أطلق الفقهاء عبارة: (تكبيرة الانتقال) أو (تكبيرة النقل) على التكبير الذي يكون في التحول من ركن إلى ركن في الصلاة، عدا الانتقال من الركوع للقيام؛ فقد شُرِع فيه: (سمع الله لمن حَمِده)، ولعل حكمة ذلك أن هذا القيام القصير إنما هو إكمال لما بدأه المصلي من القيام قبل الركوع، والذي كان أساسه سورة الحمد: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ) (الفاتحة: 2)؛ فناسب في الإكمال بعد الركوع استجابة الحمد.
إن المسلم يردد (تكبيرة النقل) في صلواته الخمس المكتوبة تسعًا وثمانين مرة يوميًا عدا تكبيرة الإحرام، وقد سميت بذلك للتفريق بينها وبين (تكبيرة الإحرام) التي تكون في ابتداء الصلاة؛ فتكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة وتَرْكها مبطل للصلاة (ولو ناسيًا)، بينما تكبيرة الانتقال واجبة على أرجح الأقوال، كما هو عند الحنابلة، وإن كان الجمهور يرون استحبابها.
ومن هنا جاءت هذه الدراسة التى أعدها الباحث: حسين بن علي الزومي، ليقف على عدد من الدلالات التربوية لتكبيرة الانتنقال.
عشر دلالات تربوية لتكبيرة الانتقال
1- ملء الفراغ:
حتى الوقت الذي يُعَدُّ بالثواني أو أقل في الانتقال بين الركن والركن (بين السجود والجلوس) و (بين القيام والركوع)... إلخ، حتى هذا الوقت الضئيل لا بد أن يُملأ بالطاعة والعبادة؛ وإن كنا في عبادة.
قال بعض العلماء: إنه يُستحَب إطالة التكبير بالمد بمقدار وقت الانتقال لئلا يخلو جزء من الذكر.
إنه درس رباني للحفاظ على أوقاتنا المهدرة وأزمنتنا المضاعة خارج الصلاة؛ فيا لله كم مرت علينا من لحظات، بل ساعات وأيام، طارت منا سدى !
2- الاقتران بين الحركة والكلام:
وإن من عجيب تكبيرة الانتقال أنها تكون مصاحبة وموافقة للحركة حتى إن بعض الفقهاء رأى أنه: إن قالها وهو مستقر سواء قبل انتقاله أو بعد انتقاله، فإنها لا تجزئه.
3- الاستعانة والاستقواء:
والمقصود ههنا هو الاستعانة بذكر الله من (التكبير) على حركة الانتقال، وذلك أن السكوت وقت الانتقال قد يُضعِف الحركة، ولكن صوت (التكبير) يبعث حيوية وقوة في الحركة.
كما أن من أسرار التكبير أن يشعر المصلي أنه يأوي إلى ركن شديد، ويستعين بـ (الكبير) الذي قهر كل شيء بكبريائه وعظمته؛ فلا يركن إلى سواه، ولا يستعين إلا به؛ وما الدين إلا عبادة واستعانة.
4- الاستحضار والاستحياء:
إن في النوايا خفايا وأسرارًا، و (تكبيرة الانتقال) تحيي استحضار الوقوف بين يدي الكبير الجبار، حين تأخذ المصلي الوساوسُ وتهيم به الأفكار؛ فيقوم بالقلب الحياء من غفلته عن ذكر القهار.
ولذلك ذكر بعض الفقهاء أنه ينبغي للمصلي استحضار قَصْد الذكر حين (تكبيرة النقل) حتى لا يظن ظانٌّ أنها ليست من عبادة الأذكار، بل هي كالتشهد والتسبيح والاستغفار.
ومن نوى أن (تكبيرة الانتقال) لإعلام المأمومين من خلفه فقط دون قَصْد الذكر، لم تجزئه عند جمهور علماء الأمصار.
5- التعظيم:
وأي شيء أعظم من لفظة: (الله أكبر) التي كان يرددها المصطفى- صلى الله عليه وسلم- إذا صعد مرتفَعًا أو جبلًا، في إشارة منه- صلى الله عليه وسلم- إلى استشعار عظمة الله عند رؤية عظيم في الدنيا، بل إن التكبير (مشروع في المواضع الكبار؛ لكثرة الجَمْع أو لعظمة الفعل أو لقوة الحال أو نحو ذلك من الأمور الكبيرة) كما قال الإمام ابن تيمية.
إنها تربية للنفس على معرفة قَدْر الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (الأنعام: 91)؛ فكل الأفكار والمفاهيم الساذجة ينبغي أن تتصاغر أمام المصلي (المكبِّر) في الصلاة، وهو تعظيم لقَدْر الصلاة أيضًا؛ فالله أكبر وأعلى وأجلُّ من تضييع الصلاة بملهيات الدنيا.
6- طَرْد الشيطان:
كم يحرص الشيطان وتتحرك ألويته لإضاعة روح الصلاة؛ حتى لا يُكتَب للمرء إلا جزء منها بقَدْر ما عقل، ويأتي (التكبير) أثناء الصلاة ليكون أحد أقوى الأسلحة لدحر الشيطان ووسوسته.
ألم يعلِّمنا الأمين- صلى الله عليه وسلم- أن الشيطان ينفر حين سماع الأذان؛ فالتكبير هو مقدمة الأذان وهو أُسُّ ندائه.
فإذا ما سمع الشيطان: (الله أكبر) هرب بعيدًا عن المصلي، بل يتصاغر ويتحاقر حتى تنطفئ وسوسته؛ فإن كبرياء الرب- عز وجل- يقمع الشيطان وفِعْله.
7- التجدد والتغيير:
إن (تكبيرة الانتقال) تنقلنا من حال إلى حال، ومن عبادة الله بالقيام في الصلاة، إلى عبادته بالركوع، ثم السجود والجلوس... إلخ.
إن (تكبيرة الانتقال) تدفع المسلم في صلاته إلى تغيير حركة عبادته في الصلاة؛ ليعيش في روضة من الحركة الدائبة، وفي جو من التجدد الدائم.
وهذا التنوع داخل عبادة (الصلاة) يعطينا انطباعًا مهمًا بأن هذا الدين يطلب منا أن نعبد الله بطرق مشروعة شتى، وألا نقتصر على نمط واحد.
8- الفاصل الذهني:
هذا (التكبير) أيضًا يضع فاصلًا ذهنيًا ومساحة زمنية للسباحة في ذِكْر آخر.
ولو افترضنا أن هذه الانتقالات في الأذكار كانت بدون فاصل (التكبير) فإننا سنلاحظ تداخل الأذكار بعضها في بعض، وقد يختلط على المصلي، فيقول الذكر الخاص بالسجود في جلوسه، وهكذا.. فهذا التكبير الفاصل بينها يضع حدًّا لانتهاء الذكر القَبْلي؛ أي: قبل التكبير، وابتداء الذكر البعدي؛ أي: بعد التكبير.
9- الاستعداد:
تكون (تكبيرة النقل) كأداة للتنبيه لما يليها؛ فتُشعِر المصلي بأهمية الاستعداد لما هو آتٍ، وأنه باستطاعته أن يستمر في صلاته ويقوِّي صِلَته بربه، فــ (الله أكبر) تعطي اندفاعة نفسية للمواصلة والتهيؤ، كما يستخدمها المجاهد في سبيل الله في ساح الوغى.
10- التفاؤل:
كما أن المصلي حين يردد (تكبيرة الانتقال) يشعر بمعية الله الكبير؛ فمِمَّ يخاف؟ فالله- سبحانه- أكبر من كل شيء ذاتًا وقَدْرًا وعزة وجلالة.. هذا المعنى الذي يصبُّ في نفسه قضية الثقة بالله وحُسْن الظن به؛ فلا يرى لما هو صغير أن يكون عقبة في حياته، ولا يخاف من مستقبل قد أوهمه التفكير المادي بظلمته.
.