التربية الروحية.. مفهومها وأهميتها

كل إصلاح حقيقي لابد أن يبدأ بالفرد لأنه هو جوهر كل عملية تغييرية، وقد حدّد الإمام جوانب عملية لإصلاح الفرد، كي يكون: سليم العقيدة، صحيح العبادة، متين الخلق، مثقف الفكر، قوي الجسم، قادرا على الكسب، مجاهدا لنفسه، حريصا على وقته، منظما في شؤونه، نافعا لغيره، فشملت تقريبا كل أنواع التربية اللازمة التي يحتاجها الفرد المسلم، من تربية روحية وأخلاقية وعلمية وحركية واجتماعية وسياسية واقتصادية وجهادية وبدنية وهكذا.

التربية الروحية هي التربية التي تعمل باستمرار على توليد القوة الروحية، وتقوية الوازع الداخلي، وبث الروح في الأقوال والأفعال، وتنمية الدافع الذاتي، ومن ثَمَّ يسهل على المرء بعد ذلك القيام بالأعمال المطلوبة لتحقيق أهداف التربية النفسية والحركية.

ورغم الأهمية القصوى لكل هذه الأنواع من التربية، فإن منطلقها والبداية الصحيحة لها هي تربية الروح، فإن إصلاح السرائر ورعايتها بشكل دائم، يؤدي إلى تنمية وتربية وتقوية اليقين في قلوب الأفراد، وهو الفيصل بيننا وبين جيل الصحابة رضوان الله عليهم، كما جاء في الأثر: (أنهم -أي الصحابة- لم يسبقوكم بكثرة صلاة وصيام، وإنما بشيء وقر في قلوبهم)، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فكلما ضعف اليقين في القلوب، كلما ارتفع منسوب الأمراض الروحية والتربوية وحتى الأخلاقية والحركية والتنظيمية، وكلما انخفض منسوب الشعور بالتبعة والمسؤولية، وانتشرت اللامبالاة وغياب الحرقة والغيرة على الإسلام وعلى حرمات المسلمين.

وكلما صلحت السرائر وقوي ما وقر في القلوب، انتقلت أشعتها وآثارها الطيبة إلى من حولها، كما قال ابن الجوزي رحمه الله: (فمن صلحت سريرته، فاح عبير فضله وعبقت القلوب بنشر طيبه، فالله الله في السرائر، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر).

وكذلك فإن التزام ما يصلح السريرة ويقوي الإيمان، من شأنه أن يحفظ المسيرة ويساعد على الفهم السليم للأمور، كما قال أحد السلف:( ما فتح الله تعالى على عبد حالة سنيـــة إلا باتبـــاع الأوامــــر وإخلاص الطاعات ولزوم المحاريب).

كما أن قوّة الجانب الروحي لدى الفرد وتوالي فيوضاته عليه، يجعله يقظا بشكل شبه دائم، فتتحول بذلك حتى عاداته إلى عبادات في ميزان الله عز وجل، على عكس الغافل فإنه حتى عباداته تتحول إلى عادات لا ينال من ورائها شيئا لأنها لا روح فيها، كما قال أحد السلف:(عادات أهل اليقظة عبادات، وعبادات أهل الغفلة عادات).

ومن ثمّ يكون جهاز الحساسية من التقصير في حق الله وفي حق الإسلام وفي حق الأمة وفي حق الدعوة يعمل بشكل سليم وذاتي التشغيل ومبرمج على سرعة الإنذار وإصدار الأصوات وإشعال الأضواء، كلما استشعر تقصيرا أو فتورا أو بداية انحراف، لأن تبلّد الإحساس عند التقصير أول منازل الانحدار الروحي والإيماني والأخلاقي والتربوي والحركي، ولا يصاب الفرد بمرض تبلد الإحساس هذا إلا إذا اشتد لديه الجفاف الروحي وتراكمت عنده مسبباته وتصحّرت أراضي قلبه وروحه، فتوقفت بذلك أمداده وغابت أوراده وانطفأت أنواره، فيكون عند ذلك على مشارف الهلكة والعياذ بالله، إن لم يستدرك نفسه ويسارع بربط روحه من جديد بخالقها ويسلم الأمر إليه سبحانه وينخرط في قوافل الأوابين المتضرعين، ويدخل على مولاه من باب الذل والانكسار والاعتراف بالتقصير، ليأخذ بيده ويضعه على سكة أهل الرضا مجددا، كما قال ابن القيم رحمه الله:( دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام، فلم أتمكّن من الدخول، حتى جئت باب الذل والافتقار فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه ولا مزاحم فيه ولا معوق، فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته، فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني عليه).

كذلك فإن التزام التربية الروحية وأخذ الحظ الوافر منها وتعميم ذلك على كل الدعاة والأمة جميعا، هو مرجح مهم إن لم يكن الأهم على الإطلاق في موازين الصراع والتدافع بين الحق والباطل، لأنه عند تساوي الحال وغياب التميز الإيماني والروحي بين المعسكرين، ستكون الغلبة حتما للأكثر عتادا وعدّة وإمكانيات، وبما أننا الأضعف في هذا الجانب، فلا خيار لدينا إلا تقوية الجانب الروحي وتعميق عناصر الإيمان كذلك، لنضمن بذلك المعية الإلهية الخاصة، ومن ثمّ ضمان النصر وإن قلّ الناصر وتواضعت الوسائل والإمكانيات، كما قال الراشد في مساره:( كلّما شاعت الأخلاق الإيمانية الفاضلة بيننا وزادت نسبة صفاء القلب وكثر الاستغفار وتوالت التوبة، كانت خطّتنا أقرب إلى النصر في التصور الإسلامي، وأجدر بالوصول إلى غايتها).

«التربية الروحية الإيمانية» تنشئ سلوكًا صحيحًا، واستقامة جادة، وأخلاقًا حسنة،، فكلما ازداد الإيمان انصلح القلب، فتحسنت الأفعال.

ولكي يصبح الإيمان راسخًا في القلب ومهيمنا عليه لابد من ممارسة أسباب زيادته، وتعاهد شجرته حتى تنمو في القلب وتزهر وتثمر ثمارًا طيبة بصورة دائمة.

أو بعبارة أخرى: نحتاج ممارسة «التربية الروحية الإيمانية» مع أنفسنا، ومع كل من نتولى أمر تربيته إن أردنا الإصلاح الحقيقي لأنفسنا وأمتنا.

فهذه الكلمات هي بمثابة مبادئ وإشارات حول التربية الروحية الإيمانية من حيث: ثمارها، وأهدافها، وحقيقتها، وجناحيها (أعمال القلوب، وأعمال الجوارح) وإن شئت قلت: الإيمان، والعمل الصالح، وهو ما نفصل الحديث فيه بحول الله وقوته في المقالات القادمة إن شاء الله.

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم