لا شك أن عالم الدين يكتسب ثقةً أكبر فى مجتمعه كلما كان مستقلاً عن السلطات وبعيداً عن دائرة الحكم التى تؤثر بشكل كبير وسلبى على استقلالية ونزاهة القريبين منها، فالعالم رأس ماله هو العلم المنزه عن أى هوى والمستقل عن أى شخصٍ أيّاً كان نفوذه وسلطانه مما قد يفقد العالِم اعتباره العلمي بل وهيبته أمام المجتمع إذا ما قبل أن يكون تابعاً ضمن أدوات الحاكم يتلاعب بها كيفما شاء لخدمة أغراضه حفاظاً على عرشه.
العلاّمة الشيخ محمد الخضر حسين أحد أبرز علماء عصره استقلاليةً ونزاهةً وعلماً، يكفى قراءة سيرة حياته لإدراك الفارق الشاسع بين علماء عاشوا سلاطيناً بعلمهم المنزّه عن الهوى، وعلماء ارتموا فى حضن الأنظمة تحت دعاوى ومبررات واهية.
بعد أقل من شهرين من حركة 23 يوليو، فى 16 سبتمبر 1952م بناءً على طلب ضباط يوليو حيث توجه ثلاثة من الضباط إلى منزله طالبين منه قبول المنصب فنهض بالأمانة ما وسعته الطاقة رغم قصر مدتها، وعندما أحسّ بضغوطٍ تحول بينه وبين القيام بمهام الأمانة الموكلة إليه، صمم على الاستقالة فى 7 يناير 1954.
حيث احتدم الصراع بين عبد الناصر ومعسكره من صغار الضباط المنتفعين من الحكم الجديد من جهة وبين الرئيس اللواء محمد نجيب وجماعة الإخوان المسلمين من جهةٍ أخرى، فطلب منه العسكر فتوى بأن هؤلاء (أى الإخوان) كفار أو خوارج أو بغاة.
فقال الشيخ: معاذ الله أن أختم حياتي بهذه الفتوى وأضع دماءهم فى رقبتى، معاذ الله أن أقول عن الدعاة بغاة، لقد عشت خادماً لدينى لا مستخدماً له ثم قال قولته الشهيرة: "ويكفى العبد كِسرة خبزٍ وشربة ماءٍ، وما أكثر الفضاء فى ملكوت الله، وإنى أشهد الله أن الإخوان دعوة ربانية عرفتهم ميادين البذل والعطاء والجهاد والتضحية، لم يخونوا ولم يغدروا بما عرفت عنهم، وها أنا ذا أعلن استقالتي من كل منصبٍ يحول بينى وبين إرضاء ربى" مختتما بقوله: "إن الأزهر أمانةً فى عنقى أسلمها – حين أسلمها – موفورةً كاملة، بل وإذا لم يتأتّ أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقل من أن يحصل على نقص".
وكان له موقف مشرف حين طلب أحد أعضاء مجلس الثورة مساواة الجنسين في الميراث، ولما علم الشيخ بذلك أنذرهم إن لم يتراجعوا عن هذا فسيلبس كفنه، ويدعو الشعب إلى زلزلة الحكومة والقيام عليها لاعتدائها على حكم من أحكام الله، فكف ذلك العضو عما نواه من تغيير حكم الله تعالى.
ولد - رحمه الله تعالى- في مدينة نَفْطة بتونس في 16 أغسطس 1876م، وأصل أسرته من الجزائر، وتوفي عام 1958،عن أربع وثمانين سنة، ودفن في القاهرة في مقبرة أصدقائه آل تيمور، وأهدى مكتبته العلمية النادرة الضخمة لزوجه الأخيرة.
.