Business

ابن خلدون.. والعطاء التربوي اللامحدود

تبنّى المؤرخ والمفكر العربي عبد الرحمن بن خلدون نهجا مغايرا لمسلك الفقهاء في رصد الظاهرة التربوية، فإقراره بالعلاقة الجدلية بين “صناعة التعليم” والناتج الحضاري لمجتمع ما دفعه إلى الاعتناء الشديد بالبناء المتكامل لشخصية الفرد من خلال إرساء منهجية تربوية سليمة تضع الطفل في قلب العملية التعليمية.

 

وتأتي الإسهامات التربوية لابن خلدون لتشكل تحولا مهما في مسار الفكر التربوي الإسلامي, وتُثبت قدم الانشغال بقضايا تربوية يدعي “المتغربون” حداثتها وجدتها!

 

ونستعرض فيما يلي أهم مبادئ هذه المنهجية التي اتخذها ابن خلدون خلال مسيرتة:

1-   السند الصالح:

يدافع ابن خلدون عن التعليم كصناعة مستقلة عن العلم، وهذه الاستقلالية تفترض”عقلا” فريدا مُلما بمبادئ ”الصنعة” ومسائلها وقوانينها، وقادرا على توفير الشروط الأساسية للتعلم، وبذلك يتجاوز ابن خلدون معيار الكفاءة العلمية الذي كان سائدا قبله ليشترط الحذق ومهارة التواصل مع المتعلمين كمعيار أساسي لتولي مهمة التعليم.

أما حين ينتقل إلى تحديد “آداب المعلم الصالح” فإن القارئ يستشعر تأصيلا مبدئيا لما يسمى اليوم ب “علم النفس التربوي”, وذلك من حيث تأكيده على مراعاة قدرات المتعلم وميوله, والحرص على اختيار الأنسب من كل فن والبدء بعمومياته تجنبا للإرهاق الباعث على النفور, والحائل دون تحصيل “الملكات”

2-  من تربية “الحشو” إلى تربية “الملكة”:

إن انشغال ابن خلدون بإرساء أسس علمية وموضوعية لصناعة التعليم حقق له الريادة في عديد من الآراء والمواقف التي تضمنتها مقدمته الشهيرة, فانحيازه للدور الوظيفي الذي تلعبه التربية في تدبير “المعاش” وتحقيق “العمران” دفعه لخوض تجربة النقد التربوي من خلال تناوله لطرق التدريس السائدة في عصره, وكشف مواطن الخلل فيها.

فابن خلدون الذي يؤمن بان أهم خواص الفكر الإنساني هو التفكر الدائم والتوق الشديد لتحصيل الإدراكات النافعة يرفض أسلوب “حشو الأذهان” الذي دأب عليه المعلمون مما يُفقد الطالب ملكات المحاورة والمناظرة لشدة عنايتهم بالحفظ  “فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم، ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم” بالمقابل يلح على تبني منهجية تربوية قوامها التدرج في إكساب الطالب ملكات تؤهله لاستحضار ما تعلمه في رحلة تحصيل المعاش.

أما الملكة في تصور ابن خلدون فهي ”المهارة التي يكتسبها المرء في أمر فكري وعملي إذ هي شيء لا يكون موجودا، ويصبح موجودا بالاكتساب عن طريق الحواس ويترقى إلى الفكر” (*)

ولتحقق الفاعلية والإتقان في اكتسابها ينبغي بناء مواقف تعليمية تتسم بالتدرج والتتابع ومراعاة قدرة كل طالب على الفهم والاستيعاب.

3-   العقاب البدني:

يثير العقاب البدني في الحقل التعليمي جدلا حادا واختلافا في الآراء حد التعارض، فالمؤيدون للشدة على المتعلمين يحيلون على الطابع “التأديبي” للعملية التربوية، والذي يفترض قسوة مبررة عقلا ونقلا للجم الطباع النافرة، وضبط المسار التعليمي بحزم.

في حين يستند المعارضون إلى الآثار النفسية والاجتماعية التي تخلفها الشدة، ويطرحون بدائل عدة تحفز الطالب على الاندماج الطوعي في المسار التربوي.

أما ابن خلدون الذي ينطلق من تصور شامل وإيمان بالوظيفة الحضارية لصناعة التعليم فيرى أن العقاب البدني مدعاة لشيوع الأخلاق والعادات الذميمة  التي تعيق الإنشاء الفكري والخلقي السليم لأجيال الغد، وتهدد القيم التي ينهض عليها العمران البشري “ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين.. سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحُمل على الكذب والخبث، والتظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة كذلك وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله، وصار عيالا على غيره في ذلك”.

العطاء التربوي لابن خلدون لم يتوقف على ما ذُكر، بل يمتد ليشمل اقتراح منهج دراسي يناسب فلسفته في العمران ويخلص التربية من إطار النظرة الفقهية القاصرة لتطال مجالات الحياة المتعددة.

 

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم