القاعدة الثانية عشرة: الدعوة صورة أكيدة من صور الجهاد وتشترك مع القتال في الهدف والنتيجة

لم تعد كلمة الجهاد تعطي المدلولات التي فهمها الصحابة والتابعون، والتي جاء بها القرآن الكريم والسنة الشريفة، إذ إنها تعنى في عرف بعض الدعاة القتال، وأنه لا جهاد بلا  قتال، ونتيجة لهذا الفهم فقد ظهر في العالم الإسلامي أناس يريدون القتال ولو لم يحن وقته وتستكمل عدته، شعوراً منهم بأن الإثم يطاردهم وهم لا يقاتلون.

وتصويباً لهذا الفهم فإن علينا الرجوع إلى لسان الشرع في كلمة الجهاد، إذ إن مراجعة المعاني الشرعية ضرورة تعصم من الزلل والانحراف، قال في اللسان: (الجهاد محاربة الأعداء وهو المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل) وقال أيضاً: (والجهاد المبالغة واستفراغ ما في الوسع في الحرب، أو اللسان، أو ما أطاق من شيء)، ولبيان هذا المعنى العام للجهاد من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نسوق قول ابن قيم الجوزية: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا منه فاستولى على أنواعه كلها، فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان والدعوة والبيان والسيف والسنان) ثم يقول: (أمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا 51 فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}[الفرقان:51 - 52]، فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار بالحجة والبيان وتبليغ القرآن، وكذلك جهاد المنافقين إنما هو بتبليغ الحجة وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التحريم:9]، فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار وهو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل، والقائمون به أفراد في العالم، والمشاركون فيه والمعاونون عليه وإن كانوا هم الأقلين عدداً فهم الأعظمون عند الله قدراً، ولما كان من أعظم الجهاد قول الحق مع شدة المعارضة مثل أن تتكلم عند من تخاف سطوته وأذاه، كان للرسل صلوات الله وسلامه عليهم الحظ الأوفر، وكان لنبينا صلوات الله وسلامه عليه من ذلك أكمل الجهاد وأتمه، ولما كان جهاد العبد في الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسه في ذات الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)[1]، كان جهاد النفس مقدماً على جهاد العدو في الخارج.

 

هدف الجهاد

ونخلص من هذا إلى أن الجهاد استفراغ الوسع في محاربة الأعداء في الداخل والخارج، وليس الهدف منه هو القضاء على العدو، وإنما هو القضاء على أسباب العداوة والخصومة، فالكفر سبب العداوة بين المؤمن والكافر، فإذا زال السبب ودخل الكفار في الإسلام فقد زالت العداوة، والنفاق سبب العداوة بين المؤمن والمنافق، وإذا زال النفاق زالت العداوة.

ومآل الحرب في الإسلام إلى أحد أمور:

1- أن يدخل الكافر المحارب في الإسلام.

2- أن يدفع الجزية ويدخل في دار الإسلام خاضعاً لثقافتها ونظامها.

3- أن يقتل فيُقضى على كفره باستئصاله وهدر دمه.

الدعوة هي الوسيلة الأولى لكسب الأنصار:

وهذا ترتيب توقيفي لابد من مراعاته ومن خلاله نرى أن الدعوة مقدمة على غيرها، وهي الوسيلة الأولى لكسب الأنصار ولتحويل الكفار إلى مؤمنين.

وهدف الدعوة باللسان واليد واحد والأصل في تكوين المجتمع المسلم دعوة الأفراد للدخول في الإسلام فيلتزمون عقيدته وشريعته.

والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة تجلب كل يوم أنصاراً إلى الإسلام، وكلما أقبل فرد على هذه الدعوة سقط مكون من مكونات الجاهلية، وهكذا فإن الجاهلية في مكة كان لها في كل يوم حديث عن تحول رجل أو امرأة من ساحة الشرك إلى ساحة الإيمان، ومن جند الشيطان إلى جند الرحمن.

 

ما فقدناه بسبب الغزو الفكري نسترده عن طريق الدعوة

إن الغزو الفكري الذي داهم بلاد المسلمين قد استحوذ على جمهرة كبيرة من أبنائها، وسقط هؤلاء الأبناء صرعى في معركة فكرية كانت في غيبة الدعاة غير متكافئة، وما خسرناه عن طريق الفكر أكثر مما خسرناه عن طريق معارك المواجهة، وما نسترده عن طريق الفكر بعد هذه الصحوة واليقظة أكثر مما نسترده عن طريق المواجهة.

في حين أن القتال يكون بين مجتمعين: مجتمع الإيمان ومجتمع الكفر بسبب العوائق التي يضعها الكافرون في وجه الدعوة، فإن الدعوة بالحوار والموعظة تبقى قائمة في المجتمع نفسه لاستقطاب الأفراد في هذا المجتمع أو من المجتمعات الأخرى، إن انقسام المجتمع إلى فرقتين متصارعتين فإنه يلغي الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وينتهي دور الكلمة الهادئة الودودة ، وعندها لا يكون أمام الدعاة من سبيل إلا الفرار من المجتمع والرضا بشواهق الجبال وعميق الكهوف وبذلك تتآكل الدعوة وتذوى يوماً بعد يوم.

إن الفرار من المجتمع أو العزلة عنه أسلوب يدل على ضيق الأفق ويكشف عن جهل بأولويات الدعوة، ويدل أيضاً على اليأس من المجتمع، وعلى فشل الداعية في الإصلاح، وإن أعداء الفكرة الإسلامية يطمعون في إيصال الداعية إلى مثل هذه القناعات، وإن خطر هذه الأفكار أعظم على الدعوة من خطر أعدائها عليها.

موقف النبي صلى الله عليه وسلم من العزلة:

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في شعب أبي طالب يتشوق إلى اليوم الذي تمزق فيه صحيفة  المقاطعة ليعود هو وأصحابه إلى المجتمع المكي يقارعونه الحجة والموعظة والكلمة، وبذلك يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رفض العزل عن المجتمع ولم يعتبر وجوده وأصحابه في الشعب استقلالاً مباركاً للحركة الإسلامية عن المجتمع، وذلك لأن الإسلام يقرر أن للدعوة طريقين:

الطريق الأول: الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة عندما يكون المسلمون مختلطين بغيرهم وهم قلة في المجتمع.

الطريق الثاني: الدعوة بكل وسائلها بما فيها القتال، وذلك عندما يكون للمسلمين مجتمع كتب له أسباب الحياة من حيث الموقع الاستراتيجي والسكاني والاقتصادي.

فهم المفسرين لهذه الفكرة:

قال ابن كثير في تفسير قوال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}[النساء:77]، يقول: كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة وكانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أُمِروا بالقتال ليتشفوا من أعدائهم، ولم يكن إذ ذاك مناسباً لأسباب كثيرة منها:

قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام.

تحليل:

فابن كثير - رحمه الله - يستبعد استعمال القوة عند قلة العدد، الذي هو مظنة عدم الغلبة، وهذا مخالف للفهم الخطأ الذي خلاصته أنه لا عبرة بالعدد والعُدد على الإطلاق، وأنه مائة صابرة تغلب مائة ألف، علماً بأن القرآن الكريم جاء يفصِّل هذه القضية، وفى سورة الأنفال يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ 65 الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:65 - 66].

قال ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} شق ذلك على المسلمين، حين فرض الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة، ثم جاء التخفيف ‎:{الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً} قال: خفف الله عنكم من العدة، ونقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم... روى البخاري (عن ابن عباس - رضي الله عنهما - لما نزلت هذه الآية ثقل على المسلمين، وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين، ومائة ألفاً، فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى، فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم يسغ لهم أن يفروا من  عدوهم، وإذا كانوا دون ذلك لم يجب عليهم قتالهم وجاز لهم أن يتجوزوا عنهم).

قال الرازي: الذي استقر حكم التكليف عليه بمقتضى هذه الآية: كل مسلم بالغ مكلف وقف بإزاء مشركين فالهزيمة محرمة عليه ما دام معه سلاح يقاتل به، فإن لم يبق معه سلاح فله أن ينهزم، وإن قاتله ثلاثة حلت له الهزيمة، والصبر أحسن.

وهذا النمط من التربية يفتقر إليه كثير من الناس الذين يظنون أن التهور قربة إلى الله تعالى، ويظنون أن رمي الألوف المؤلفة بالآحاد أسلوب مبدع من أساليب العمل الإسلامي، والآيتان السابقتان تبطلان هذا الفهم، علماً بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم في الذؤابة في طلب الفضل والسبق والتماس رضا الله سبحانه وتعالى.

وهناك فرق كبير بين الرغبة في تسجيل الصفحات البطولية والرغبة في تحقيق الأهداف والوصول بالمسلمين إلى شاطئ السلامة والخروج بهم من المعاناة.

وأما قول ابن كثير: ومنها كونهم كانوا في بلدهم  فيدل على فطنته وحكمته، فقد التفت إلى أن المسلمين في مكة إنما يعيشون في بلدهم، وعندما يلجأون إلى القوة فإن آثارها ستصيب بلدهم أولاً، والمسلم عُرِفَ بالإصلاح والإحسان والتنمية والتزكية وصلة الرحم رغم ما يكون عليه أعداؤه من قومه من القطيعة والإساءة.

سورة الفتح تؤكد هذا المعنى:

وقد جاءت سورة الفتح تذكر أن وجود بعض المؤمنين الذين يكتمون إيمانهم في المجتمع المكي كان من الأسباب التي صُرِفَ لأجلها القتال، فقال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الفتح:25].

يقول القرطبي في تفسيره هذه الآية: {ولولا رجال مؤمنون} يعني المستضعفين من المؤمنين بمكة وسط الكفار: {لم تعلموهم} أنهم مؤمنون: {أن تطؤوهم} بالقتل والإيقاع: {فتصيبكم منهم معرة بغير علم} أي يقول المشركون: قد قتلوا أهل دينهم: {لو تزيلوا} لو زال المؤمنون من بين أظهر الكفار لعذب الكفار بالسيف، ولكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكافرين، وفى ذلك يقول ابن كثير: (ولولا أن بين أظهرهم ممن يكتم إيمانه ويخفيه منهم خيفة على أنفسهم من قومهم لكنا سلطناكم عليهم فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم، ولكن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات أقوام لا تعرفونهم حال القتال).

نخلص من هذا إلى أنه لا مناص من الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة في حال اختلاط الصالحين بغيرهم والمسلمين بغيرهم، وأن استخدام القوة مؤداه خطر على الدعوة والدعاة للأسباب الآتية:

  • ستتعرض فئات المجتمع لألوان البطش والإرهاب وسيذهب البريء مع غيره.
  • ستغيب الدعوة بالحكمة والموعظة والكلمة، ولن يعود هناك من وسيلة للتفاهم سوى القوة.
  • سيترك الدعاة أماكن التأثير في المجتمع إلى المغاور والكهوف والأماكن النائية.
  • ستنفرد الأفكار المعادية في تربية المجتمع وتوجيهه.
  • سيواجه الإسلام بالدعاية المضادة، وأن رجاله لا يفهمون سوى لغة القوة والبطش.
  • ستخسر الدعوة من رجالها من يصعب تعويضه وسد العجز الناشئ عن فقده.

سيقف هذا الأمر مانعاً من لحاق كثير من الناس بركب الدعوة لأن الناس يفهمون عندها أن الدعوة ليس لها هدف عميق صبور طموح يعمل - بإذن الله - على إيصال المجتمع إلى قبول الإسلام، وإنما يسود التصور القائل بأن المسلم يريد أن يموت في سبيل الله وليست لديه خطة واعية ناشطة للوقوف في وجه الفتن التي ستبقى تلاحق أبناءه وأقرباءه وجيرانه، وعندما لا يضع المسلم في حسبانه مقارنة قوته بقوة أعدائه فإنه يحول العمل للإسلام إلى ضرب من الانتحار ولكنه في سبيل الله !...

 

وقفة

وهناك خلط كبير بين طبيعة الجماعة وطبيعة المجتمع، والذين يطالبون الجماعة بما يطالبون به المجتمع إنما يفعلون ذلك لظنهم بأن الجماعة مجتمع.

و الصواب أن الجماعة أفراد من الناس التقوا على فكر معين وولاء معين وخطة معينة ولهم تنظيم وقيادة، وهؤلاء الأفراد متناثرون بين فئات المجتمع لا يشكلون أكثرية عددية، ولا يملكون القوة الفاعلة في أجهزة المجتمع ومؤسساته.

وصورة المسلمين في مكة قبل الهجرة تمثل حالة الجماعة.

وأما المجتمع فهو قطاع عريض من الناس يحكمهم نظام ويخضعون لسلطان، وهذا القطاع له مؤسساته وأجهزته ويسيطر على هذه المؤسسات والأجهزة ويضع لها السياسات، ويقم هذا المجتمع على أرض لا ينازعه فيها أحد، وهذا القطاع العريض يعمل على صياغة الأفراد وفق قيمه وتطلعاته.

والمجتمع في المدينة بعد الهجرة يمثل هذه الصورة.

 

نتيجة

إذا اتضح هذا فينبغي أن نفرق بين مواجهة المجتمع لمجتمع آخر، وبين مواجهة جماعة لمجتمع، والجماعة لا تستطيع أن تواجه المجتمع، وذلك لأن المجتمع نسيج كامل، وأجهزة فاعلة ناشطة لا تتوقف عن العطاء والتنمية والتكاثر، ففي المجتمع تبقى المؤسسات التعليمية تعمل وتبقى المؤسسات الاقتصادية تنتج، وستظل الدوائر التربوية تربي، في حين أن الجماعة إذا دخلت محنة القتال فإن دوائرها التربوية والاقتصادية والعملية وسائر وسائلها ستتوقف عن العمل، وفى النهاية فإنها ستضمر وستذوى، وإلى جانب ذلك فإن المجتمع لا يهتز لخسارته فرداً من أفراده، وأما الجماعة فإنها تتأثر بفقد فرد من أفرادها.

النبي صلى الله عليه وسلم بين الجماعة والمجتمع:

وتطبيقاً لهذا المبدأ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوافق بعض الأنصار في بيعة العقبة عندما استأذنوه في أن يميلوا على أهل منى بأسيافهم، وذلك بعد أن فهموا أن البيعة على حرب الأحمر والأسود.

قال في إمتاع الأسماع: (وكانت هذه البيعة على حرب الأحمر والأسود فلما تمت بيعتهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يميلوا على أهل منىً بأسيافهم فقال: (لم نؤمر بذلك) فرجعوا وعادوا إلى المدينة.

ولو كان الهدف من الدعوة مجرد الانتقام من رؤوس الشرك لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أتباعه بقتلهم، ولو كان الهدف من الدعوة أن يصل المؤمنون إلى مرتبة الشهادة لعملوا لذلك في بداية أمرهم عند البيعة وهم في طور الجماعة، وهذا عمل لا ينسجم مع الأهداف والمصالح الكبيرة التي راعاها هذا الدين.

وكذلك الحال في المدينة، فإن أهل المدينة لم يدخلوا في الإسلام دفعة واحدة بل بقيت طوائف النفاق تعيث  فساداً وتتآمر على المسلمين، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعاض عن حرب التصفية الجسدية بحرب الدعوة والجدل والإحسان للخصوم.

اختلال الموازين أمام ضغط الواقع:

لاشك أن للواقع الذي يعيشه المسلمون تأثيراً كبيراً على فكرهم وممارستهم، وأحياناً يصل ضغط هذا الواقع إلى درجة يفقد المسلم معها قدرته على تصور الخط المنهجي، ويتساءل: إلى متى نبقى تحت وطأة المعاناة؟ فيقول: أليس هناك شيء غير الصبر والمصابرة ؟ وعندها يجيب المتحمسون على هذا السؤال بطلب المواجهة والانتقام ولو على حساب الدعوة.

والقرآن الكريم يحذرنا من هذا التفكير ويبين أن أكثر الناس حماساً وتهوراً واستعجالاً هم الذين يصابون بخور العزيمة.

يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: (يعجب الله سبحانه من أمر هؤلاء الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال ويستعجلونه وهم في مكة يتلقون الأذى والاضطهاد والفتنة من المشركين، حين لم يكن مأذوناً لهم بالقتال للحكمة التي يريدها الله، فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدَّره الله، وتهيأت الظروف وكُتِبَ عليهم القتال، إذا فريق منهم شديد الجزع شديد الفزع).

ويقول أيضاً: (إن أشد الناس حماسة واندفاعاً وتهوراً، قد يكونون هم أشد الناس جزعاً وانهياراً وهزيمة عندما يجدُّ الجدّ وتقع الواقعة، بل إن هذه قد تكون القاعدة! وذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالباً ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف لا عن شجاعة واحتمال وإصرار، كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال، قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة فتدفعهم قلة الاحتمال إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل، دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار، حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما تصوروا، فكانوا أول الصف جزعاً ونكوصاً وانهياراً، على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت ويعدون للأمر عدته).

 

 

واجب الموجهين والمفكرين:

قد يبلغ تيار الحماس من الشدة إلى درجة ينساق المربي والموجه والمفكر في هذا التيار، ويفقد هؤلاء قدرتهم على السيطرة والقيادة، وهذه مجاراة خطرة وكما تكون مجاراة أهل المعاصي في معصيتهم فإن مجاراة المتعجلين والتنازل عن خط الدعوة المثمر كبيرة من الكبائر، بالرغم مما قد يوصف به الموجه من العجز والضعف، وإن الموجه الذي آتاه الله بصيرة ومعرفة مسئول عن نتائج التعجل أكثر من المتعجلين.

الحل الصحيح:

إن ضغط الواقع ينبغي أن لا يسوق إلى الحل الخطأ، ومهما طال انتظار الحل الصحيح فإن هذا هو الصواب وطول الزمن لا يفقد الحق أحقيته، وقصر الزمن لا يعطي الخطأ صفة الصواب.

عود على بدء:

إن الحل الصحيح في الدعوة مع المعاناة، والصبر على طول الطريق والتمركز في المجتمع والتماس أسباب القوة والبحث عن هذه الأسباب في كل مجتمعات الأرض، وحشد الطاقات في أكثرها توقعاً لقبول الدعوة، وهو جهد لا يعرف الكلل ولا الملل، وعندئذ تقوم القاعدة الصلبة التي يبدأ منها طريق الحل الشامل.

وقبل ذلك:

وإلى أن يصل المسلمون إلى تلك المرحلة فإنهم سيدفعون الثمن غالياً من الضحايا والدماء والأشلاء، ولكن سيجدون بعون الله تعالى ثمرة جهادهم وجهدهم، وبغير هذا الطريق سيدفعون الثمن مع البعد عن الهدف.

وعندما يقبل المجتمع أن يكون الإسلام نظامه وشريعته، وذلك من خلال مراكز القوة فيه فإن المجتمع يصبح إسلامياً، وعندئذٍ تتكون القاعدة القادرة على القيام بأعباء الحرب، ويكون المجتمع عندئذٍ قادراً على استغلال طاقاته، عاملاً على تعويض كل نقص ينشأ من جراء القتال، ويصبح القتال وسيلة ممهدة للدعوة تعمل على إزالة العقبات المانعة من وصول الدعوة إلى الناس.

فالهدف من الدعوة والقتال واحد، وهو إيصال الخير إلى الناس والفارق بينهما أن الدعوة تكون مع احتمال الأذى، والقتال يكون دعوة مع إزالة الأذى.

إن أعداء الإسلام يطمعون في أن تخرج الجماعة المؤمنة عن خطها فتستعجل النصر، وتحاول قطف الثمرة قبل أوانها، والشواهد كثيرة على عمليات الاستدراج التي تنتهي بالبطش والتنكيل بالعاملين للإسلام  إلى جانب النتائج السلبية التي يتركها التعجل على الجماعة وأنصارها وخططها ومستقبلها.

لقد آن الأوان  لأن يفعل المسلم ما يريده لا ما يراد له، وأن يتصرف وفق ما خَطَّط لا وفق ما خُطِّط له ، ولا ينبغي أن يشغل المسلم عن هدفه مؤثر حظ النفس في العاجلة، على تحقيق الأهداف الآجلة.

إن الجماعة الإسلامية لتسجل كل يوم نتائج إيجابية تقربها من الهدف، وإن المراقب المنصف ليرى التحولات الجذرية في فكر كثير من الناس وسلوكهم، ويلاحظ أن الأمة بدأت تستجيب لنداء الإيمان، وبدأت تألف ما كانت بالأمس تنكره، وإن العمل الحثيث يصل بالأمة إلى إحداث تغيير كبير في جميع شئون حياتها، وإن العديد من المؤسسات آخذ في الاتجاه نحو الإسلام.

وهكذا فإن الدعوة إلى الله تعالى هي الوسيلة إلى تكوين مجتمع الإسلام وقاعدته، وإن القتال حركة اجتماعية تنبثق عن المجتمع وترتكز على القاعدة الصلبة، وعندها ماذا سيقول المتعجلون؟  هل يقولون: {ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب}.

 


[1] الألباني: السلسلة الصحيحة.

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم