تعرف على معالم الفكر التربوي عند الإمام حسن البنا

يعد الإمام الشهيد حسن البنا قامة علمية بارزة في مجال التربية وكان ثروة طائلة من علم النفس وفن التربية وقواعد الاجتماع وكان له بصر نافذ بطبائع الجماهير وقيم الأفراد وميزان المواهب واصطياد الرجال، وكانت كلماته البارعة تأخذ طريقها المستقيم إلى عقولهم فتأسرها.

ففي دراسة شائقة للباحث الدكتور محمود خليل أبو دف، أستاذ أصول التربية بالجامعة الإسلامية بفلسطين المحتلة، بعنوان "معالم الفكر التربوي لدى الإمام الشهيد حسن البنا" تتبع فيها كتابات الإمام حسن البنا رحمه الله، حيث وقف الباحث على جوانب عديدة من فكره التربوي المتميز يمكن إجمال أبرزها على النحو التالي:

أولا: التركيز على البناء الشامل والمتكامل للشخصية المسلمة:

فالتربية الإسلامية عند البنا، ليست مقصورة على جانب واحد من جوانب الشخصية، فقد انسجم مع المنهج الإسلامي في التربية، الذي لا يفصل بين مكونات الطبيعة الإنسانية ويربي في الإنسان جميع جوانبه بطريقة متكاملة ومتوازنة، وقد وصف الشيخ يوسف القرضاوي التربية الإخوانية  بأنها "لا تضع كل اهتمامها في الناحية الروحية أو الخلقية التي يعنى بها المتصوفة والأخلاقيون، ولا تقصر كل جهودها على الناحية الفكرية التي يهتم بها الفلاسفة والعقليون، ولا تجعل أكبر همها في التدريب والجندية كما يصبغ المصلحون الاجتماعيون، إنها في الواقع تهتم بكل هذه الجوانب، وتحرص على كل هذه الألوان من التربية، ذلك أنها تربية للإنسان كل الإنسان، عقله وقلبه وروحه وبدنه، خلقه وسلوكه، كما أنها تعد هذا الإنسان للحياة بسرَّائها وضرّائها، سلمها وحربها وتعده لمواجهة المجتمع بخيره وشره، حلوه ومرّه".

وفي ضوء هذا النهج للبناء الشامل المتكامل لشخصية المسلم، يمكن إنتاج شخصية سوية مبادرة وفاعلة تستطيع القيام بدور فاعل في بناء المجتمع الحضاري.

ثانياً: الطريقة المتميزة في تربية الأبناء:

فالإمام البنا رحمه الله -رغم كثرة انشغالاته- في أعمال الدعوة خارج البيت، لم يقصّر في تربية أبنائه تربية سوية باتباع منهج متميز أصيل في التربية، فكان حقاً قدوة حسنة لأبنائه وللآباء المعنيين بتربية أبنائهم، وقد كان منهجه في تربية أبناءه قائماً على الأسس التالية:

  • الحنان والرعاية وتفقد الأحوال، وبذل الحب والعطف، حيث اعتاد كما قالت ابنته سناء: "أن يقوم بتقبيلنا ونحن نائمون ويطمئن على غطائنا".
  • التربية على النجاح المقترن بالإيمان، فقد كان يحفز أبناءه على النجاح والتفوق ويرشدهم إلى ضرورة إتقان حرفة ما، وهو بنفسه كان يتقن إصلاح الساعات، وقد دفع نجله أحمد سيف الإسلام إلى مطبعة الإخوان المسلمين حتى يتعلم فيها.
  • تعديل السلوك بطريقة عملية قائمة على الإقناع، ذلك أن إصدار التعليمات وتقديم النصائح والإرشادات فقط وإطلاق الأوامر والتحذيرات لا ينجح العملية التربوية مع الأطفال الصغار بل في الغالب تكون نتيجته الصدود والإعراض وعدم التقبل النفسي، أما الطريق الناجح الصحيح فهو غرس القيم في النفوس بطريقةٍ عملية تطبيقية بالأخذ بيد الطفل للممارسة بتوضيح الوسيلة والمعاونة على التنفيذ بالحب والحرص والتدريب على السلوك : تقول ابنته سناء (وفي إحدى المرات أذكر أنه كان لنا جارة وكانت تضع في أصابعها ( طلاء أظافر)، وطبعاً لن أطلب منها أن تضعه لي فأحضرت قلماً أحمر وقمت بتلوين أصابعي وكنا نختلف أنا وسيف من يجلس على يمين السفرة (طاولة الطعام) ومن يجلس على شمالها، وكان من يجلس على يمينه هو من قام بعمل جيد أو صح، ومرات أخرى كان يجلسني أنا حتى لا يكسر بخاطري، فأنا أصغر من سيف فجلست على يمينه يومها فرآني، وكان شديد الملاحظة، فسألني وقتها : ما هذا يا سناء؟! وأخبرته أني رأيت جارتنا تضعه، فقال لي أتعرفي أن هناك أحداً من الصالحين قال "كل مع الكافر ولا تأكل مع أبو أظافر" : لأن الأظافر تجمع تحتها أشياء غير نظيفة، هيا قومي ونظفيه وسننتظرك، لن نأكل، فذهبت وأحضرت (موس) وحاولت إزالته فأزلت جزءاً منه وامتنع الباقي من الخروج، ولما أخبرته بذلك قال "خلاص .. تعالي إلى الطعام ولا تكرريها مرة أخرى"، فرحمه الله كان تعليمه عملياً، ولم يكن بالكلام فقط. ولا بد لي أن أقول إنه كان يعلمنا –رحمه الله- بالحب، فكنا نحبه جداً ونطيعه؛ لأننا نحبه وليس خوفاً منه.
  • التشجيع على الاختلاط بالناس والانفتاح المنضبط، فالانفتاح والتعامل مع الناس، عامل أساس في التنشئة السليمة للأبناء، كما أن التربية القائمة على الانغلاق ومنع الأبناء من الاندماج مع أفراد المجتمع لا ينتج عنه شخصية مبادرة واثقة من نفسها، ولا يربي كائناً اجتماعياً يعيش بفعالية في مجتمعه، وقد كان البنا يسمح لأبنائه بالذهاب للرحلات المدرسية ذات اليوم الواحد، وكذلك الذهاب إلى بعض الحفلات في المركز العام للإخوان المسلمين فضلاً عن اللعب مع الأصدقاء وزيارتهم في الأعياد.
  • توجيه الأبناء لتلاوة القرآن الكريم بطريقة غير مباشرة، وبأسلوب التعريض دون طلب، حيث كان يدعو أبناءه ليحملوا المصحف ويسمعوا له القرآن الكريم.
  • الاهتمام بالبناء العلمي والثقافي، حيث كان حريصاً على توجيه الأبناء إلى تحصيل العلم الغزير والثقافة المتنوعة وقد ذكر نجله أحمد سيف الإسلام، أن والده منحه مصروفاً زيادة قدره خمسون قرشاً كل شهر لشراء الكتب وتكوين مكتبة خاصة بي، فضلاً عن كونه أهدى مكتبة خاصة لكل واحد من أنجاله أختارها بنفسه وراع فيها ما يريد تربية أبنائه عليه. (موقع منتديات المحبة، 2007)
  • الاهتمام بالتربية الترويحية، فالترويح عن النفس، من العناصر المهمة والأساسية في بناء الشخصية السوية، والإنسان بفطرته يميل إلى الترويح عن النفس، فالطفل الذي يحقق له والده رغباته ويشبع فطرته باللعب والمرح والمداعبة في جو طيب بعيد عن الفواحش ينشأ سوياً منسجماً، أما الحرمان فيدفع الطفل إلى الجري وراء شياطين الإنس والجن الذي يزوغون به هنا وهناك حتى يكون مآله الضياع والانحراف والبعد عن الصراط المستقيم. تقول سناء حسن البنا : "ودائماً كان رحمه الله يقوم بإطلاق أسماء للدّلع لنا جميعاً، وكان يتركنا نقوم نحن أيضاً بإطلاقها عليه"، وتقول أيضاً : "وكان يحضر لنا صندلاً للعب وحذاءً للمدرسة".

وتروي عن رعاية الإمام لهم قائلة : "وفي شهور الإجازة الصيفية والتي كان يقضيها مع الإخوان في محافظات الصعيد والوجه البحري كان لا ينسانا أو يتركنا بلا رعاية، كان يصطحبنا إلى بيت جدي وأخوالي بالإسماعيلية لنقضي إجازتنا هناك ونستمتع ونمرح حيث المزارع الخضراء والحدائق الغناء، وكان أخي سيف يمارس رياضة ركوب الخيل"، وتقول أيضاً : "فلقد كنا نقضي أسعد أيام طفولتنا في هذه البلدة الجميلة، حيث مزرعة الجد وقناة السويس وبحيرة التمساح؛ حيث كنا نذهب بعد الانتهاء من العام الدراسي مباشرة إلى الإسماعيلية، وكان يمكث معنا بضعة أيام ثم يبدأ هو رحلته الصيفية من أقصى صعيد مصر، وكان يزور كل قرية وكل نجع، وكانت الإجازة الصيفية آنذاك ما يقرب من أربعة أشهر، ثم يعود إلى الإسماعيلية ويقضي معنا بعض الوقت ثم نعود إلى القاهرة مع بداية العام الجديد".

  • الحفاظ على الصحة النفسية للأبناء والخروج بهم من جو الأحزان؛ فالحرص على ترضية الطفل وتهدئته وتطييب خاطره وإدخال السرور عليه من أوجب واجبات المربي الناجح، فالطفولة البريئة لا يجوز في حقها انكسار النفس ولا حزن القلب، والأب الناجح هو الذي يمسح الدموع ويكفكف الأحزان ويمنع الآلام، وقد كان رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول : "فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني"؛ لذا كان الإمام البنا رحمه الله حريصاً أشد الحرص ألا يرى أحد أبنائه في حزنٍ أو ألم، وتلك مشاعر الأبوة الحانية، وهذا ما يفجر في نفوس الأبناء الحب والحرص والتمسك بالأب والحرص على السير على نهجه، أما الأب الذي يصنع بنفسه أحزان وآلام الأبناء فهذا بينه وبين التربية بون شاسع وشوط بعيد، تقول الأستاذة/ سناء حسن البنا عن والدها : "ويأبى دائماً أن يرانا مكسوري الخاطر، ففي رحلة أعدتها جدتي لزيارة مدينتا وحضور عرس، وبعد أن قرر والدي أن نصطحبها أنا وسيف ووفاء اكتشفنا عند السفر أن جدتي قد ملأت العربة بالهدايا وليس هناك مكان فررت جدتي اصطحاب سيف ووفاء وتركي فأخذني أبي وقتها وربت على كتفي وقال لي "معلش يا سناء" وأعطاني 25 قرشاً التي كانت تعتبر ثروة على أيامنا تلك، ورغم ذلك حزنت وأنا في يدي حقيبة ملابسي وأخذها هو وحملها عني". تقول سناء : "لقد كنت أحب نوعاً معيناً من الشيكولاتة (كورونا بالبسكويت) وكان هناك حجمان فقد كنت أستطيع شراء الحجم الصغير من مصروفي وكان علي أن أجمع مصروف يومين أو أكثر لشراء الحجم الكبير، وقد كنت أنتهز قيام مشاجرة بيني وبين شقيقي سيف لأذهب إلى المركز العام وأطلب من الأخ عوض عبد الكريم (عامل التلفون) في ذلك الوقت أن أكلم الوالد لأشكو له سيف فما يكون من الوالد رحمه الله أن يرسل معي أحد الإخوة ليشتري لي شيكولاتة من المحل الموجود أمام المركز العام فأختار هذا النوع الكبير من الشيكولاتة وأعود إلى المنزل فرحة مسرورة". (موقع منتديات المحبة، 2007)
  • اعتماد أسلوب الإقناع في حل المشكلات؛ فقد كان البنا رحمه الله، يستخرج حل المشكلة من داخل الشخص بعيداً عن قهره أو إرغامه، تقول ابنته سناء : "وأذكر أني كنت في مدرسة خاصة ومن ثم حوّلني إلى مدرسة حكومية، وكان هناك مدرسة اسمها "مصر الحديثة"، وكانت مديرتها تقدر والدي جداً، وكانت تفتح مدرستها لحديث الثلاثاء للأخوات ليسمعن الدرس من المدرسة، فسالت والدي إن كان عنده بنات للدراسة فأخبرها بـ "نعم"، وأحضرني فأدخلتني الصف الأول بدلاً من ثانية حضانة ولما تدهور مستواي بسبب تدليعها لي نقلني والدي إلى مدرسة أختي وفاء، فذهبت إلى الصف الثاني ورسبت، فلما رسبت قلت لهم لن أذهب إلى المدرسة، ومع بداية العام الدراسي الجديد تحدث إلي والدي قائلاً : ها يا سناء .. فأصررت أن لا أذهب، فقال لي طيب ما شاء الله جيدة في المطبخ ويمكنك أن تجلسي وتتعلمي وتساعدي والدتك في المطبخ، فبكيت فقال إنك ستساعدين والدتك في البيت، فطبعاً خفت ورجعت إلى المدرسة، فسألني ستذاكرين وتجتهدين فأجبت بنعم إن شاء الله، وهكذا كان دائماً لم يكن يجبرنا على شيء، بل يوجهنا بأسلوبه الخاص ".

 

موقفه من تربية المرأة:

اعتقد البنا بوجوب تهذيب خلق المرأة وتربيتها على الفضائل والكمالات النفسانية منذ النشأة، وهو يرى أن المرأة ليست في حاجة إلى الدراسات الفنية الخاصة أو التبحّر في اللغات المختلفة، أو التبحّر في دراسة الحقوق والقوانين، فالتعليم المناسب لها، هو التعليم الوظيفي الذي يؤهلها لأداء وظيفتها التي خلقها الله لها، ألا وهي تدبير المنزل ورعاية الطفل.

ويتوافق هذا الرأي مع ما ذهب إليه الشيخ محمد قطب حينما نصح المرأة المسلمة، بألا تفني جهدها في العمل خارج البيت، على حساب رعاية الأبناء، ومن ثم التضحية بالصحة النفسية للطفل، فالأم المكدودة بالعمل والكسب، لا يمكن أن تمنح الطفولة الناشئة حقها ورعايتها، ولقد اهتم البنا رحمه الله بتعليم الفتاة المسلمة، حيث بادرت الجماعة في الإسماعيلية، إلى إنشاء مدرسة أمهات المؤمنين، وانتدبت مدرسات مختصات يقمن بالتدريس فيها، وكان منهاج المدرسة يجمع بين مقتضيات العصر ومطالبه من العلوم النظرية والعملية.

 

مفهومه للوطنية:

تعامل البنا رحمه الله مع مصطلح الوطنية بدرجة عالية من الانفتاح والمرونة، منطلقاً من فهمه الدقيق لمنهاج الإسلام ورؤيته الثاقبة للواقع، فلم يرفض المصطلح جملة وتفصيلاً ولم يأخذ به على علاته ويتضح ذلك من خلال قوله "إذا كان دعاة الوطنية، يريدون بها حب الأرض والحنين إليها والانعطاف نحوها، فذلك أمر مركوزٌ في فطرة النفوس ومأمور به في الإسلام" ومن أقواله:

و"إذا كانوا يريدون بالوطنية، فتح البلاد وسيادة الأرض، فقد فرض الإسلام ذلك ووجه الفاتحين إلى أفضل استعمار وأبرك فتح، وينسجم هذا الفهم مع قوله تعالى : "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ" (البقرة، آية : 193).

فالوطنية تعني عنده البنا- العمل بكل جهد لتحرير البلد من الغاصبين، وتحقيق استقلاله وغرس مبادئ العزة والحرية في نفوس أبنائه وتقوية الرابطة بين أفراد القطر الواحد وإرشادهم إلى طريق استخدام هذه التقوية في مصالحهم ويرى الإسلام ذلك فريضة لازمة.

وأما الوطنية الزائفة –في مفهوم البنا- فهي التي يراد بها تقسيم الأمة، إلى طوائف تتناحر وتتضاغن ويكبد بعضها لبعض، وتتبع مناهج وضعية أملتها الأهواء وشكلتها الأغراض، وفق المصالح الشخصية، والعدو يستغل ذلك لمصلحته فيفرقهم في الحق ويجمعهم على الباطل ويحرم عليهم اتصال بعضهم ببعض وتعاون بعضهم مع بعض.

ويوضح البنا الفرق الكبير بين الوطنية في المفهوم الإسلامي، والوطنية في المفهوم الجاهلي بقوله : "أما وجه الخلاف بيننا وبينهم، فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة، وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وطنياً عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية، أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم، ونحس بإحساسهم، ودعاة الوطنية ليسوا كذلك، فلا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض، ويظهر ذلك الفارق العملي، فيما إذا أرادت أمة من الأمم أن تقوي نفسها على حساب غيرها فنحن لا نرضى ذلك على حساب أي قطر إسلامي، وإنما نطلب القوة لنا جميعاً، ودعاة الوطنية المجردة لا يرون في ذلك بأساً ومن هنا تتفكك الروابط وتضعف القوى ويضرب العدو بعضهم ببعض".

ولا تقف الوطنية لدى البنا في رسالتها عند حد تحرير البلاد والاهتمام بإعمارها وتطويرها من الناحية المادية، وإنما تتجاوز ذلك، إلى بذل النفس والمال والروح في سبيل حمل رسالة الإسلام وتبليغها في الأرض كلها ورفع علم التوحيد خفاقاً في كل ربوعها، وذلك العمل إنما هو إرضاء لله عز وجل، وليس طلباً للمال أو الجاه والسلطان.

 

منهج الإمام البنا في التغيير:

للإمام البنا رحمه الله، منهج في التغيير قائم على الفهم الدقيق للأحكام الفقهية، والإدراك العميق للسنن الإلهية، فله في ذلك نظرة ثاقبة استشرافية، منطلقة من رؤيته للواقع ومعبرة عن أصالة في الفهم والممارسة، ويمكن تلخيص أبرز المبادئ التي قام عليها منهجه الفريد في التغيير على النحو التالي:

  • الإيمان بضرورة تغيير الأنظمة الجاهلية لا ترفيعها:

وهذا لا يتنافى مع الإقرار بالإصلاحات الجزئية شريطة ألا تتحول إلى استراتيجية، فينشغل الناس عن استراتيجية التغيير فتصبح الوسيلة غاية والتكتيك استراتيجية.

  • التدرج في التغيير:

فالتدرج والاعتماد على التربية ووضوح الخطوات في طريق الإخوان المسلمين، فالإخوان المسلمون اعتقدوا بأن كل دعوة لا بد لها من مراحل ثلاث، مرحلة الدعاية والتعريف بالفكرة وإيصالها إلى الجماهير من طبقات الشعب، ثم مرحلة التكوين وتخير الأنصار وإعداد التنفيذ والعمل والإنتاج، وكثيراً ما تسير هذه المراحل الثلاث، جنباً إلى جنب نظراً لوحدة الدعوة وقوة الارتباط بينها جميعاً، فالداعي يدعو، وهو في الوقت نفسه يتخير ويربي وهو في الوقت نفسه يعمل وينفذ، ولكن لا شك في أن الغاية الأخيرة أو النتيجة الكاملة، لا تظهر إلا بعد عموم الدعاية وكثرة الأنصار ومتانة التكوين.

و"تشتد الحاجة إلى ترسيخ هذه السنة مع وجود بعض العاملين في حقل الدعوة الإسلامية اليوم، يحسبون أن التمكين يمكن أن يتحقق بين عشية وضحاها ويريدون أن يغيروا الواقع التي تحياه الأمة الإسلامية في طرفة عين دون النظر في العواقب أو فهم الظروف والملابسات المحيطة بهذا الواقع".

  • المواصفات النوعية لجيل التغيير:

التغيير بطبيعته عملية إنسانية ولا يحدث إلا بجهد الإنسان وفعله الاجتماعي وحركته الدائبة وقد جاء في محكم التنزيل "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد، الآية : 11)، والجيل المرشح لإحداث التغيير الطموح، في نظر الإمام البنا رحمه الله، هو الجيل الذي يتصف بالإقبال على العمل والجهاد في سبيل الله ومجاهدة النفس.

  • مفاصلة الجاهلية وعدم مداهنتها:

فقد كان الإمام البنا، رحمه الله، متميزاً ومفاصلاً للذين يحكمون بغير ما أنزل الله، لا يرضى بمنكراتهم، بل ينهاهم عنها ولا يرضى باستبعادهم لشرع الله، بل يطالبهم بالحكم بالشرع، ولا يعترف بحكمهم، ويسعى جاهداً لتغييرهم، فهو يكرر أكثر من مرة، أنه لا يعترف بأي نظام غير الإسلام، ولا يعترف بأي حكومة لا تطبق الإسلام ويقول في ذلك "ونحن لهذا لا نعترف بأي نظام حكومي ولا بهذه الأشكال التقليدية، التي أرغمنا أهل الكفر وأعداء الإسلام على الحكم بها والعمل عليها، وسنعمل على إحياء نظام الحكم الإسلامي بكل مظاهره، وتكوين الحكومة الإسلامية، على أساس هذا النظام".

  • التعاون مع القوى الوطنية فيما يخص المصلحة العامة:

وفي هذا المقام يحكي الدكتور توفيق الشاوي في مذكراته الذاتية، أن بعثته الدراسية كانت في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد أن استعد للبعثة ذهب يزور أستاذه البنا، وأخبره بشأن ابتعاثه، فاقترح عليه الأستاذ البنا أن يغير اتجاه البعثة من أمريكا إلى فرنسا، وأخبره أننا نحتاجك في فرنسا لمساعدة مجتمعات المجاهدين هناك، الذين يحاولون أن ينظموا أنفسهم، ثم طلب منه بعد ذلك أن يلتقي هناك بالمجاهد الكبير شكيب أرسلان، وكان هذا ما تم وذهب الشاوي إلى فرنسا، وقام بدور متميز في الإعداد لتحرير الشمال الأفريقي. وعندما عاد الشاوي إلى مصر ودخل السجن عام 54 لم يخرجه من السجن إلا رجاء الإخوة المجاهدين الجزائريين والمغاربة إلى الرئيس عبد الناصر بالإفراج عنه لحاجتهم الماسة إلى جهوده، وخرج الشاوي من السجن إلى المغرب، حيث ظل يكافح مع إخوانه، حتى تحررت الجزائر، وكان يسكن في بيت واحد بن بيلا، ومحمد خيضر، وآخرين.

انظر إلى رؤية البنا وانفتاحه على كل القوى الوطنية في عالمنا العربي والإسلامي، وتوجيه تلميذه الشاوي لتغيير وجهة بعثته من أجل الإعداد والمساهمة في معارك التحرير، بل يحكي لي المستشار عثمان حسين –رئيس المحكمة الدستورية الأسبق- أن الأستاذ البنا أرسله هو وأخوين آخرين برسالة إلى رجل من الهند سيمر بمطار القاهرة، ولم يكن هذا الرجل إلا القائد محمد علي جناح –مؤسس باكستان فيما بعد- والعجيب أنهم عندما التقوا بالرجل في المطار طلب منهم أن يحملوا إلى الأستاذ سلاماً عطراً، ويبلغوه أنهم استفادوا كثيراً من نصائحه الغالية، متى وأين كان يلتقي البنا الشهيد بإخوانه من قادة الجهاد في الهند وأندونيسيا وكافة أنحاء العالم الإسلامي. ومن الملاحظ أن الكلام السابق، يعكس ممارسة عمليه لمفهومه العالمي للوطنية، التي تعتبر دار الإسلام هي داراً ووطناً للمسلمين جميعاً، ومن الشواهد الرائعة على هذا الفهم مشاركة الإخوان المسلمين الفاعلة في الدفاع عن فلسطين والعمل على تحريرها.

  • استخدام القوة المنضبطة في التغيير:

فالغاية من الجهاد في الإسلام، أنبل الغايات، ووسيلة مهمة في التغيير، لكن استخدام القوة ينبغي أن يكون منضبطاً، حيث حرم الله عز وجل العدوان وأمر بالعدل، فبينما يقاتل المسلمون، لا يعتدون ولا يفجرون ولا يمثلون ولا يسرقون ولا ينهبون الأموال ولا ينتهكون الحرمات، فهم في حربهم خير محاربين، كما أنهم في سلمهم أفضل مسالمين، وما من شك في أن هذا الفهم للمقاومة وهذا الانضباط في ممارستها، يقوض محاولة الأعداء اليوم، لمحاصرتها ووصفها بالعمل الإرهابي، كما أن عدم الالتزام بأخلاقيات الجهاد وأحكامه، يفقد المقاومة الإسلامية، مصداقيتها ويسهل عملية اجتثاثها.

 

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم