حققت الهجرة النبوية أهدافًا عظيمة وأوجدت موطئ قدم للدعوة الاسلامية وانعكست أمنًا واستقرارًا على شتى مجالات الحياة، فكان هذا الحدث الشريف ضرورة لسلامة سير الدعوة الإسلامية، إذ شكّل مرحلة من مراحل الجهاد في سبيل الله تعالى، وخطوة من خطوات الدعوة كان لها أسبابها الكثيرة المتشابكة.
فالهجرة لم تكن حادثًا مكانيًا، بل نقلت الإسلام من دوامة الضعف والقلة إلى القوة والكثرة، ولعلّ الأذى الكبير الذي لحق بالنبي عليه الصلاة السلام ومن كانوا معه من المسلمين سببًا كافيًا للهجرة، وهروب المسلمين بدينهم من أجل الحفاظ عليه.
ودورس الهجرة كثيرة، ومعانيها جليلة ويستطيع المسلم استنباطها من خلال أحداث الهجرة التي وقعت للرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، مثل:
- تصحيح النيات باستمرار: للتأكد من الإخلاص لله قبل القيام بالأعمال وأثناءها وبعدها، فمتى وُجدت النية الصالحة في القلب توجهت الجوارح لله، وزكت الأعمال، ورجحت في الميزان عند الله عز وجل، وإذا لم تصحبِ النيةُ الصالحة الأعمالَ أصبحت هباء منثورا وإن كانت كالجبال، فقد كان المهاجرون الكرام - رضوان الله عليهم - على تمام العلم بذلك، وعلى كمال الإخلاصِ في هجرتهم، وكانت هجرتهم خالصة لله لا يرجون مغرمًا ولا مغنمًا.
- هجرة رفقاء السوء: إذا لا هجرة بعد الفتح، لكن رسمت الهجرة النبوية معانٍ أخرى جليلة للهجرة، ومنها: هجرة رفقاء السوء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" (رواه أحمد).
- التخلص من الانفرادية والتفاعل مع أحوال الأمة: فالمسلم لا يعيش في جزيرة منعزلة، ولا خلق ليهتم بنفسه على حساب الآخرين، لكن لزامٌ عليه أن ينشغل ويتفاعل بأحوال المسلمين، قال الله عز وجل: {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ * وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ مَعَكُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ مِنكُمۡ} وقال عليه الصلاة والسلام: “عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية" (رواه أبو داود والنسائي).
- هجر الظالمين وعدم نصرتهم: يموج العالم بمعاني الظلم الإنساني –خاصة المسلمين– ومن معاني الهجرة أن يهجر المسلم الحقيقي كل الظالمين؛ فلا يدعمهم ولا يقف معهم في ظلمهم ولا يناصرهم ولا يفوضهم في ظلم أحد، قال الله عز وجل: {وَلَا تَرۡكَنُوٓاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ}.
- التضحية الحقيقة: فحين ترك الناس أهاليهم وأموالهم وأوطانهم في الله، لإعلاء كلمة الله، والرغبة في نيل مرضاة الله، هذه كلها محفزات عبدت طريق الهجرة على الصحابة، صهيب الرومي مثلا يتخلى عن أمواله لقريش ليفسح المجال أمامه للهجرة، وأم المؤمنين أم سلمة يفرق بينها وبين زوجها أبي سلمة، وابنها من أجل الهجرة!
- الإيثار العملي: كانت الأخوة بين المهاجرين والأنصار بلغت ذروتها، وتميزت بالإيثار والتعفف، كان الأنصاري يخير أخاه من المهاجرين أن يأخذ من أمواله ما يشاء، وكان المهاجري يتعفف أن يطلب بهلع وجشع!
- حسن التوكل مع الأخذ بالأسباب: كان صلى الله عليه وسلم في رحلة الهجرة الشريفة متوكلًا على ربه واثقًا بنصره يعلم أن الله كافيه وحسبه، ومع هذا كله لم يكن صلى الله عليه وسلم بالمتهاون المتواكل الذي يأتي الأمور على غير وجهها. بل إنه أعد خطة محكمة ثم قام بتنفيذها بكل سرية وإتقان.
ولنا في أنفسنا دروس فلا يتم إسلامنا ولا يزيد إيماننا ولا يكمل إحساننا إلا إذا هاجرنا بقلوبنا وجوارحنا إلى الله، في السر والعلن، بالتوبة الصادقة الدائمة في حياتنا كلها، واستصحبنا الله معنا في قلوبنا ووجداننا في رحلتنا اليومية إليه سبحانه، وتوكلنا عليه وأحكمنا الخطط وأخذنا بأسباب النصر، ولم نأبه بعراقيل وكيد الأعداء، ولا نحزن لشيء أصابنا مهما كان.
.