ليست الهجرة انتقال موظّف من بلد قريب إلى بلد ناء، ولا ارتحال طالبُ قوتٍ من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة، إنها إكراه رجل آمن في سربه، ممتدّ الجذور في مكانه، على إهدار مصالحه، وتضحية أمواله، والنجاة بشخصه فحسب، وإشعاره- وهو يصفّي مركزه- بأنه مستباح منهوب، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها، وبأنّه يسير نحو مستقبل مبهم، ولا يدري ما يتمخّض عنه من قلاقل وأحزان، ولو كان الأمر مغامرة فرد بنفسه لقيل: مغامر طيّاش، فكيف وهو ينطلق في طول البلاد وعرضها، يحمل أهله وولده؟! وكيف وهو بذلك رضيّ الضمير، وضّاء الوجه؟!
إنّه الإيمان، الذي يزن الجبال ولا يطيش! وإيمان بمن؟! بالله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وله الحمد في الأولى والآخرة، وهو الحكيم الخبير.
هذه الصّعاب لا يطيقها إلا مؤمن، أما الهيّاب الخوّار القلق، فما يستطيع شيئا من ذلك، إنّه من أولئك الذين قال الله فيهم: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66] .
أما الرجال الذين التقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في مكة، وقبسوا منه أنوار الهدى، وتواصوا بالحقّ والصبر، فإنهم نفروا خفافا ساعة قيل لهم: هاجروا إلى حيث تعزّون الإسلام، وتؤمّنون مستقبله.
ونظر المشركون، فإذا ديار بـ(مكة) كانت عامرة بأهلها قد أقفرت، ومحالّ مؤنسة قد أمحلت.
مر عتبة، والعبّاس، وأبو جهل على دار بني جحش بعد ما غلّقت، فقد هاجر ربّ الدار، وزوجه، وأخوه أبو أحمد- وكان رجلا ضرير البصر-، ونظر عتبة إلى الدار تخفق أبوابها يبابا، ليس بها ساكن! فلما رآها تصفر الريح في جنباتها قال:
وكلّ دار وإن طالت سلامتها ... يوما، ستدركها النّكباء والحوب
ثم قال: أصبحت الدار خلاء من أهلها.
وكان من أول المهاجرين: أبو سلمة، وزوجه، وابنه، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟! وأخذوا منه زوجته. فغضب آل أبي سلمة لرجلهم، وقالوا: لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم، فخلعوا يده، وذهبوا به، وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة، فكانت أم سلمة بعد ذهاب زوجها، وضياع ابنها- تخرج كلّ غداة بالأبطح، تبكي حتى تمسي، نحو سنة، فرقّ لها أحد ذويها وقال: ألا تخرجون هذه المسكينة؟! فرّقتم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لها: الحقي بزوجك إن شئت، فاسترجعت ابنها من عصبته، وهاجرت إلى المدينة.
ولما أراد (صهيب) الهجرة، قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلّون سبيلي؟
قالوا: نعم، قال: فإنّي قد جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ربح صهيب».
.