شكَّل القرآن الكريم وما زال المصدر الأساس في تربية المسلم، وإعداده في أحسن وأروع صورة؛ فهو المنهاج التربوي الشامل المتكامل الغني بالخبرات التربوية التي تعود بالفائدة الكبيرة على الفرد المؤمن، فلا استقامة للشخصية، ولا للتربية ما لم تكن منبثقة عن كتاب الله الحكيم؛ إذ ليس هناك منهاجًا واحدًا غير المنهج الإلهي يستطيع أن ينهض بحاجات النفوس البشرية، ويغذي عواطفها ومشاعرها، ويتابع نموها وتطورها، ويحقق لها الهداية الكاملة.
ومن خلال معايشة الـــ أ.د محمود خليل أبودف، أستاذ أصول التربية بالجامعة الإسلامية– غزة، لواقع التربية الأسرية في المجتمع الفلسطيني بشكل خاص، والتربية المدرسية بشكل عام، لاحظ بعض مظاهر الجفاء في العلاقة بين المعلم والمتعلم، إضافة إلى انحسار لغة الحب في التربية، وتغليب لغة الشدة والقسوة؛ مما انعكس ذلك سلبًا على اتجاهات المتعلم نحو العملية التعليمية، ونلمس ذلك من خلال اللامبالاة وعدم الاكتراث بالدروس والتحصيل، وتدني مستوى الطموح الدراسي، وكراهية بعض الدروس، واتخاذ مواقف سلبية تجاه بعض المدرسين، والإحجام عن التفاعل، والمشاركة في الأنشطة التعليمية داخل الصف وخارجه، وإذا نظرنا إلى واقع الخطاب الدعوي عبر: المواعظ والخطب والدروس نلحظ– إلى حد كبير– افتقاره إلى لغة الحب، والتودد بالخطاب، والحرص على استمالة القلوب، ومن هنا تولد الإحساس بمشكلة الدراسة، فبدت الحاجة ماسة إلى تناول أسلوب التربية (بالحب) من خلال القرآن الكريم.
مفهوم أسلوب التربية بالحب في القرآن الكريم؟
الحب في اللغة نقيض البغض، والحب: الوداد والمحبة، وكذا الحِبُّ بالكسر.
وعرف البيهقي الحُبَّ بأنه يعني: «ميلك إلى الشيء بكليتك محبة له، ثم إيثارك له على نفسك ومالك، ثم موافقتكم له سرًا، وجهرًا ثم علمك بتقصيرك في حقه} فالحب حاجة تتكون من عنصرين من الصعب الفصل بينهما: الرغبة في الود من الآخرين، والرغبة في الحصول على الحنو، والحنان منهم.
وأما محبة الله للعبد فهي منزهة عن ميل الطبع والشهوة؛ فهي محبة بلا كَيْفٍ، وهي تعني: رحمة العبد واللطف به، كما تعني: إرادة إكرامه، واستعماله في الطاعة، وصونه عن المعاصي، وتوفيقه في فعل الخيرات.
وفي ضوء ما سبق: يعرف الباحث أسلوب التربية (بالحب) في القرآن الكريم بأنه عبارة عن: إخبار الله عز وجل عباده المؤمنين (عبر قرآنه الحكيم) عن حبه لهم، أو تذكيرهم بحبهم له، أو الاشارة إلى ما يحبون من الأشياء، أو تذكيرهم بإنعامه عليهم بحب الناس لهم؛ وذلك بقصد استمالة قلوبهم، وتثبيتهم على ممارسة الأفعال الحسنة الموجبة لمودته لهم، والعفو عنهم، والمغفرة لهم، وتحقيق الاستقامة في حياتهم الدنيا، والسعادة في الدنيا والآخرة.
ويلفت الباحثُ الانتباهَ إلى ما يحدث من خلط بين مفهومي: التربية بالحب، والتربية على الحب. فالتربية بالحب: أسلوب من أساليب التربية الإسلامية؛ لتحقيق غرض أو مقصد تربوي؛ وأما التربية على الحب: فهي في حد ذاتها مقصد وهدف تربوي.
أنماط أسلوب التربية بالحب في القرآن الكريم؟
من خلال استقراء الآيات القرآنية المتعلقة بأسلوب التربية بالحب، والقيام بتحليلها أمكن تصنيفها إلى الأنماط التالية:
1- إخبار الله عز وجل بحبه لأصناف من الناس ذَكَرَهُم بأفعالهم وسماتهم، بقصد تعزيز السلوك الإيجابي الصادر عنهم: وقد جاءت في أربعة عشر موضعًا من كتاب الله الحكيم، ومثال ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ والْكَاظِمِينَ الغَيْظَ والْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (آل عمران: 134).
وقد عَقَّب صاحب الظلال على الآية السابقة بقوله: وحب الله لعبد من عباده أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله-سبحانه وتعالى- كما وصف نفسه فهو صانع الكون الهائل، وصانع الإنسان، فمن هو؟ ومَن هذا العبد الذي يتفضل الله عليه بالحب؟ فالحب في الآية السابقة هو التعبير الودود المشرق المنير، ومن حب الله للإحسان والمحسنين ينطلق حب الإحسان في قلوب أحبائه، وتنبثق الرغبة الدافعة في تلك القلوب، فالجماعة التي يحبها الله، وتحب الله هي التي تشيع فيها السماحة واليسر والطلاقة من الأضغان.
2- تذكير المؤمنين بحبهم لله عز وجل؛ لحثهم على الوفاء بما يترتب عليه من سلوك حسن: وقد جاءت في موضع واحد من كتاب الله في قوله تعالى– مخاطبًا فيه رسله-: {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران: 31). ووضع ابن القيم الجوزية معيارًا لمحبة العبد لله-سبحانه وتعالى- بقوله: «وهي أن تهب: إرادتك، وعزمك، ونفسك، ومالك، ووقتك لمن تحبه، وتجعلها حبًا في مرضاته ومَحَابِّهِ». فحقيقة المحبة لله تعالى حركة نفس المحب إلى محبوبه، فالمحبة حركة بلا سكون، واكتمال المحبة هو: العبودية، والذل والخضوع والطاعة للمحبوب، وهو الحق الذي به وله خُلقت السماوات والأرض، والدنيا والآخرة.
فإذا تمكثت محبة المؤمن لله في القلب، وملأته؛ لم يبق فيه سوى محبة الله، ومحبة ما يحبه، وحينئذ لا تنبعث الجوارح إلا إلى الطاعات التي تقتضي مرضاة الله- سبحانه وتعالى-.
3- تنويه الله- جلت حكمته- إلى ما يحبه المؤمنون من مفاوز، ومنح في الحياة الدنيا؛ لتثبيتهم على السلوك الإيجابي: وقد جاء هذا النمط في موضعين من كتاب الله كما في قوله تعالى مخاطبًا المؤمنين في ميدان الحث على الجهاد في سبيله عز وجل: {وأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وفَتْحٌ قَرِيبٌ وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} (الصف: 13).
4- إخباره- سبحانه وتعالى- عباده المؤمنين بأنه سيحدث لهم في قلوب الناس مودة؛ لإيمانهم والتزامهم العمل الصالح:
وقد جاء هذا النمط في موضع واحد من كتاب الله في قوله– سبحانه وتعالى-: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًا} (مريم: 96)، فالله– سبحانه وتعالى– سيُحدث للمؤمنين الذين يفعلون الخير في القلوب مودة يزرعها لهم من غير تودد منهم، ولا تعرض للأسباب التي توجب الود ويكسب بها الناس مودات القلوب من: قرابة أو صداقة أو اصطناع بمبرة أو غير ذلك، إنما هو اختصاص منه لأوليائه كرامة خاصة. وجاء في الحديث القدسي– فيما يرويه الرسول ﷺ عن رب العزة-: «إن الله إذا أحب عبدًا؛ دعا جبريل فقال: إني أحب فلانًا؛ فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقال: إن الله يحب فلانًا؛ فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض».
والمقصود بيوضع له القبول في الأرض أي: «تحدث له في القبول مودة، ويزرع لها مهابة فتحبه القلوب، وترضى عنه النفوس».
ومن الطبيعي أن شعور الإنسان بحب الناس من حوله وتقديرهم له، ورضاهم عنه، يساعده على التكيف الاجتماعي ويعينه على ممارسة حياته الاجتماعية بفعالية تامة، ويكسبه ثقة عالية بالنفس، فتكون لديه صورة إيجابية عن ذاته؛ مما يحفزه على التفوق والنجاح، ومن الجدير ذكره في هذا المقام أن رسول الله ﷺ شجع أصحابه رضوان الله عليهم على الإفصاح عن حبهم للآخرين؛ تقديرًا منه ﷺ لأثر ذلك في إدامة المودة بين المسلمين، وإحكام العلاقة الطيبة فيما بينهم، ونلمس ذلك من خلال رواية أنس بن مالك قال: كنت جالسًا عند رسول الله ﷺ، إذ مر رجل فقال رجل من القوم: يا رسول الله إني لأحب هذا الرجل، قال: «هل أعلمته ذلك؟» قال: لا، فقال ﷺ: «قم فأعلمه» قال: فقام إليه فقال: يا هذا والله إني لأحبك في الله، قال: أحبك الذي أحببتني له.
الأغراض التربوية لأسلوب التربية بالحب في القرآن الكريم؟
من خلال استقراء الآيات القرآنية المتعلقة بموضوع الدراسة، ثم القيام بتحليلها وتصنيفها؛ أمكن الوقوف على الأغراض التربوية التالية:
1- التأكيد على تحقيق مدلول الإيمان في سلوك الفرد المسلم:
فالإيمان ليس مجرد كلمات ينطق بها الفرد، بل يتعدى ذلك إلى الأفعال، والممارسات السلوكية المعبرة عن الإيمان الصادق، وقد تحددت تلك الممارسات في التالي:
- الإنابة إلى الله- عز وجل- والاستعانة به:
عبر عن ذلك ما جاء في قوله تعالى يصف الحال المؤمنين: {ومَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (آل عمران: 148). وقد عقب صاحب الظلال على الآية السابقة بقوله: «إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء، بل لم يطلبوا ثواب الدنيا، ولا ثواب الأخرى، لقد كانوا أكثر أدبًا مع الله، وهم يتوجهون إليه بينما هم يقاتلون في سبيل الله، فهم يطلبون من الله غفران الذنوب، وتثبيت الأقدام، والنصر على الكفار، فآتاهم الله من عنده كل شيء، أعطاهم كل ما يرجوه طلاب الدنيا وزيادة، وأعطاهم كذلك ما يرجوه طلاب الآخرة ويرجونه، وشهد لهم- سبحانه وتعالى- بالإحسان، فقد أحسنوا الأدب، وأحسنوا الجهاد، فأعلن حبه لهم، وهو أكبر من النعمة، وأكبر من الثواب».
- المداومة على العمل الصالح:
لقد وعد المولى– سبحانه وتعالى– عباده الذين يعملون الصالحات بأن يجعل لهم مودة في قلوب العباد كما جاء في قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًا} (مريم: 96)، وهذه نعمة على عباد الله الذين جمعوا بين الإيمان، والعمل الصالح، أن وعدهم أنه سيجعل لهم وُدًا، أي محبة في قلوب أوليائه، وأهل السماء والأرض، وإذا كان لهم في القلوب وُد؛ يسر لهم كثير من أمورهم؛ وحصل لهم من الخيرات، والدعوات والإرشاد والقبول والإمامة.
ومن البديهي: أن الفرد المسلم في المجتمع– حينما يستشعر حب الآخرين وقبولهم له– فإن ذلك يزيد من ثقته بنفسه، ويرسخ لديه صورة إيجابية عن الذات، مما يحفزه على المبادرة إلى فعل الخيرات، والمسارعة إلى التفاعل الاجتماعي؛ وبالتالي تزيد إنتاجيته في واقع الحياة.
ونلمس ذلك من خلال قوله عز وجل– مخاطبًا نبيه الكريم ﷺ-: {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران: 31).
فالآية السابقة تدل على وجوب محبة الله عز وجل، وعلامة صدقها اتباع رسول الله ﷺ في جميع أحواله: في أقواله وأفعاله، فمن اتبع الرسول ﷺ؛ دلل على صدق دعواه محبة الله تعالى، وأحبه الله، وغفر له ذنبه، ورحمه وسدده في جميع حركاته، وسكناته، ومن لم يتبع الرسول ﷺ؛ فليس محبًا لله تعالى.
فالحب لله تعالى ليس مجرد دعوة باللسان؛ ولا هيامًا بالوجدان، بل هو سلوك عملي يتجسد في اتباع الرسول ﷺ؛ والسير على هداه، وتحقيق منهجه في الحياة.
- اتقاء المحرمات والتقرب إلى الله بنوافل الأعمال:
دل على ذلك قوله- سبحانه وتعالى- في حق المؤمنين المحسنين: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وأَحْسَنُوا واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (المائدة: 93).
ومعنى الآية السابقة: إذا اتقى الله الأحباء منهم فخافوه وراقبوه باجتنابهم محاربه، وثبتوا على اتقاء الله في ذلك، وتقربوا إلى الله عز وجل بنوافل الأعمال التي يرضاها؛ فإن الله تعالى يحبهم. فالتقوى هي الشعور المرهف لرقابة الله، والاتصال به في كل لحظة، والإيمان بالله، والتصديق بأوامره ونواهيه، والعمل الصالح هو الترجمة الظاهرة للعقيدة المستكنة، والترابط بين العقيدة الباطنة، والعمل المعبر عنها، هي مناط الحكم لا الظواهر والأشكال.
2- تعزيز فضائل الأخلاق:
فهو من الأغراض التربوية الأساسية لأسلوب التربية بالحب كما نلمسها من خلال القرآن الكريم، والتي تتحقق من خلال تعزيز الفضائل الخلقية التالية:
- الحرص على الطهارة الحسية والمعنوية:
فالله– سبحانه وتعالى– يحب عباده الأطهار الذين يحبون أن يتطهروا من الأنجاس والأخباث بدنية ًكانت أم عمليةً: كالمعاصي، والخصال الذميمة، وقد عبر عن هذا المضمون قوله- عز وجل- في محكم التنزيل مخاطبًا نبيه ﷺ: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا واللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} (آل عمران: 108).
ومعنى الآية السابقة: أن الله تعالى يحب التوابين من الذنوب، ويحب المتنزهين عن الفواحش والأقذار كمجامعة الحائض، والإتيان في غير المآتي.
- ملازمة البذل والإنفاق في سبيل الله:
فمن أصناف الناس الذين يحبهم الله الذين يداومون على الإنفاق في سبيل الله في كل الأحوال، حيث وصفهم رب العزة بقوله: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ والْكَاظِمِينَ الغَيْظَ والْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (آل عمران: 134)، فهم ينفقون أموالهم في طاعة الله في الرخاء، وفي وقت العسر، فهم ثابتون على البذل ماضنون على النهج، لا تضيرهم السراء، ولا تضيرهم الضراء، فالسراء لا تبطرهم فتلهيهم، والضراء لا تضجرهم فتنسيهم؛ إنما هو الشعور بالواجب في كل حال، والتحرر من الشح والحرص، ومراقبة الله وتقواه.
ولما كان الإنفاق في سبيل الله نوعًا من أنواع الإحسان فقد أمر الله به عباده المؤمنين محذرًا إياهم من الإمساك عن الإنفاق في سبيله؛ لأنه يقودهم إلى التهلكة: تهلكة للنفس بالشح، وتهلكة للجماعة بالعجز والضعف، وبخاصة في نظام يقوم على التطوع كما يقوم الإسلام.
- كظم الغيظ والعفو عن الناس:
من الممارسات الأخلاقية التي يحبها الله تعالى كظم الغيظ والعفو عن الناس، كما جاء في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ والْكَاظِمِينَ الغَيْظَ والْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (آل عمران: 134) وجاء في تفسير الآية السابقة: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم؛ فإن أولئك لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية بل يكظمون ما في قلوبهم من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم، ويدخل في العفو عن الناس العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم؛ لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء، وذلك إنما يصدر عمن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وتاجر مع الله فعفى عن عباده رحمة بهم، وإحسانًا إليهم، وكراهة لحصول الشر لهم، وليعفو الله عنه. فكظم الغيظ هو المرحلة الأولى– وهي وحدها لا تكفي– فقد يكظم الإنسان غيظه ليحقد ويضغن فيتحول الغيظ الغائر إلى إحنة غائرة، ويتحول الغضب الظاهر إلى حقد دفين، لذلك يستمر النص ليقرر النهاية الطليقة لذلك الغيظ الكظيم في نفوس المتقين، إنها العفو، والسماحة، ذلك أن الغيظ وَقْرٌ على النفس؛ حين تكظمه، وشواظ يلفح القلب، ودخان يغشي الضمير، وأما حين تصفح النفس، ويعفو القلب؛ فهو الانطلاق من ذلك الوقر، والرفرفة في آفاق النور، والبرود للقلب، والسلام في الضمير.
فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى وُد يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم، وضعفهم ونقصهم، في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم، ولا يحتاج منهم إلى عطاء، يحمل همومهم، ويجدون عنده– دائمًا– الاهتمام، والرعاية في العطف والود والسماحة والرضا، وهكذا كان قلب رسول الله ﷺ، وهكذا كانت حياته معهم، فما غضب لنفسه قط، ولا ضاق صدره بضعفهم البشري.
3- تشجيع المسلم على التزام الإحسان في معاملاته مع الناس وعلاقاته بهم:
فالحياة الاجتماعية تقوم على التفاعل بين الناس، وإقامة علاقات متشعبة، تحتاج إلى ضبط وتوجيه وترقية، وقد شجع القرآن الكريم الفرد المسلم- عبر آيات التودد واستمالة القلوب- على الالتزام بنهج الإحسان في معاملاتهم مع الناس، وعلاقاته بهم وفق رؤية واضحة ومحددة؛ تتحقق من خلالها مصلحة الفرد والمجتمع، وقد تبين ذلك من خلال التالي:
ويتضح ذلك من خلال قوله تعالى: {إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا ولَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ} (التوبة: 4). ومعنى الآية السابقة: أدوا العهد كاملًا إلى تمام مدته لمن لم ينكثوا عهودهم، ولا تجعلوا الوفيّ كالغادر. لقد وفى الإسلام لهؤلاء الذين وفوا عهدهم فلم يمهلهم أربعة أشهر كما أمهل كل من عداهم، ولكنه أمهلهم إلى مدتهم؛ ذلك أنهم لم ينقضوا المسلمين شيئًا مما عاهدوهم عليه، ولم يعينوا عليهم عدوًا؛ فاقتضى هذا الوفاء لهم، والإبقاء على عهدهم إلى نهايته.
ومن الملحوظ في الآية السابقة أن الوفاء مرتبط بالتقوى، ومن ثم لا يتغير في التعامل مع عدو أو صديق، فليس هو مسألة مصلحة، إنما هو مسألة تعامل مع الله أبدًا دونما نظر إلى من تتعامل معهم، وهذه هي نظرية الإسلام الأخلاقية بصفة عامة، في الوفاء بالعهد، وفي سواه من الأخلاق؛ فالتعامل أولًا هو تعامل مع الله يلحظ فيه جناب الله، ويتجنب به سخطه، ويطلب به رضاه، فالباعث الأخلاقي ليس هو المصلحة، ولا هو عرف الجماعة، وإنما الباعث هو معرفة ما يرضي الله عز وجل، والالتزام به.
- الحث على توخي العدل في الحكم بين الناس:
أمر المولى– جلت حكمته– نبيه محمدًا ﷺ بأن يحكم بالعدل حتى وإن كان يتعامل مع المفسدين آكلي الربا السماعين للكذب كما تبين في قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وإن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وإنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: 42).
وجاء في تفسير الآية السابقة: أي فاحكم بينهم بالعدل والحق، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل؛ لأن الله يحب القائمين بالعدل وهم المقسطين.
- الأمر بالإصلاح بين المسلمين مع التزام العدل:
أمر المولى– سبحانه وتعالى– المسلمين بأن يبادروا للإصلاح بين المتخاصمين المقاتلين، من خلال قوله عز وجل: {وإن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإن بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9).
فإذا تقاتلت جماعتان من المسلمين؛ فعلى ولي الأمر الإصلاح بينهما بالنصح، والدعوة إلى الله والإرشاد، وإزالة سببه، ورفع أسباب الخلاف فإن اعتدت أو تجاوزت إحدى الجماعتين على الأخرى، ولم تقبل النصيحة؛ فعلى المسلمين أن يقاتلوا الطائفة الباغية حتى ترجع إلى حكم الله، وتترك البغي.
وعقب (قطب) على الآية السابقة بقوله: هذه قاعدة تشريعية عملية لصيانة المجتمع المؤمن من الخصام، والتفكك، والتفرقة تحت النزوات والاندفاعات وراء الحمية والحماسة قبل التثبت والاستيقان.
- الثناء على المؤمنين الذين يراعون مقتضى الحال في تعاملهم مع الآخرين:
يتضح ذلك: من خلال وصف الله عز وجل لفئة من المؤمنين الذين يحبهم بقوله فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة: 54).
حددت الآية السابقة أسلوبين لتعامل المؤمنين مع فئتين مختلفتين: فئة المؤمنين وفئة الكافرين، وينسجم ذلك التعامل مع طبيعة العصبة المؤمنة التي اختارها الله عز وجل لتكون أداة القدر الإلهي في إقرار سلطان الله في حياة البشر، وتحكيم منهجه في أوضاعهم، وأنظمتهم، وتنفيذ شريعته في أقضيتهم، وأحوالهم، وتحقيق الصلاح والخير، والطهارة والنماء في الأرض.
فالمؤمنون يتعاملون مع نظرائهم بتواضع ولين جانب، فالذلة صفة مأخوذة من الطواعية، واليسر واللين، فالمؤمن ذلول للمؤمنين، غير عصي ولا صعب، ميسر متحبب سمح ودود، وما في الذلة للمؤمنين مذلة، ولا مهانة، وإنما هي الإخوة التي تزيل الحواجز، وتزيل التكلف، وفي المقابل يتعامل المؤمنون مع الكافرين بعزة وكبرياء، فلا يراعون أحدًا لسعتهم أو مكانتهم؛ فأقدار الناس عندهم تنال بإيمانهم، وتقواهم لا بقوتهم وغناهم.
فالتعامل مع الكافرين والمنافقين يكون باستعلاء وإباء، وليست العزة للذات، ولا الاستعلاء للنفس، إنما هي عزة العقيدة، والاستعلاء للراية التي يقف المؤمنون تحتها في مواجهة الكافرين، إنها الثقة بأن ما معهم هو الخير، وأن دورهم هو أن يطوعوا الآخرين للخير الذي معهم لا أن يطوعوا أنفسهم للآخرين، وما عند الآخرين، ثم إنها الثقة بغلبة دين الله على دين الهوى، وبغلبة قوة الله على تلك القوى الجاهلية.
والتعامل بهذا الأسلوب مع الكافرين والمنافقين– بشكل عام– يشكل وقاية من الوقوع تحت سطوة التبعية والاستلاب الثقافي، والخضوع المذل لغير الله عز وجل؛ مما يضعف شوكة المسلمين، ويبدد طاقاتهم، ويبعدهم عن مسرح التغيير نحو الأفضل في المجتمع الذي يعيشون فيه، وفي المقابل فإن التعامل مع المؤمنين بذلة ورفق؛ من شأنه أن يزيد من تلاحمهم، واستجماع قواهم في مواجهة الباطل.
- امتداح المؤمنين الذين يقولون كلمة الحق دون خوف من الناس:
وقد جاء وصفهم في قوله تعالى: {ولا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: 54)؛ فهم يقولون ما يرضي ربهم دون خوف من لوم المخلوقين، وهذا يدل على عظيم هممهم، وعزائمهم، فإن ضعيف القلب؛ ضعيف الهمة تنتقص عزيمته عند لوم اللائمين، وتفتر قوته عند عذل العاذلين، وفي قلوبهم تعبد لغير الله بحسب ما فيها من مراعاة الخلق، وتقديم رضاهم، ولومهم على أمر الله، فلا يسلم القلب من التعبد لغير الله، كي لا يخاف في الله لومة لائم، ومن الملفت للانتباه أن الله تعالى لما مدحهم بما فيهم من الصفات والمناقب العالبة المستلزمة لأفعال الخير، أخبر أن هذا من فضله عليهم، وإحسانه؛ لئلا يعجبوا بأنفسهم؛ وليشكروا الذي مَنَّ عليهم بذلك؛ ليزيدهم من فضله.
وقد فسر (قطب) سلوك المؤمنين المتمثل في قول ما يرضي الله دون خوف من لوم الناس بقوله: ففيم الخوف من لوم الناس، وهم ضمنوا حب رب الناس، نعيم الوقوف عند مألوف الناس؛ وهم يتبعون سنن الله، ويعرضون منهج الله للحياة، إنما يخشى لوم الناس من يستمد مقاييسه وأحكامه من أهواء الناس، أما من يرجع إلى موازين الله ومقاييسه وقيمة ليجعلها تسيطر على أهواء الناس وشهواتهم وقيمهم، فعزته وقوته بالله عز وجل؛ وبالتالي لا يخشى في الله لومة لائم، ولا ينثني عن قول كلمة الحق.
4- تعزيز نهج الجهاد والتضحية في سبيل الله:
ويتضح ذلك من خلال قوله تعالى في محكم التنزيل: {وكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ومَا ضَعُفُوا ومَا اسْتَكَانُوا واللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران: 146). فالله– سبحانه وتعالى– يحب الصابرين الذين لا تضعف نفوسهم، ولا تتضعضع قواهم، ولا تلين عزائمهم، ولا يستكينون أو يستسلمون.
والتعبير (بالحب) من الله للصابرين له وقعه، وإيحاؤه فهو الحب: الذي يأسو الجراح، ويمسح القرح، ويربو عن الضر والقرح، والكفاح المرير.
فالجهاد في سبل الله– عز وجل– دليل دافع على صدق الحب له- سبحانه وتعالى-؛ لأن الحب يتطلب الجهاد، وبذل النفس، والنفيس؛ من أجل المحبوب.
وإذا كان الله– عز وجل– يحب الصابرين الثابتين في ميدان الجهاد، فإن ذلك يعد بمثابة رسالة، وتوجيه إلى كل المؤمنين بالله تعالى، بأن يقتدوا بأمثال هؤلاء العارفين الصابرين، ذلك أن دين الله واحد، وسنته في خلقه واحدة لا تبديل فيها ولا تحويل: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} (الصف: 4).
وبالإجمال فإن المقاصد التربوية لأسلوب التربية (بالحب)، كما جاءت من خلال القرآن الكريم، تؤدي في نهاية المطاف إلى بناء شخصية نوعية متميزة في: عقيدتها، وأخلاقها، وسلوكها تتصف بالهمة العالية، وتتسم بالمبادرة التي تجعلها تمارس أعلى درجات الفاعلية في المجتمع، وتشارك بدور كبير في: إصلاحه، وتحقيق تنميته، وتغيير واقعه نحو الأفضل في جميع مجالات الحياة.
التوصيات
- من الضروري أن يجتهد المعلمون– في كل مراحل التعليم– وكذلك الباحثون في مجال التربية، في قراءة القرآن الكريم بتدبر، وحيازة المهارات الأساسية لفهمه، والبحث فيه كي يقفوا على أساليبه الفاعلة والمؤثرة في التربية.
- أوصى بأن يلتزم المربون الرفقَ في تربية النشء والبعد عن العنف اللفظي والبدني.
- اقتداء المعلمين بنهج الرسول ﷺ، وهديه في التربية، الذي قام على أساس رفع الحرج واليسر، والتودد، والرفق، والشفقة، والرحمة بالناس.
.