رحل الأستاذ محمد مهدي عاكف وترك من خلفه مدرسة تربوية عبر عنها في جميع مواقف حياته، وبعد مماته حيث أشعلت في نفوس الناس عامة والشباب خاصة جذوة حب هذا الدين والعمل له، بل والتضحية في سبيله.
لقد تفرد مهدي عاكف عن أقران جيله بأنه ظل عاملا مجاهد متفاعلا جنديا وقائدا ونموذجا للثبات أمام المحن التي لم تحص ولم تعد في مسيرة حياته، حيث خلف مواقف من عظمة شخصيته، ستظل الأجيال تتحاكى بها بل وتسجلها في صفحات التاريخ بمداد من ذهب لأنه نحسبه ولا نزكي على الله أحدًا كان واحد من الذين قضوا نحبهم وحب دعوته يتملك كيانه، ولنقف في ذكرى رحيله مع بعض المعاني التربوية التي تميز بها في حياته:
الجندية
ما أن انخرط عاكف – وهو شاب في المدرسة الثانوية – لركب الدعاة رغم حياته الميسورة، إلا وقد تملكه حب الانطلاق والإبداع للوصول لقلوب الناس بدعوته التي ما أن عرفها حتى كان جنديا في الميدان يذود عنها ويعمل تحت لوائها.
لقد ضرب عاكف المثل العالي في الجندية حينما اختار عن طيب خاطر أن تكون فترة ولايته كمرشد فترة واحدة ويترك المجال لجيل آخر يحمل ويقود مسيرة هذه الدعوة.
لم يركن عاكف لكبر سنة أو للأمراض التي حلت به لكن قال كلمته التي دونها التاريخ حينما تم اختيار مرشد جديد، وأثناء تسليمه راية القيادة للمرشد الجديد قال له -كما جاء في مذكراته-: كنت أول من نادى الدكتور محمد بديع بفضيلة المرشد العام، وأثناء خروجي من المكتب ناديته، وقلت: يا فضيلة المرشد.. أنا رهن إشارتك في وقت تحتاجني الدعوة فيه.
ليس من السهولة على النفس أن تلزم نفسها رهن القيادة الجديدة إلا النماذج التي تجردت لله رب العالمين.
الثبات
ضرب مهدي عاكف النموذج الحي والعملي للثبات على المواقف، فبعدما ساءت العلاقة بين الإخوان وعبد الناصر حتى تم اعتقال عاكف وتم تعذيبه بصورة وحشية جعلته يذكر أن الذي كان يطعمه خلسة أحد اليهود المحبوسين لما رأى من شدة التعذيب عليه، ومع ذلك ورغم اعتقاله قبل حادث المنشية عام 1954م بشهور إلا أن عبد الناصر زج به في المحاكمات والتي حكمت عليه بالإعدام شنقا، حيث يصف موقف الإعدام بقوله: ذهبوا بنا إلى حجرة الإعدام، ولم يكن بها شيء، حتى الجوارب أخذوها، وأخذوا كل ملابسي حتى المناديل، ولم يكن مسموحًا لنا بشيء، وسرعان ما أعدموا الستة الأوائل رحمة الله عليهم، وكنت أنا السابع، وجاءني مدير البوليس الحربي، وكان اسمه أحمد أنور، فحدثته بشدة، وعدم اكتراث؛ لأنه فعل بي الكثير بالإضافة إلى أنني سأُعدم فلماذا أخاف! وماذا سيفعلون بي بعد ذلك.
وبهذه الروح عاش عاكف ومع ذلك ظل عاكف ثابتا على دعوته يعمل لها وقد مات كل هؤلاء، حتى في أواخر حياته ظل ثابتا حتى توفاه الله في السجون لم يلن ولم يطلب من أحد العفو.
مجاهدا
لم يترجم مهدي عاكف شعار والجهاد سبيلنا ترجمة قوليه أو إعلامية، لكنه حققها في نفسه ترجمة فعلية بحيث كان مجاهدا في ساحات الوغى يذود عن وطنه ضد المحتلين، فقد وكل له مهمة جمع السلاح من الصحراء الغربية وصحاري مصر أثناء حرب فلسطين، والدفع بها للهيئة العليا للدفاع عن فلسطين، حيث كانوا يزودون بها متطوعي الإخوان هناك.
بل حمل راية الجهاد على عاتقه وسط جامعة القائد إبراهيم (عين شمس حاليا) وجمع الطلاب وفي ساحة الجامعة –وبعد استئذان رؤسائها– افتتح معسكر لتدريب المجاهدين في حرب القنال عام 1951م وكانت له صولات وجولات وسط جامعة القاهرة وجامعة عين شمس، وخرج الكثير من المجاهدين الذين أبلوا بلاء حسنا على أرض المعركة ومنهم من استشهد في سبيل وطنه.
قياديا
وهب الله عاكف العديد من الصفات القيادية منذ أن كان طالبا، ومنها الجرأة في الحق واللين لكل من يعمل لهذا الدين والانفتاح وغيرها، فبالرغم من كونه شارف على التسعين إلا أن الجميع كان يرى فيه روح الشباب، وحكمة القائد، وصبر الجندي، والأخوة الصادقة.
وبهذه الصفات تملك مهدي عاكف قلب من يعرفه، سواء في سجن الواحات أو سجن المحاريق، أو فترة عمله في الخارج خاصة المركز الإسلامي بميونيخ، أو نائبا في البرلمان، أو مرشدا لأكبر حركة إسلامية.
استطاع بريادته للعمل الإسلامي والتربوي أن يقدم نموذجا حيا للمربي والداعية في كل الميادين ولذلك له علاقات طيبة بمعظم الدعاة والمربين وقادة العمل الإسلامي في العالم.
ومن المعروف عنه دعمه الشديد للقضية الفلسطينية والمقاومة في لبنان ضد الاحتلال الصهيوني، والوقوف بجوار كل مسلم على وجه الأرض والعمل من أجل الإنسانية كلها.
متجردا
لم يسع مهدي عاكف للزعامة في يوم من الأيام بل كان يعمل وخلال العمل تسند له المهام، حيث كان يتجرد بهذه الأعمال لله رب العالمين، لم ينتظر ثناء ولا مدحا من أحد، بل كان يقول: إن ظاهرةَ التنازع والشقاق والتشرذم التي تصيب بعض العاملين في حقل الدعوة تشير إلى نقص في التجرد الحقيقي لله، حين تختلف آراؤُنا واجتهاداتُنا ورؤانا ونحن متجردون لله وللحق، فسنحتكم إلى الضوابط والثوابت التي ارتضيناها، وسيقلُّ التنازعُ والشقاقُ والتشرذم دون شك حين نكون متجردين لله، نقبل النصيحة، ونحتمل النقد، سواء كان لأشخاصنا أو لأفكارنا أو لتصرفاتنا، وحين نكون متجردين لله لا تكون ذواتنا محور اهتمامنا ولا محور تحركنا، وحين نكون متجردين لله تكون طريقة الحكم على الآخرين هي الطريقة التي أمر الله بها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: من الآية 8).
لقد سعى مهدي عاكف على درب نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يعبأ بالحياة ومتعها حيث كانت الآخرة نصب عينه حتى قال: «من أراد الجنة فلا يرى لنفسه حقاً على أحد.. ولا ينقص من أقدارنا أن يهاجمنا بعض الناس، ويتهموننا بالباطل، ولكن الذي ينقص من أقدارنا هو أن نخطئ نحن..».
رحل مهدي عاكف ولم يشيعه أحد، ولم يقف على قبره احد، مات وقد دفن في جوف الليل، بعدما رسم بمواقفه طريقا من نور يسير عليه كل من أراد أن يعمل لدين الله متجردا.
.