثر الأمهات الجديدات في وقتنا هذا أنها لا تحسن القيام بدورها على الوجه الأكمل تجاه طفلها لو اعتمدت فقط على خبرتها البسيطة ومعلوماتها العامة المستقاة من والدتها أو جاراتها، وأن أكثر القواعد التربوية التي تربت عليها أو سمعتها ليست ثابتة، وفي أحسن الأحوال لا تستطيع استخدام هذه المعلومات إلا لمواجهة بعض المشكلات الآتية:
كالعناية بنظافة المولود وتقديم وجبات الطعام له وتحديد أوقات نومه وغير ذلك، وسرعان ما تكتشف أن الرعاية التي يحتاجها طفلها ليست هذه فقط، بل ستتغير احتياجاته بين شهر وشهر وبين سنة وأخرى، وستتنوع كذلك لتشمل النواحي الجسدية والنفسية والعقلية والاجتماعية، فالتربية هي الرعاية الشاملة والمتكاملة للفرد.
فهي أمام مخلوق جديد، أقل ما يقال إنه كتلة من القدرات والاستعدادات الكامنة، تنتظر النمو والنضج لتعبر عن نفسها، ترى ماذا تعرف هي عن هذه القدرات الكامنة؟ وماذا عليها أن تفعل لتساعدها على النمو والنضج والتفتح؟ وكيف تعرف أن معدل النمو هو المعدل المناسب لهذه الفترة أو تلك؟ وكيف تعرف حالة الصحة وحالة المرض؟
وفي مرحلة أخرى كيف تفرّق بين ما هو مفيد له وبين ما هو ضار به؟ وأي سلوك يجب أن تشجعه عليه وأي سلوك يجب أن تثنيه عنه، وأي سلوك يجب أن تتجاهله؟ وكيف تثنيه؟ هل بالمنع أو بالقمع أو بالاقناع؟ وكيف تدربه على العادات الجيدة، وكيف نحكم أن هذه العادات جيدة وغيرها سيئة.
نلاحظ من هذه التساؤلات أن التربية لم تعد تلك الخبرة البسيطة التي تلقنها الأم لابنتها، بل أصبحت علمًا يعلم وخبرة تكتسب ودورًا تعد له الفتاة إعدادًا جيدًا ونتذكر القول المأثور (إذا أردت أن تربي طفلًا فربِّ أمه قبل عشرين عامًا من ولادته) أو (تربية الطفل تبدأ قبل عشرين عامًا من ولادته).
إذا ما تلمسنا الأرض تحت أقدامنا، وتمعنا في العناصر الأساسية لمكونات تربيتنا المنزلية، نعجب لكثرة التناقضات التي تسيطر عليها. إنها مزيج غريب عجيب، يتعايش فيها المعاصر مع الحديث، مع القديم مع الفارق في القدم.
ومن هذا التعايش يتكون خليط، أقل ما يقال عنه أنه بلا لون ولا طعم ولا رائحة، وسنحاول حصر أسباب وجود هذا الخليط المتناقض بثلاث إشكاليات.
الإشكالية الأولى:
انعدام المنهجية الفكرية في تربيتنا، أو بالأحرى سيادة الغموض على منهجنا الفكري فيما يخص بناء الإنسان، اللهم إلا إذا اعتبرنا غموض المنهج هو أيضًا منهج تربوي.
قلت أن تربيتنا المنزلية خليط من عناصر متناقضة تلتقي فيها عناصر المنهج العقلي الذي يبدأ بالكليات وينتقل إلى الجزئيات؛ وعناصر المنهج الواقعي أو التجريبي الذي يبدأ بالجزئيات وينتهي بقانون عام؛ وعناصر المنهج التاريخي الذي يعود بالظاهرة إلى نشأتها وتطورها؛ وعناصر المنهج النقدي الذي يبرز النقاط السلبية والنقاط الإيجابية للموضوع؛ ونتباهى بهذا المزج المقصود قائلين: إننا نختار ما يعجبنا وما يتماشى مع واقعنا بحرية، والحقيقة أن في هذا القول الجميل المبني على حرية الاختيار ظاهريًا جاذبية تخفي وراءها تشويش فكري خطير، نلبسه ثوب منهج جديد نسميه (المنهج الانتقائي) الذي يتداعى عند أول صدمة يتعرض لها وتظهر هشاشته عند أول مناقشة موضوعية له.
إن اختلاط المناهج هذا، ليس بالأمر البسيط إذ ينتج عنه اختلاط في المفاهيم واهتزاز في القيم وهذا يعني أن العناصر التي دعمت استقرار الأسرة العربية في الماضي والمتمثلة بوحدة المفاهيم والقيم انتفت الآن فاهتز استقرار الأسرة وأصبحت الرؤية أمامها غير واضحة ويصعب عليها تبني المفاهيم الجديدة التي تتناقض جذورها، أو استبدال علاقات قديمة بأخرى عصرية.
إنها برأينا في مأزق تربوي، ما له الخيار القيمي الثقافي وكأنني بها تطرح الأسئلة التالية: وفق أي نسق قيمي أنشِئ أولادي؟ وبالتالي وفق أي ثقافة؟ الخيار ليس نظريا، بل واقعي، تطبيقي.
إنها تتخبط في حالة اللاقرار، بين القديم والعصري، بين التقليد والتجديد، بين الاقتداء والاجتهاد، بين الثبات والتحول.
الإشكالية الثانية:
إن مفهوم التربية قديما يستند إلى مفهوم محدد للطبيعة الإنسانية الذي يقسم الإنسان إلى ثنائية الروح والجسد، ثنائية الخير والشر، ويكون دور التربية هو تنمية الجانب الخيّر، وتقييد جانب الشر وتجد في كتب التربية عرض مفصل لهذا المفهوم.
أما مفهوم التربية الحديثة، فهو يستند إلى مفهوم آخر للطبيعة الإنسانية مضمونه أن الانسان مخلوق متطور يتكون من قدرات، واستعدادات كامنة، تعمل التربية على اكتشافها وتنميتها إلى الحدود القصوى.
ولكل مفهوم من هذين المفهومين دعائمه وأساليبه وأدواته وأهدافه، قد يكون الخيار النظري سهل ولكن التربية علم تطبيقي وعليه فالخيار في غاية الصعوبة أمام العارفين، فكيف الحال أمام الآخرين؟
الإشكالية الثالثة:
من خلال التدقيق والتمحيص في واقع الأسرة العربية عامة والليبية بشكل خاص لا أجد هناك مشكلة تسمى مشكلة تربوية، بل هناك أبعد من ذلك بكثير، هناك شيء ما، يمكن أن نسميه تخلف تربوي وهناك فرق بين المشكلة والتخلف.
فالمشكلة التربوية توجد في كل المجتمعات المتقدمة منها والمتخلفة، إنها موقف غامض يشعر بها عدد من الناس، فيسعون لحلها مختارين الأدوات والوسائل.
أما التخلف فهو فهو حالة ضبابية، أو ظلامية، إنه السير وسط ليل دامس السواد، لا فرق بين مبصر وضرير، الكل يتلمس الطريق تلمسًا، الكل مكبل بسواد الليل، مقيد بسلاسل من القيود، بتراث من التقاليد، بحبال من الأوهام.
إنها حالة يشعر فيها الفرد أنه على خير ما يرام، يرتدي ثوب القناعة وباطنه الكسل، قانع بحاله ومتمسك بوضعه، إنه لا يشعر بتخلفه.
ولو افترضنا أن قلة شعرت بالتخلف، لسبب ما نجدها أيضًا تشعر بعجزها عن إيجاد حل، والتخلف التربوي برأينا، حالة تسبق المشكلة التربوية بزمن طويل وقد تستمر سنوات أو حقبات.
أما حالة المشكلة فهي حالة متقدمة؛ إنها مرحلة الوعي، وإذا عم هذا الوعي يسعى أصحابه لإيجاد حلول للمشاكل وتكون بعدها نهضة، وتستمر المشكلات بل وتكثر، مع النهضة، وتستمر الحلول وتتنوع.
إن حالة التخلف هي جمود وحد أدنى من التوتر أما النهضة فهي نشاط دائم وحركة دائمة والفرق بين الاثنين كالفرق بين سكون الجهل وقلق المعرفة، فالوعي الذي لا يرافقه سيرورة وحركة هو استمرار لحالة التخلف، هو وعي متخلف.
وخلاصة القول إن الأسرة في مأزق تربوي نتيجة لهذه الإشكاليات الثلاثة؛ إن معلومات الأسرة العربية عامة عن الطفل في الغالب مشوشة، قلقة مضطربة ومنهجها التربوي غامض ومشوش وخيارها القيمي متغير متذبذب، مضطرب، والعلاقة بين الأسرة والطفل تسلطية قمعية.... أمام هذه الحقائق كيف تنتظر أن تكون أجيالنا؟ فالأرض المتحركة لا تنبت أشجارًا باسقة.
في ختام البحث يرى الباحث أن خطوات العلاج تبدأ باعتماد ما يلي:
أولًا: إنشاء مركز أبحاث ودراسات الطفولة تخصص لها ميزانية سنوية لا نطمح أن تتجاوز ثمن دبابة حديثة.
ثانيًا: إيجاد مراكز لرعاية الأطفال في الأحياء والقرى التي يشرف عليها تربويون وتقنيون لاستغلال وقت الفراغ عند الأطفال وذلك بتنمية مواهبهم وقدراتهم.
ثالثًا: التعاون مع المؤسسات الدولية التي تهتم بالطفولة (اليونيسيف) مثلًا ووضع برامج مشتركة تنفذ في جميع أنحاء البلاد.
رابعًا: توعية الأسرة لدورها التربوي عبر اللقاءات المباشرة وإيجاد برامج متنوعة عبر الإذاعتين المرئية والمسموعة (تلفزيون، راديو).
خامسًا: استبدال فلسفة علاقة الطفل بالجامع التي تقوم على أن الجامع مكان للصلاة وحفظ القرآن فقط بعلاقة جديدة تقوم على أنه أيضا مكان للأنشطة الاجتماعية والثقافية وحتى الترفيهية.
.