Business

الهجرة النبوية وأبعادها التربوية

 

لم تكن الهجرة فرارا من الإيذاء، أو هروبا من التضييق والتعذيب، أو سعيا خلف الرزق الذي فقده المسلم في مكة، لكنها محطة عظيمة من محطات السيرة، يتجلى للواقف عليها أهمية العمل من أجل هذا الدين، والإيمان العميق بقدر الله، ووجوب الأخذ بالأسباب والتوكل على الله، وثبات أهل الإيمان في الشدائد.

لقد أظهرت الهجرة الملمح القاسي بين جنباتها، فحينما أَخذ النبي- صلى اللهُ عليه وسلم- قرار الخروج من مكة وترك ديار الأَهل والأَحباب، وفارق أَرض الصبا، وقف النبي العظيم على حدود أَرض بيت الله الحرام ويلتفت إلى مكة، يودع أَرضها وبيوتها، وينظر إلى جبالها وسمائها؛ يستعيد المواقف والذكريات، ويتذكر الأَحداث وينطق بهذه الكلمات «وَاللهِ إِنَّي أَعْلَمُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبَّهَا إِلَى اللهِ، وَلَوْلاَ أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُوُنِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ».

وما أشبه اليوم بالبارحة، فالعاملون لدين الليلة في كل عصر ومصر يتعرضون للاضطهاد من كل صوب، وبشتى الأنواع، لا لشيء إلا أنهم قالوا ربنا الله.

إن انتصار الدعوة رهين بتقديم وبذل الغالي والنفيس؛ فهذا سيدنا علي رضي الله عنه ينام مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا سيدنا أبو بكر رضي الله عنه يهاجر مع رسول الله ويأخذ كل ماله معه لخدمة الدعوة ويترك أهله دون مال، بل كل هؤلاء المهاجرين الذين هاجروا إلى المدينة تاركين وراءهم أهاليهم وأموالهم في سبيل الله.

لقد تجلت الهجرة بمدرستها التربوية، في صفات عظيمة خلفتها في القلوب، ومنها:

  1. الهجرة تخطيط وحسن توظيف الطاقات: كيف يتصور بناء أمة شاهدة بالقسط قائمة بالحق ما لم يقم أهلها بالتخطيط اللازم، ومن أعظم أسُسِ التَّخطيط حُسْنُ توظيف الطاقات، وسلامة استغلال القدرات المتاحة، فالصَّدِيق قبل الطريق.
    أضف لذلك التلاحم بين قلوب الفارين بدينهم، فلا شقاق ولا خلاف، لوحدة الهدف والغاية، فلا تفرقهم دنيا ولا اختلاف رأى، لكن يجب أن يسددوا ويقاربوا.
  2. التضحية: لقد ضرب القلة القليلة التي آمنت برسول الله- صلى الله عليه وسلم- أسمى معاني التربية حينما أدركوا ما سيقع عليهم جراء اتباع محمد ودينه، فتفانوا في التضحية من أجل هذا الدين، فنجد سمية بنت خياط وزوجها ياسر وصهيب الرومي وغيرهم.
  3. بناء الإنسان، أَهم من إنشاء البنيان: التربيةُ السليمةُ القويمةُ للإنسان، يترتبُ عليهَا أُمةٌ متماسكةٌ قويةُ البنيَان، وهذا ما فطن إليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، حينما سعى لبناء مجتمع متماسك يعلوه الرحمة والإخاء، وترتقي فيه قلوبهم لرب العالمين فتكون مجتمع المدينة من ألفة بين الجميع.
  4. لا تقنط مع رحمة الله: ربما في زحمة التعذيب، وكثرة الاضطهاد، وقوة أهل الباطل، وضعف أهل الحق، ربما يتسرب اليأس والقنوط، والإحباط والوجل، وسوء الظن بالله، ويظل السؤال متى نرى النصر والفرج؟!
    لقد علمتنا الهجرة ألا نيأس أبدًا لأن رب هذا الكون هو من يدبر كل ما فيه، ويقدر كل أحداثه، وسواء كنت مهاجرا بدينك جبرا إلى السجون أو إلى وطن آخر فلقد علمتنا الهجرة أن الثقة في الله لابد أن يتزين بها قلوب القابضين على دينهم.
  5. الثبات على الموقف، والبحث عن الحلِّ الشامل: تدفعنا المدرسة التربوية في الهجرة أن نتحلى بالثبات مهما طال الطريق، ومهما رأيناه صعبا مظلما، لكن مع هذا الثبات لابد من البحث عن الحلول الواقعية والعملية والشاملة، ولا نقتصر على الحلول التقليدية التي تربينا عليها متناسين التغيرات التي حدثت على الساحة، والمستجدات التي تحدث كل يوم.
  6. الهجرة فتح مبين: لقد كانت هجرة النبي وصحبه فتحا مبينا على الإسلام وعلى المسلمين، وهكذا يجب على الدعاة اليوم وفي ظل ما يعانون أن يحولوا هجرتهم سواء إلى البلدان التي هاجروا إليها أو غيرها أن يجعلوها فتحا فيكونوا قدوة طيبة، ونموذجا للإسلام يحتذي به، فلا ينشغلوا بسفاسف الأمور، والتناحر والتحزب وهم وسط بلاد غريبة وشعوب غريبة فيصوروا الإسلام بهذا المظهر الغريب المتنافر..كونوا في هجرتكم خير دليل للإسلام كما كان مصعب بن عمير في المدينة وكجعفر بن أبي طالب في الحبشة.
  7. اليقين بالفرج: اليقين بأن ما عند الله تعالى هو الأفضل، وهو الأبقى، فقد لاقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الشدائد في الهجرة النبوية، ولكنه ثبت، وصبر، واحتسب أجره عند الله تعالى، ولم يكن قلبه إلا ممتلئًا على الدوام باليقين المطلق بأن فرج الله تعالى آت لا محالة، وبالفعل فقد مكَّن له الله، ونصره نصرًا مؤزرًا، وبلغ صيته الآفاق، ولا يزال إلى يومنا هذا أعظم إنسان عرفته الإنسانية، ولا يزال اسمه الأكثر تردادًا على الألسنة.

إنها الهجرة تخاطبك أنت فردا وتخاطبنا جميعا أمة، فلنهاجر إلى الله ورسوله بأن نهجر ظلام معصية الله، وسيطرة الهوى إلى نورانية الوحي، وترقب نصر الله بالتخطيط للمستقبل والاستعداد له.

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم