تبين للإمام أبي حامد الغزالي بعد طول تطواف في مختلف العلوم والأفكار أن هذه الأمة تحتاج إصلاحا جذريا يعتمد على منهج آخر غير المنهج الرسمي الذي يختزن العلم والثقافة في فئات بعينها يتم تعليمهم أو تلقينهم ليتسلموا بعد ذلك المناصب العامة أو الوظائف السلطانية.
ولذلك ركّز الإمام الغزالي على الأهداف التي تؤدي إلى رفع المستوى الروحي والخلقي والفكري والاجتماعي والسياسي والتربوي للفرد خاصة وللمجتمع عامة، أي أنه أراد إعادة صياغة منظومة القيم التربوية الكاملة لتتسق مع الغايات الكبرى التي حرص الإسلام على غرسها في قلوب معتنقيه، ومتابعة تعهدها بالإنماء والتطور.
التعريف بالإمام الغزالى
هو أبو حامد محمد الغزالي ولد في بلاد خرسان عام 450 هـ، كان شغوفا بالعلم والمعرفة فدرس في صباه على يد مجموعة من علماء عصره، ثم انتقل إلى نيسابور حيث تتلمذ على يد الإمام الجويني، فدرس علم الكلام وعلوم الدين وكان ذكيا موهوبا، ارتحل إلى بغداد بعد وفاة الإمام الجويني واشترك في مناظرة مع بعض العلماء في حضور الوزير نظام الملك صاحب أقوي دولة سلجوقية، وأظهر الغزالي براعة وتفوقا في المناظرة فأعجب به الوزير وعهد إليه بالتدريس في المدرسة النظامية التي أسسها في بغداد عام 484 هـ.
وكان الإمام الغزالي فصيح اللسان لدرجة إعجاب الناس به ومن هنا تطرق الشك إلى نفسه وهذا جعله يزيد من تحصيله للعلم، فقرأ للفارابي وابن سينا وأخرج كتابه (تهافت الفلاسفة) أي تسارع الفلاسفة وحاول نقد كلامهم وذم مذهبهم، كما يظل كتابه (إحياء علوم الدين) مرجعا تربويا رئيسيا للمختصين في العملية التربوية من بعده.
الفكر التربوي عند الغزالي
شملت معالجة الإمام الغزالي لقضية التربية، عدداً من القضايا التي تشغل الفكر التربوي المعاصر، مثل المعرفة والإدراك والمناهج وأقسامها ومراحل التعليم وغيرها، وقد ضمّن آراءه التربوية في مؤلفه الرائد (إحياء علوم الدين) وهو واحد من مؤلفاته التي تزيد عن سبعين مؤلفا.
وقد ركز الغزالي في تفكيره التربوي على الواقعية، حيث كان يؤكد على ضرورة تربية الفرد تربية صالحة لأن الفرد في نظره أساس المجتمع ولذلك فإن صلاح الفرد يحقق صلاح المجتمع، وكان يرى في التعليم سعادة الدنيا والآخرة.
وإن كان الغزالي لم يكتب إلا القليل عن تربية الإناث، إلا أنه كان يرى العلم واجبا على الرجال والنساء، وما قاله الغزالي بالنسبة للتعليم في الصغر له أهمية أساسية لأن نفسية الطفل وقلبه يكونان خاليين وقابلين للتطبيق عليهما.
يضاف إلى ذلك أن الغزالي كان يرى أن التربية تتأثر بطبيعة الطفل وبيئته، وهو بذلك كشف عن ارتباط التربية بالسياق الاجتماعي والثقافي والسياسي للمجتمع، وهي القضية التي تشغل الفكر التربوي في الوقت الراهن.
آراؤه التربوية
أثرت الفلسفة الصوفية على أراء الغزالى التربوية تأثيراً واضحاً، وإذا أضفنا إلى ذلك الاتجاهات السائدة في عصره فسوف يتضح لنا مدى عمق أرائه وأهميتها في سجل التطور التربوي.
وكان الغزالي ينزع إلى الواقعية في تفكيره وأهمية السعادة في الدنيا والآخرة مع حرص شديد على التطهر من الرذائل والتحلي بالفضائل، ولم ينسى في غمرة اهتمامه بالدين عنايته بالعلوم الدنيوية كالطب والحساب وبعض الصناعات الأخرى.وكان دائب السعي في تربية الأفراد تربية صحيحة، ويرى أن التربية للإنسان تكمل مابه من نقص.
ولكن الإمام الغزالي لم يكن متحمساً للتعليم المهني، ولم يكن من الساعين إلى الأجور مقابل الخدمات، حيث أنه اهتم بالعلم والتعليم، وبلغ اهتمامه درجة يعتقد أن التعليم الصحيح هو السبيل إلى التقرب من الله، وإن كان للعلم هذه المنزلة فقد استشهد الغزالي بكلام الله عز وجل، وبالأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه، وذوي الرأي السديد للتدليل على رفعة التعليم وإخلاص المعلمين في إعمالهم.
وهدف التعليم والتهذيب عند الغزالي الوصول إلى الكمال الإنساني، باكتسابه الفضيلة عن طريق العلم، ذكر في أكثر من مناسبة أن العلم إن يطلب لذاته فهو فضيلة في ذاته على الإطلاق أي يطلب المتعلم العلم لما في العلم من قيمة ومن متعة ومن لذة يستشعر بها طالب العلم.
آداب العالم والمتعلم
آداب العالم: لزوم العلم، والعمل بالعلم، ودوام الوقار، ومنع التكبر وترك الدعوة إليه، والرفق بالمتعلم، وتأنيب المتعجرف، وإصلاح المسألة للبليد، وترك الأنفة لقول لأدري، وتكون همته عن السؤال خلاصة من السائل وإخلاص السائل، وترك التكلف، واستماع للحجة والقبول لها إن كانت من الخصم.
آداب المتعلم مع العالم: بدأ بالسلام، ويقبل بين يديه بالكلام، ويقوم له إذا قام، ولا يقول له قال فلان خلاف ماقلت، ولا يسأل جليسه في مجلسه، ولا يبتسم عند مخاطبته، ولا يشير عليه بخلاف رأيه، ولا يأخذ بثوبه إذا قام، ولايستفهمه عن مسالة في طريقه حتى يبلغ إلى منزله، ولا يكثر عليه عند ملله.
آداب معلم الصبيان: يبدأ بصلاح نفسه فإن أعينهم إليه ناضرة وآذانهم إليه مصغية، فما استحسنه فهو عندهم حسن، وما ستقبحه فهو عندهم قبيح، ويلزم الصمت في جلسته، ويكون معظم تأديبه بالرهبة.
ولا يكثر الضرب والتعذيب، ولا يحادثهم فيجرؤ عليه، ولا يدعهم يتحدثون فينبسطون بين يديه، ولا يمازح بين أيديهم أحدا، ويتنزه عما يعطونه ويتورع عما بين يديه، ويعلمهم الطهارة والصلاة ويعرفهم بما يلحقهم من نجاسة.
.