يقصد بالتربية الحضارية تلك الإجراءات والتدابير المتخذة من أجل بناء شخصية الإنسان العاقل المنفتح على الذات والعالم والثقافة بشكل حضاري ناضج, يرتقي على نحو متكامل بجوانبه الخلقية والوجدانية والعقلية والجسمانية, ويحرره من سيطرة الشهوات والطبيعة والانفعالات السلبية الهائجة, من أجل تمكينه من أداء دوره الريادي المنشود.
وفى هذه الدراسة التي أعدّها الباحث فيصل سليمان حسن، يرى أن هذا النمط الحديث من التربية يعد أهم الأنماط التربوية التي دارت حولها النظريات والفلسفات التربوية المعاصرة, وباتت أهميته على جانب كبير من الحساسية والخطورة في الحقل التربوي المعاصر.
التربية الحضارية في القرآن الكريم
- لقد كانت التربية الحضارية حقيقة تسكن جوهر الخطاب القرآني الشريف، وتختزن مقولاتها الأخلاقية والمعرفية والإنسانية السامية؛ لأن الخطاب القرآني الشريف كان يهدف في جملة ما يهدف إلى بناء الإنسان الراقي في خلقه ومعرفته وتصرفاته, وحسن علاقته بالإنسان والمجتمع والثقافة.
- والحقيقة أن نظرة علمية متأنية نسلطها على الخطاب الشريف بعد تمثل المقولات الفكرية والتربوية والفلسفية للتربية الحضارية وأسلوب تعاطيها مع تربية الأبناء- تجلو لنا بوضوح على نحو واسع في الخطاب القرآني كله من خلال مجموعة من الحوارات والقصص التي تتوزع في رحاب الذكر الشريف, ولعلنا نستطيع أن نتخذ من سورة لقمان الحكيم عليه السلام نموذجًا.
يمكننا أن نعتبر سورة: (لقمان) سورة تربوية بامتياز, قبل أن تكون شيئًا آخر؛ ذلك لأنها تصدت لتربية الإنسان الواعي المؤمن المنفتح على الذات والعالم والثقافة والمجتمع والحضارة والإله من منظور حضاري رائد للمعاني الحضارية الراقية التي تضمها هذه السورة الشريفة، لاسيما المشهد الحواري الذي يجمع سيدنا لقمان عليه السلام مع ابنه وهو يعظه تمكننا من أن نتمثل المنظور الحضاري التربوي في القرآن الكريم من خلال سباقات معرفية وجوانب توعوية تمتزج فيها الأبعاد الوجدانية والمعرفية والأخلاقية والنفسية والمهارية امتزاجًا حضاريًا لافتًا للنظر, ولعل أبرز هذه السياقات:
1- تربية العلاقة الحضارية الناضجة التي تربط الإنسان بالخالق
ينفتح المشهد القرآني الحواري على شخصيتين رئيستين هما: (لقمان الحكيم) وابنه ونظرًا لأن شخصية لقمان الحكيم تمثل الشخصية الرئيسة في هذا الحوار, والتي تنطلق منها العملية التربوية الحضارية فإن القرآن الكريم قد أحسن بناءها من كل الجوانب الخلقية والفكرية والتربوية والإيمانية, وذلك من خلال ربطها بـــــ: (الحكمة الإلهية) المقبلة من الله سبحانه وتعالى يقول عز وجل: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيد}: (لقمان: 12), وهذا معناه أن شخصية: (لقمان الحكيم) تختزن المعرفة الصافية القادمة من الله سبحانه وتعالى, فلا يكدرها الشك ولا الخطأ المعرفي وبالتالي تنطوي على الفلسفة التربوية الحضارية التي ترتقي بالإنسان نحو مستويات سامية من الرقي المعرفي والأخلاقي, وهي بذلك تمثل النموذج المحتذى في الأداء التربوي المنشود.
ومن الملاحظ أن توعية الجيل المتلقي: (يمثله ابن لقمان هنا) بأهمية العلاقة الحضارية الناضجة التي تربط الإنسان بالخالق على أساس من الوعي والمعرفة تمثل أهم مقولات التربية الحضارية في القرآن الكريم, لذلك تقع في المقام الأول في بداية المشهد الحواري, وتقوم أساسًا على حسن العبادة المتمثلة في الشكر, فالشكر ينطوي على اعتقاد التوحيد والإيمان: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}: (لقمان: 13) فالعلاقة القائمة بين الخالق: (الله) والمخلوق: (الإنسان) تقضي أن يشكر المخلوق الخالق؛ لأنه خلقه ولم يكن شيئًا, وخلق له سبل الحياة الكريمة, وجعل بين يديه النعم التي لا تعد ولا تحصي, بعد ذلك يقر له بالتوحيد وعدم الشرك.
2- تربية العلاقة الحضارية الناضجة التي تربط الإنسان بأسرته على أساس التآلف:
وإذا كان الوالدان يشكلان الأصل الذي تتفرع عنه الأسرة الإنسانية, فإن الذكر القرآني يرسم ملامح هذه العلاقة الناضجة من خلال إلقاء مفهوم الوصية الإلهية على الجيل التربوي, والتي توصي بحسن العلاقة ورقيها مع الوالدين: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ . وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (لقمان: 14- 15).
3- تربية العلاقة الحضارية الناضجة التي تربط الإنسان بالمجتمع:
إن المجتمع الإنساني الذي يعيش حياة الرقي والنضج الانفعالي والوجداني والفكري والسلوكي يقوم أساسًا على مقتضيات الحياة الأخلاقية السامية وما تفرضه من جملة السلوكات الحسنة التي تراعي في أبسط الأحوال الآداب العامة والقواعد المرعية الجانب, ولعل هذه الحقيقة تعد بديهةً انطلق منها الخطاب القرآني في تربية العلاقة الحضارية الناضجة التي تربط الإنسان– أي إنسان– بالمجتمع الذي يحيا فيه, بكل أطيافه الثقافية والفكرية والعرقية والاجتماعية, وتتمثل التربية الحضارية في هذه الآيات التي يخاطب بها لقمان ابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ . وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ .وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (لقمان: 17 – 19).
فمن الملاحظ أن لقمان الحكيم يدعو ابنه في هذه الآيات إلي تأصيل العلاقة التي تربط الإنسان بالمجتمع الحيوي المحيط ربطًا سليمًا, ويمكن أن نلاحظ تأكيد: (لقمان الحكيم) هنا على جانبين متكاملين متداخلين هما:
- إقامة العبادات بصورتها الإنسانية السمحة لترتقي بالمجتمع, نظرًا لما تختزنه هذه العبادات من جملة الحدود الوجدانية الراقية التي تقف حائلًا أمام فوران الشهوات السلبية في النفس البشرية, فتأكيد إقامة الصلاة, والميل التلقائي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والتحلي بقيم الصبر في الشدائد التي تخرج على الإنسان من حين لآخر لها دور ريادي في تشكيل اللاوعي الجمعي القائم على مجموعة من الكوابح الإيمانية المنغرسة في السلوك التربوي العميق للجيل.
- الالتزام بالآداب العامة في التعاطي مع المجتمع المحيط بما يرتقي بالسلوك التربوي الناضج: فمما لا شك فيه أن المجتمع الإنساني الناضج قائم على جملة من الآداب الأخلاقية والاجتماعية الراقية التي تنزع فتيل الصراعات السلبية الهدامة بين أبنائه, وتيسر سبيل الناس في السعي نحو العيش الكريم, ويبدو أن لقمان الحكيم يدرك بحكمته هذا الجانب لذلك يدعو ابنه (الجيل التربوي) إلى هذا الالتزام التلقائي الذي يربط الآداب العامة للمجتمع الإنساني بالعلاقة الراقية بين المخلوق والخالق.
لقراءة الدراسة كاملة: التربية الحضارية في القرآن الكريم- سورة لقمان نموذجا تمثيليا
.