بقلم: د/ همام سعيد
الدعوة إلى الله تقوم على الحكمة والموعظة الحسنة، وتظهر الحكمة في معرفة المناسب من الدعوة لكل فئة من الناس، والداعية الحكيم لا يقول كل ما يعرف لكل من يعرف، وهو يتعامل مع العقول حسب مقدرتها لا حسب مقدرته، ولا يحملها فوق طاقتها.
وقد فهم ابن عباس - رضي الله عنهما - قول الله تعالى: {ولكن كونوا ربانيين} فقال: (كونوا حلماء فقهاء) وقال البخاري: (ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره).
والبدء بصغار العلم مرجعه مراعاة العقول حتى لا تنفر من الدعوة، قال ابن حجر: (والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله وبكباره ما دقَّ منها)، ويشهد لهذا الأصل من أصول الدعوة كثير من النصوص نذكر منها:
1- ساق البخاري حديثاً ترجم بقوله: (باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصِّر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه) ثم أخرج من طريقه إلى: (الأسود) قال: قال لي (ابن الزبير): (كانت عائشة تُسِرُّ إليك كثيراً، فما حدَّثتك في الكعبة؟ قلت قالت لي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم - قال ابن الزبير: بكفر - لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باب يدخل الناس، وباب يخرجون).
قال ابن حجر - رحمه الله -: (ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة).
2- وقال البخاري - رحمه الله -: (باب من خصَّ بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا) وقال علىّ: حدِّثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يُكَذَّب الله ورسوله)، قال ابن حجر - رحمه الله - وممن كره التحديث ببعض دون بعض، أحمد ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة في الجرابين وأنه كره أن يحدَّث بأحدهما ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس (للحجاج) بقصة العرينين، لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي).
وقصة العُرَينِين هي قصة قوم من عُرَينة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة، أي لم يناسبهم جوها فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم إبلاً من إبل الصدقة يشربون ألبانها ويستشفون بأبوالها، فقتلوا الرعاة واستاقوا الإبل، فلحق بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقطَّع أيديهم وأرجلهم وتركهم عطشى في الحرة. ويلاحظ أن تحديث (الحجاج) بهذا يحمله على المبالغة في سفك الدماء كما قال ابن حجر.
3- أخرج الإمام مسلم بسنده إلى ابن مسعود قوله: (ما أنت محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة).
4- وأخرج البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا معاذ بن جبل: قال: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك (ثلاثاً) قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله من قلبه إلا حرَّمه الله على النار قال يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشرون؟ قال: إذاً يتكلوا). وأخبر بها معاذ عند موته تأثماً.
ذلك لأن هذا الحديث إذا سمعه الناس فإنهم يحملونه على محمل خطأ وهو ترك العمل والاكتفاء بالإقرار، ومعنى أنه أخبر به تأثماً أي: أخبر به قبل موته حتى يبقى الحديث ولا ينقطع بوفاة معاذ رضي الله عنه.
والناس أمام هذا الأصل أصناف:
الصنف الأول: العوام غير المتعلمين:
و التعامل معهم ودعوتهم في غاية الصعوبة، وحالهم كحال المبتدئ في تعلم القراءة والكتابة وكل صعوبة أو تعقيد قد يصرفهم عن الدعوة وهؤلاء لا تلقى عليهم المسائل العويصة، والتفاصيل الدقيقة، والبراهين المعقدة والنظم المتشعبة، وهذا الصنف يحتاج للمتخصص في فن دعوتهم ومخاطبتهم، وهؤلاء يعتمدون على الحس أكثر مما يعتمدون على المجرد، وحاجاتهم الخاصة وظروف حياتهم أقرب الوسائل إلى قلوبهم. والأمثلة المنتزعة من بيئتهم الخاصة هي الأمثلة المفهومة، وهؤلاء تحركهم العاطفة أكثر مما يحركهم العقل، وللترغيب والترهيب في نفوسهم أثر كبير، ومما يشحذ هممهم قصص الصالحين، وأخبار الأولياء وأحداث السيرة على طريق السرد لا على طريق التحليل.
الصنف الثاني: المتعلمون من خريجي الجامعات ومن في مستواهم في التقدم المعرفي:
وهؤلاء يبحثون عن التحليل والاستنتاج والمعنويات ودلائل الإعجاز، وعند مخاطبتهم فإنه لابد من مراعاة منزلتهم العلمية، ومن يستطيع مخاطبة العوام قد لا يستطيع مخاطبة الخواص، إذا خاطبهم من هو دونهم فقد يفتنهم.
الصنف الثالث: أصحاب التخصصات العلمية:
إذ لكل تخصص مصطلحاته ووسائله، ومن يتعرف على هذا المناخ فإنه أقدر على توجيهه ولفت نظر أصحابه إلى دلائل مما بين أيديهم، فالداعية بين المحامين يحتاج إلى معرفة شئ عن القوانين والصالح والطالح منها.
وأما بين الأطباء فهو بحاجة إلى معرفة بعض الجوانب التي توقف الطبيب على عظمة الله تعالى وقدرته في خلق الإنسان ووظائف أعضائه.
وإذا كان الداعية من أهل الاختصاص المزودين بالعلم الشرعي فإن المردود يكون أعظم، وإلا فإن على الداعية صاحب العلم الشرعي أن يأخذ نفسه بالتثقيف، وأن ينوِّع معارفه، وإذا كلف بالدعوة في قطاع متخصص فالأجدر به أن يدرس هذا القطاع، وأن يزداد معرفة بهذا الجانب الثقافي.
للاطلاع على السلسلة: د. همام سعيد يكتب: قواعد عامة في الدعوة إلى الله
.