ما زلت أتذكر ونحن صغار حيث كنا كل مساء نذهب إلى جدتنا العجوز لتحكى لنا حكاية.. كانت في الغالب قصصها عن أمنا الغولة وعن جرائم زوجة الأب وحكايات عن العفاريت والأشباح وماذا كانت تفعل معها.
كانت كل ليلة تتكرر نفس الحكايات وكنا نملها، لكننا كنا نعاود الكرة كل مساء مكررين الطلب إذ لم يكن هناك بديل، ولم يكن باستطاعتنا القراءة بعد..شيئا فشيئا بدأ ابن خالي الذى انهي تعليمه الجامعي يحكي حكايات مختلفة لنا، بدأنا نتعرف لأول مرة على قصص القرآن..عرفنا قصة يأجوج ومأجوج، وذى القرنين، وأصحاب الكهف، وموسي عليه السلام وفرعون..لم نع حينها القيمة التربوية من حكايات جدتي أو حتي حكايات ابن خالي رغم كونها ممتعه أيضا، ربما لأنه لم يكن أيا منهما قاصدا من رواياته التربية بالقصة، بقدر ما كان إشغال وقت وتسلية لنا.
كبرنا ودخلنا المدرسة الابتدائية وانتقلنا في مراحلها وما إن وصلت للصف الخامس حتى أصبح بمقدورى قراءة القصص المختلفة في المكتبة.. لقد كانت حكايات جدتي وقصص ابن خالي التي لم أفهم مقصودها التربوي ملهبة لخيالي، ومكونة لشغف غير محدود للقراءة والكتب وعالم القصة.
في العام نفسه كان مقرر علينا قصة بعنوان "ذات القلب الذهبي" للكاتبة "جاذبية صدقي"..كانت الحكاية تحكي قصة طفلة سودانية نشأت بالقرب من الغابة ولها مغامرات في الغابة وكانت من بيئة مكافحة.. كانت تسمى زينة.. اجتهدت زينة ودخلت الجامعة وانتقلت إلى الخرطوم وكانت تعمل معلمة بجانب دراستها لكي تستطيع الإنفاق على نفسها وإرسال ما تستطيع إلى عائلتها الكادحة كى تعينهم على مصاعب الحياة؟
مرت سنوات طويلة ولم تغادر ذاكرتي قط.. لا القصة ولا قيمها ولا أجوائها ولا كلماتها ولا شكل غلافها ولا اسم كاتبتها ولا شخوصها.. تعلمت من القصة أن الفقر ليس عيبا طالما بذلنا ماعلينا من عمل فلم نتكاسل ولم نتواكل.. وتعلمت أن الأبناء من الضرورى أن يكونوا في عون أهلهم بالاجتهاد في الدراسة وأحيانا بالعمل بجانب الدراسة ليكفلوا أنفسهم ويساعدوا عائلاتهم.
القصة نفسيا كسرت الحواجز الجغرافية والسياسية التي صنعها الاستعمار ليفرق بين شعوبنا ويباعد بيننا.. فنشأت على عكس الحال في بلادنا وقد كسرت الحواجز النفسية تجاه كل الجنسيات العربية والإسلامية، حتى إنني كنت أحزن إذا سافرت بلد عربي وسألني أحد عن جنسيتي.. كنت أتساءل: أليس لساننا واحد وسمتنا واحد وثقافتنا واحده.. فلماذا إذن التساؤل عن الجنسية؟!
بعدما كبرت أصبح لدي أولاد..أحب أن أحكى وأقرأ لهم؛ لأنى أعرف ماذا تفعل الحكايات والقصص في القلب والوجدان، وأعرف أنها بالتأكيد تلعب دورا في تشكيل التوجهات والتعاملات والرؤي، لكنني حريصة على تحديد القيمة المستهدفة وتبيانها للأبناء، حتى لا يظلوا مثلي لا يعرفون الهدف من القصة إلى الحادية عشرة من عمرهم.
في رحلة القراءة أو الحكي للأبناء لفت انتباهى التطور الحميد في القصة المعاصرة.. واحدة من تلك القصص تكلمت عن طفل وجد طائرا صغيرا لا يستطيع الطيران وقد سقط من عشه الكائن في أعلى الشجرة.. العصفور سقط وكسر جناحه، ولأنه صغير وجريح لم يستطع الطيران نحو العش.. أخذه الطفل إلى بيته وأسكنه معه في غرفته وضمد جناحه وأدفأ الغرفة له وصنع صندوقا وفرشه بالقش ووضع العصفور فيه..هنا انتهي الجزء الأول من القصة..الجزء الثاني من القصة يرويها العصفور.. فيقول وقعت من العش وبينما كنت أهم بالطيران أمسك بى وحش عملاق.. شكله مخيف أخذني إلى مكان غريب وقام بربطي وسجني في مكان يشبه السجن.. ظللت مسجونا مع الوحش فترة طويلة حتى أمكنني الهرب منه بأعجوبة.. الحمد لله اننى نجوت من الوحش.
فهذا النوع من الكتابة يربي الإنسان على أن الحقيقة ليست حكرا على رؤيته أو على معاييرة، وإنما للحقيقة أوجه عدة كل يراها حسب ظروفه وخلفياته.. فما كان في اعتقاد الطفل أنه رحمة، كان في اعتقاد الأخر بأنه خطف وسجن وتعذيب.
اليوم أصبحت القصة لها معايير قيمية ونفسية وتربوية يراعيها الكاتب ويراجعها متخصصون ليصححوا محتواه بحيث تحقق المستهدفات التربوية والنفسية والاجتماعية والثقافية بحيث يكونا مناسبا للمرحلة العمرية نفسيا وتربويا وقيميا وحضاريا!
.