يهل علينا موسم الحج في هذه الأيام المباركة، ورغم تأجيل الحج هذا العام وإبقائه فقط لمن هو داخل المملكة العربية السعودية؛ بسبب الإغلاق الذي فرضته المملكة العربية السعودية على الحرمين المكي والنبوي بسبب جائحة كورونا، وإيقاف رحلات الحج والعمرة من خارج المملكة، إلا أنه ينبغي علينا العلم بتشريعات وفقه الحج، ومدارستها مدارسة المتعلم المتفقه المستزيد من العلم، وهذه وقفات مقتضبة أعدها ناصر بن سليمان العمر، وأشار فيها إلى دروس ينبغي أن نستوعبها يمليها علينا موسم الحج في كل عام، وقليل من يعتبر بها، ومنها:
- أن الله عز وجل أمر بإتمام الحج والعمرة، كما في قوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْـحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وأشار إلى معنى إيجاب الإتمام في قوله: {الْـحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْـحَجَّ...} [البقرة: 197]؛ قال العلماء: أي أوجب بإحرامه حجًّا، وفيه دلالة على لزوم الإحرام بالحج والمضي فيه، وهذا التشريع للإتمام - وإن كان الحج تطوعًا أو العمرة نافلة - فيه تربية للمسلم على التزام أي عمل إيجابي يَشْرَع فيه ويكون في تركه: فساد، أو ترك ثغر للأعداء، أو ثلمة قد تؤثر في كيان المجتمع المسلم.
- أمر الله بإتمام الحج والعمرة لله، فقال: {وَأَتِمُّوا الْـحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فهو عمل لله وحده، وفي هذا تأكيد على الإخلاص فيه، وذلك أن الحج كله تجريد للتوحيد، كما قال جابر رضي الله عنه: «فأهل بالتوحيد»، فالحج المعتبر ما كان لله وحده، فاحذر أن يخالط حجك ما يبطله من رياء وسمعة وإعجاب، وتفقد قلبك عند كل شعيرة ومنسك.
- جعل الله تعالى الحج أشهرًا، وذلك في قوله عز وجل: {الْـحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْـحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْـحَجِّ} [البقرة: 197]، وهذه الأشهر قللها ربنا تسهيلًا على النفوس ما منعها فيه أو غلظه، وقد قللها من ثلاثة أوجه فقال: «أشهر»، ولم يقل شهور فعبر بجمع القلة، ثم قال: «معلومات»، وهذا جمع سلامة وهو من جموع القلة أيضًا، ثم قال: «فيهن»، والعرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة «فيهن» فإذا جاوز هذا العدد قالوا «فيها»، ومع هذا التقليل يريد بعض الحجاج اختصار أشهر الحج في ساعات! فيبحثون عن شواذ الفتاوى، ويخالفون الجماهير بها، بدعوى التيسير، وهو التساهل والتقصير، وإلاّ فشريعة الله الميسرة جعلت الحج أشهرًا، والواجب أن نرضى وتنشرح نفوسنًا باتخاذ محمد -صلى الله عليه وسلم- رسولًا نقتدي به ونتأسى بفعاله، ونأخذ عنه مناسكنا، وفي شريعته من الرحمة بأهل الأعذار ورفع الحرج عن أصحاب الحاجات ما يجد فيه صاحب العذر مندوحة، ولكن حذاري من أن يركب القوي القادر مركب الضعيف المعذور!
- المتأمل لآيات الحج يلحظ تكرر ورود التكبير، وذكر الله عز وجل، والتركيز فيها على التقوى وعمل القلب، كما في قوله تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُـحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج:37]، وقال في الآية قبلها: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْـمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وقال: {فَإذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْـمَشْعَرِ الْـحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَـمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198]، وقال في الآية بعدها: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ}، وقال في الآية التي بعدها: {فَإذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}؛ وذلك لأن أغلب مناسك الحج ارتبطت بمظاهر وجمادات محسوسة، فلئلا يتعلق القلب بشيء منها، أو يعتقد فيها ضرًّا أو نفعًا، وينصرف عن المقصد الأعظم من الحج، الذي هو تحقيق الإيمان والتقوى، وتجريد التوحيد الذي يعلن به الحاج ويرفع به صوته في أثناء تردده بين مناسكه حينما يجهر بالتوحيد ملبيًا: لبيك الله لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
- أباح الله التجارة في الحج، {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 198]، روى البخاري: عن ابن عباس، قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواق الجاهلية، فتأثَّموا أن يتجروا في المواسم فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ} في مواسم الحج،
- من أعمال البر في الحج إطعام القانع والمعتر، {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْـمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْـمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الحج: 34، 35].
- أخيرًا: شرع الله الاستغفار والدعاء في خواتيم كثير من العبادات ومنها الحج، قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * فَإذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 199، 200]، وذلك أنّ الحاج قد يغشاه فرح وسرور بعد أداء تلك المناسك، وقد يصاحب ذلك إعجاب بعمله، إذ قد أنجز تلك الأعمال العظيمة في فترة وجيزة، مع مشقة ظاهرة، فجاء الأمر بالاستغفار ليستصحب التقصير الذي لا ينفك عنه عمل، فيتلاشى الإعجاب والزهو، ويبقى الرجاء يضفي على الفرح اعتدالًا، ويجعله أقرب للفرح المذكور في قوله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
.