القاعدة الرابعة: على الداعية أن يصل إلى رتبة المبلغ وأن يسعى إلى البلاغ

بقلم: د. همام سعيد

​​​​​​​

أ- ليس أمر الدعوة إلى الله بأقل من أمر الدعوة أو الدعاية إلى سلعة دنيوية، ونحن على يقين أن صاحب البضاعة يستخدم أقوى الوسائل وأوسعها انتشاراً من أجل إيصالها إلى الجمهور إلى درجة القناعة ببضاعته، ونراه في سبيل ذلك يستخدم الكلمة والصورة والهدية وغير ذلك من الوسائل.

وقد جعل الله تعالى مهمة رسله وأنبيائه البلاغ فقال:{فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[النحل:35] ووصف البلاغ بأنه المبين، وقال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}[الأحزاب:39].

وعند إعراض الناس عن الإيمان كان يأتي التأكيد على وصول الأنبياء إلى رتبة البلاغ، قال تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}[الأعراف:79].

وكلمة بَلَغ: تعنى وصل أو قارب على الوصول، يقول ابن فارس: ( الباء واللام والغين أصل واحد، وهو الوصول إلى الشيء، تقول: بلغت المكان إذا وصلت إليه، وقد تسمى المشارفة بلوغاً بحق المقاربة)، ويقول:(وكذلك البلاغة التي يمدح بها الفصيح اللسان لأنه يبلغ بها ما يريده).

وقال الأزهري: (والعرب تقول للخبر يبلغ أحدهم ولا يحققونه وهو يسوءهم: سمْع لا بلَغ ، أي نسمعه ولا يبلغنا، ويجوز سمْعاً لا بلْغاً).

وهذا دليل على أن استعمال كلمة البلاغ إنما كان لما فيها من طبيعة الوصول والانتهاء.

ب- ولا معذرة للداعية إذا قصَّر في البلاغ ولقد نبه الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلى مثل هذا قائلاً: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة:67].

قال القرطبي:(وهذا تأديب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئاً من شريعته)، وليس المقصود بالبلاغ مجرد الإخبار  أو الإعلان، إنما المراد أن تصل رسالته للناس.

ج- ومن مقتضيات البلاغ أن يعي الداعية ما يُبلِّغه، لأنه لا تبليغ بلا وعى، ويستفاد هذا من قوله صلى الله عليه وسلم:( نضَّر الله وجه امرئٍ سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلَّغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يَغِلّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من وراءهم ).

قال الخطابي في شرحه لهذا الحديث:(نضَّر الله: معناه الدعاء له بالنضارة وهى النعمة والبهجة) وهذه النضارة من آثار التبليغ على المبلغ فالمُبَلِّغون أصحاب الوجوه الناضرة في الدنيا والآخرة.

واستفاد الخطابي من هذا الحديث كراهة اختصار الحديث لمن ليس بالمتناهي بالفقه، وعلى هذا فإن الوعي يكون بحفظ النص وأدائه كما قيل، ويكون للفقيه بمحافظته على المعاني المستفادة، ويترتب على هذا الحديث كل ما يتعلق بالرواية والدراية من العلوم والتفاصيل.

 

د-ومن مقتضيات البلاغ البلاغة:

والبلاغة في تفسير قوله تعالى:{وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}[النساء:63]: أن يكون كلاماً حسن الألفاظ حسن المعاني مشتملاً على الترغيب والترهيب والتحذير والإنذار والثواب والعقاب، فإن الكلام إذا كان هكذا عظم وقعه في القلب، وإذا كان مختصراً ركيك الألفاظ ركيك المعنى لم يؤثر البتة في القلب.

وقال في اللسان: رجل بليغ: حسن الكلام فصيحه يبلِّغ بعبارة لسانه كُنْه ما في قلبه.

وليست البلاغة في صعوبة الألفاظ والأساليب والبحث عن وحشي الكلام وغريبه.

وبناء عليه فإن على المُبَلِّغ أن يعلم من لغة العرب وأساليبهم ما يعينه على البلاغ.

ومقتضى هذا، بحث واطلاع، واعتناء باللغة العربية: علماً، وقراءة، وكتابة ومحادثة، ونظر في أدب العرب نثراً وشعراً، وفى نظم القرآن مبنى ومعنى، والدعاة اليوم هم أحوج ما يكونون لهذا ولا يعذرون بالقصور فيه.

هـ- ولقد جاء القرآن بتأكيد الفصاحة وسلامة النطق عندما قال الله تعالى على لسان موسى عليه السلام: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي}[طه:27]، فقد علم موسى عليه السلام أن سلامة النطق وفصاحته من أساليب البلاغ وإقامة الحجة، قال الرازي: (اختلفوا في أنه عليه السلام لم يطلب حل تلك العقدة على وجوه:

أحدهما: لئلا يقع في أداء رسالته خلل البتة.

ثانيهما: لإزالة التنفير لأن العقدة في اللسان قد تفضي إلى الاستخفاف بالقائل وعدم الالتفات إليه.

ثم قال: ورابعها: طلب السهولة لأن إيراد مثل هذا الكلام على مثل فرعون في جبروته وكبره عسر جداً، فإذا انضم إليه تعقيد اللسان بلغ العسر إلى النهاية فسأل ربه إزالة تلك العقد تخفيفاً وتسهيلاً.

ويستفاد من هذه القاعدة أن على الداعية أن يُعَوِّد نفسه على النطق الصحيح وإذا كانت في لسانه عقدة فليستعن بمن يفصح عنه ويساعده في مهمته، وذلك كي يصل بدعوته إلى درجة البلاغ والبيان، وهذا ما سأل موسى عليه السلام ربه سبحانه: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}[القصص:34].

والردء اسم ما يستعان به، قال الرازي في تفسير هذه الآية:(ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت أو يقول للناس صدق موسى، وإنما هو أن يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار، فهذا هو التصديق المفيد، ألا ترى إلى قوله: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}[القصص:34] وفائدة الفصاحة تظهر فيما ذكرناه لا في مجرد قوله: صدقت).

و- ومما يساعد الداعية على البيان والبلاغ وجود إخوانه معه إلى جانبه، فإن وجودهم يشد من عضده ويلقي في روعه الطمأنينة، من جهة، ومن جهة أخرى فإن وقع ذلك على المدعوين كبير، إذ عندما يرى المدعوون أن الداعية ليس وحيداً وأن معه أنصاراً وأعواناً فإنهم يلاحظون أثر الدعوة في الناس ويحملهم هذا على إمعان الفكر في هذه الدعوة.

قال تعالى مخاطباً موسى عليه السلام: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}[القصص:35]، وقال على لسان موسى أيضاً: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي 29 هَارُونَ أَخِي 30 اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي 31 وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}[طه:29 - 32]، قال الرازي في شرحه لهذه الآية: (واعلم أن طلب الوزير إما أن يكون لأنه خاف من نفسه العجز عن القيام بذلك الأمر فطلب المعين، أو لأنه رأى أن للتعاون على الدين والتظاهر عليه مع مخالصة الود وزوال التهمة مزية عظيمة في أمر الدعاء إلى الله، ولذلك قال عيسى عليه السلام:{مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ}[الصف:14]وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:64].

ز- ولكي يصل الداعية إلى درجة البلاغ فعليه أن يستعمل الوسائل الكاشفة عن مراده المقربة لدعوته، وهذا ما يعرف بوسائل الإيضاح، والوسائل المعينة، وعلى الداعية أن يخاطب الناس بالصورة والفيلم والخارطة والرسم البياني والمقطع التوضيحي والرحلة الهادفة والقصة والمثل والقصيدة ومخلوقات الله تعالى وعجيب صنعه.

النبي عليه الصلاة والسلام يستخدم وسيلة الإيضاح:

أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ( كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى بجمَّار، فقال: إن في الشجر شجرة مثلها كمثل المؤمن، فأردت أن أقول: هي النخلة فإذا أنا أصغر القوم فسكتُّ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي النخلة ).

فالنبي صلى الله عليه وسلم سأل عن شجرة يشبهها المسلم تشبيهاً وكان عند السؤال يأكل من الجمار، قال ابن حجر:(لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المسألة عند إحضار الجمَّار إليه فهم ابن عمر أن المسئول عنه النخلة).

إبراهيم عليه السلام يستخدم وسائل الإيضاح:

و القرآن الكريم يقص علينا كيف كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يستخدم هذه الوسائل المعينة عندما أراد أن يدعو قومه إلى عبادة الله ويصرفهم عن عبادة النجوم والكواكب قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ 76 فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ 77 فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ 78 إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:76 - 79]. وهذا أسلوب فيه التنزل مع المدعو والتدرج معه حتى يتوصل إلى إبطال مدعاه وإقامة الحجة عليه، ومعاذ الله أن يكون هذا هو معتقد إبراهيم عليه السلام.

قال الرازي في تفسيره: (إن هذه الواقعة إنما حصلت بسبب مناظرة إبراهيم عليه السلام مع قومه والدليل عليه أن الله تعالى لما ذكر القصة قال: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم  على قومه} ولم يقل على نفسه، فعلم أن هذه المباحثة إنما جرت مع قومه لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد).

وأما قوله: {هذا ربى} فمعناه على زعمكم واعتقادكم وذلك كقول موسى عليه السلام للسامري: {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا}[طه:97] فإن موسى عليه السلام لم يقره على مدعاة وإنما حكى زعمه وادعاءه، وكذلك قول الله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[القصص:62] فالشركاء هنا على حد زعم المشركين وادعائهم، وبهذا يكون إبراهيم عليه السلام قد دحض عقيدتهم في عبادة الحوادث والمتغيرات وأثبت عقيدته في عبادة الواحد الباقي الذي لا يعتريه النقص والتغير.

ومثال آخر جاء في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ 83 إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ 84 إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ 85 أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ 86 فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ 87 فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ 88 فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ 89 فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ 90 فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ 91 مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ 92 فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ}[الصافات:88 - 93]، وقال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ 58 قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ 59 قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ 60 قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ 61 قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ 62 قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ}[الأنبياء:58 - 63].

ونلاحظ أن إبراهيم عليه السلام استخدم أسلوباً من أساليبهم عندما يمرضون وهو المكث عند الأصنام طلباً للشفاء، ونراه يحطم الأصنام إلا صنماً كبيراً لعلهم إليه يرجعون، ثم نراه ينسب الفعل لهذا الكبير، وتأكيداً لهذا جعل الفأس في رأسه وهذا كله جعلهم يقولون: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ 64 ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ}[الأنبياء:64 - 65]، وبهذا فقد حكم المشركون على أنفسهم بالجهل والغباء وقرروا عجز آلهتهم عن حماية نفسها أو إجراء الخير والضر لها فضلاً عن تقديمه لغيرها.

ح- وللوصول إلى رتبة البلاغ فإنه لابد من تقليب الأساليب وتنوعها فما لا يصل بالجهر قد يصل بالسر، وما لا يصل بالليل قد يصل في النهار، وما لا يستقر في القلوب مع انشغالها قد يستقر فيها عند فراغها وما لا يؤثر في الصحيح قد يؤثر في المريض، وفى سورة نوح تطبيق كامل لهذا المبدأ ولهذه القاعدة قال الله تعالى على لسان نوح: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا 5 فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا 6 وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا 7 ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا 8 ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا 9 فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} نوح:5 - 10]قال القرطبي: (كل هذا مبالغة في الدعاء وتلطف بالاستدعاء). وقال ابن كثير: نوَّع عليهم الدعوة لتكون أنجح.

فدعاهم بالليل حيث السكون الداعي إلى حسن الاستماع، وحيث النجوم الدالة على خالقها ومنشئها، ودعاهم بالنهار حيث العمل واللقاء والمحاورة والمناظرة، وكان شأنهم التنكر له عندما يدعوهم ولكنه لم يتنكر لهم بل واصل دعوتهم وأمعنوا في التنكر فوضعوا أصابعهم في آذانهم وتلفعوا بثيابهم فصاح بأعلى صوته كي يصل إلى أسماعهم، ولما ألقوا بأسماعهم أسرَّ لهم إسراراً  قال القرطبي: وأسررت لهم أتيتهم في منازلهم، وهذه التفاته جيدة من القرطبي إذ إن الذهاب بالمدعو بعيداً عن أعين الناس أبلغ في التأثير في حين أن اللقاء مع المدعو أمام أعين الناس قد يسبب حرجاً له، بالإضافة إلى أنه ينبه أعداء الإسلام الذين يضربون هذه العلاقة بمجرد معرفتهم بهذه الصلة ويحذرون المدعو، ويكون هذا قبل أن تتمكن الفكرة في نفس المدعو، فيؤدى ذلك إلى عدم الاستجابة أو يؤخرها.

ط- وللوصول إلى رتبة البلاغ فإن على الداعية أن يخاطب المدعوين باللين لا بالغلظة والشدة واللين تلطف بالمدعو ورفق به، وتخير لأحب السماء إليه وأقرب الأساليب إلى قلبه، وليس اللين في التساهل في أحكام الشرع ولا في مجاراة أهل الباطل على باطلهم ولا في السكوت على المنكرات فالمؤمن على كل حال لا يخشى إلا الله ولا يرجو إلا ثوابه.

وإذا كان الله تعالى قد أمر موسى عليه السلام أن يقول فرعون باللين فمن باب أولى أن يكون اللين شعار كل دعوة قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى 43 فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه:43 - 44]،  وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة.

واللين أقطع من الشدة وأقدر على إيصال الكلام إلى القلوب وكثيراً ما يجد الداعية العقبات في طريقه بسبب كلمة قالها أو تصرف أساء فيه للمدعوين.

والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة تجعل المدعو يقف مباشرة أمام الدعوة، في حين أن الغلظة تجعل المدعو في حجاب عن الدعوة، وكما يضع أعداء الإسلام العقبات في طريق الدعوة فقد يضع المسلم - وهو لا يعلم - عقبات أيضاً، في طريقها سببها سوء صنيعه وضجره وسأمه وقصر نظره وضيق صدره والداعية الناجح هو الذي لا يفقد صوابه واتزانه مهما كانت الظروف.

يقول الرازي: (واعلم أن الدعوة إلى المذهب لابد أن تكون مبنية على حجة وبينة، والمقصود من ذكر الحجة إما تقرير ذلك المذهب أو ذلك الاعتقاد في قلوب المستمعين، وإما أن يكون المقصود إلزام الخصم وإفحامه).

والدعاة إلى الله يبتغون إيصال الحق والهدى إلى قلوب الخلق، وليسوا في حلبة مصارعة يبتغون الظفر على خصومهم، ويريدون إثبات تفوقهم  في الحجة والدليل، ويذهب الرازي إلى أن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة هي التي تؤدى إلى كسب الأنصار، بينما تبقى المجادلة بالتي هي أحسن لإقامة الحجة على الخصوم، فقال: (ومن لطائف هذه الآية أنه قال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[النحل:125] فقصر الدعوة على ذكر هذين القسمين.... أما الجدل فليس من باب الدعوة بل المقصود منه غرض آخر مغاير للدعوة وهو الإلزام والإفحام فلهذا السبب لم يقل: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل الأحسن بل قطع الجدل عن باب الدعوة تنبيهاً على أنه لا يحصل الدعوة.

للاطلاع على السلسلة: د. همام سعيد يكتب: قواعد عامة في الدعوة إلى الله

​​​​​​​

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم