يهدف علماء التربية من التربية الدينية- ذلك العلم التربوي والنفسي العميق- أن يصلوا عن طريقه إلى تحريك أحاسيس ومشاعر ووجدان الفرد تحريكًا مباشرًا لينعكس في عالم الواقع سلوكًا إيجابيًا أو سلبيًا. لكنهم حين استبعدوا الدين ابتداء كعامل مؤثر في هذه الجوانب، باءت محاولاتهم التربوية الكثيرة بالفشل ولم تصب الهدف.
وفي هذه الدراسة، يرصد د. بليغ حمدي إسماعيل، أن علماء التربية توصلوا اليوم الى أن العلم والنظريات والتحاليل النفسية وغيرها لا تصل إلى تحريك مباشر للوجدان أو الضمير، بقدر ما يكون الدين الأسلوب المباشر الناجح في تحريك تلك المشاعر لتنعكس على الواقع في شكل سلوك.
ولقد حان الوقت ليتخلص واضعو ومخططو المناهج التربوية وغيرهما عندنا من عقدة النقص تجاه كل ما هو وافد غربي من صالح الرأي أو فاسده، فينبغي أن نفهم قضيتنا التربوية الفهم السليم.. نفهم أن مادة التربية الدينية ليست مادة تخصصية لا تعني غير المهتمين بها.. ونفهم أن التربية الدينية تدخل كل مادة تعليمية، ونفهم أخيرًا أنها الأسلوب الوحيد المؤثر تأثيرًا مباشرًا في الوجدان والضمير والأحاسيس التأثير الذي ينعكس حركة إيجابية صالحة تبذر الخير وتجني السعادة والطمأنينة.
منهج متكامل
فها هي لجنة السياسات التعليمية في الولايات المتحدة الأمريكية تقرر وجوب تخلل القيم الخلقية والدينية جميع جوانب المنهج، وإدخالها في الحياة الكلية للمدرسة كجزء حيوي من أجزاء البرنامج المدرسي كله.
ومع أن أولئك القوم توصلوا إلى تشخيص دائهم التربوي إلا أنهم لم يستطيعوا حل قضيتهم وما زالت تلك القضية معلقة.. ولو أننا أخذنا تشخيصهم للمشكلة فلن نحار في حلها وبمنتهى السهولة والحيوية، والسبب في هذا الاختلاف بسيط، ذلك أن الدين الذي يرونه قادرًا على تحريك الوجدان والأحاسيس لتغيير الواقع النفسي والحياتي غير موجود في دينهم المحرف كمنهج للحياة شامل متكامل يخاطب الفطرة، أما نحن فنملك ذلك المنهج المتكامل، نملك الإسلام، إسلام التربية، إسلام التوجيه، إسلام المنهج المتكامل، الإسلام الذي يحمل المؤهل الوحيد القادر على قيادة الناس وتربيتهم كما قاد حضارة الناس قرونًا متطاولة حقق فيها ما لم يتحقق من قبله ولا من بعده، وها هو.. ما زال شامخًا يعرض نفسه كمخلص للناس مما هم فيه من هموم التربية وغيرها. فما علينا إلا أن نتناوله بعزة إيمانية كمنهج تربوي متكامل، يخاطب النفس والفطرة فيعدل السلوك.
وفي ظني وما يعايشه ويعانيه شبابنا اليوم من التذبذب واللاانتماء مرجعه هذا الخلط المتنافر في تركيبتنا التربوي ، فالأقسام الأدبية في مدارسنا وجامعاتنا محشوة بكثير من الأفكار الغثة والشاذة والفلسفات المادية الهابطة، وتقدم هذه البضاعة على أنها بضاعة المجتمع المتقدم الراقي الذي يتصدر حضارة هذه الأرض اليوم، وواقع الناس كلهم يشهد له بذلك. وإلى جانب هذا الزخم كله تعرض بضاعة الإسلام في أطر خانقة تجعل وجودها وعدمها سواء- إلى حد ما- فلا المساحة التي أعطيت لها كافية لاستعراض ما تحمله من عقيدة وفكر وتاريخ، ولم ينتصب لتدريسها القدوة المؤثرة، ولم تجد لها في واقع المجتمع حيزًا من التطبيق يساندها ويؤازرها.
هذا كله كفيل بإسدال الستار على فاعلية المنهج التربوي الإسلامي، ومع هذا كله نجد نفوس الشباب تواقة وبحماس حار لأن تسمع هذا الإسلام.. تسمع هذا الغريب.. لا لشيء إلا لأنه يخاطب فطرهم وأحاسيسهم خطاب العليم الخبير.
والأقسام العلمية أيضًا محتاجة منا إلى نظرة، فهي ليست محشوة بباطل من الأفكار والتصورات، ولكنها وضعت في إطار تجريدي خالص، يجعل منها دائرة منفصلة عن أي رابطة أو صلة إيمانية تربوية، وإذا كان هذا مستساغًا عند الغرب فبحجة الفصل بين العلم والدين ونتيجة الحرب بين رواد الحضارة الحديثة والكنيسة.
العلم أقرب طريق للإيمان
أما نحن المسلمين فالحجة علينا لا لنا. فالدراسات العلمية التقنية أقرب طريق وأعمقه للإيمان، لأن الشاب يعاين القدرة الإلهية ويلمسها حية فيما يراه بعينه ويقلبه بيده، ويسجل مقاماتها ونتائجها، ولا تحتاج القضية سوى من يربط بين هذا العلم المشاهد وبين الإيمان بالخالق المبدع الذي يرجع إليه الأمر كله، هذا الربط هو أخطر وأهم ما في القضية، فهو كفيل بصياغة إيمانية عميقة لهذا الشباب، إنه كفيل بجعل المعمل أو المصنع معملًا ومصنعًا للمواد والرجال والنساء، الذين يحملون هذه العلوم ونتائجها بعزة إيمانية خلاقة مبدعة مبتكرة.
ولا يكفينا هنا الأستاذ المؤمن فحسب، فإننا نريده قادرًا على هذا الربط والبرهنة، وهذا باب من الثقافة التربوية عميق الأثر، يطل على كنوز إيمانية علمية زاخرة مستمرة لا تنفد، بل لا نبالغ إن قلنا إن هذا الربط بمثابة تحويل دفة الحضارة اليوم من مادية جافة إلى إيمانية حية.
ولذلك نرى القرآن الكريم يطلب هذا العلم ويلح في طلبه، ويطلب معه هذا الربط ويلح في طلبه: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ...} (يونس: 101). {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ...} (عبس: 24- 25). [أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا...] (ق: 6).
وكم هو جميل أن نستفيد من نماذج هذا الربط من مثل كتاب "الإنسان ذلك المجهول" للدكتور ألكسيس كاريل الحائز على جائزة نوبل عام 1912، وكتاب "العلم يدعو للإيمان"، للأستاذ كريس موريسون، وكتاب "الله يتجلى في عصر العلم" لنخبة من العلماء وكتاب "مع الله في السماء" للدكتور أحمد زكي، وغير ذلك كثير.
إن قضينا في هذا الصدد –باختصار-تكمن في أننا ربطنا باطل الغرب بتقدمه وحضارته، والأولى أن نربط علم الغرب بتقدمه وحضارته، فنقلدهم في علمهم وندع باطلهم.
.