الحلقات والمؤسسات القرآنية قدمت نموذجًا رائعًا في العالم الإسلامي في استنقاذ الأجيال من مخالب الاستعمار الثقافي والفكري؛ وذلك حين أعادت كتاب الله العزيز إلى اهتمامات الأطفال والشباب من خلال حلقات القرآن الكريم المنتشرة طولًا وعرضًا.
وفيما يلي يسعرض الدكتور فايز بن سعيد الزهراني، منهجية الــــ «مثاني» مستمدة من كتاب الله تعالى وتطبيق رسول الله صلى الله عليه وسلم لها هو وأصحابه.
معنى المثاني
يقول المولى الكريم: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْـحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: ٣٢].
ويتضح من أقوال المفسرين أن لفظة «مثاني» تدل على التكرار، أي تكرار الأمر في أكثر من موضع، وأيًا كان هذا الأمر، سواء كان حكمًا تكليفيًا، أو خبرًا، أو توجيهًا، بغرض الإفهام وإبلاغ الرسالة المقصودة. وهذا يقتضي أن الـــ«مثاني» تعني شيئين متلازمين: التكرار، والإفهام.
لو طبقنا ذلك على العديد من الموضوعات القرآنية، لوجدنا أنها– في عمومها– تتكرر متخذة أساليب متنوعة وطرائق مختلفة، بغرض التأكيد والإقناع والإفهام. وبهذا التكرار وذلك التنوع أثنى الله على كتابه العزيز فقال عنه: {أَحْسَنَ الْـحَدِيثِ} [الزمر: ٣٢]، ومن حسنه وجماله وإحكام نظمه وإتقان سرده أن يكون «مثاني»، تكرر فيه القصص والأحكام والحدود، هذا أمر أخفقت القوانين الوضعية والنظم الاصطلاحية والدساتير في مجاراة القرآن الكريم فيه أو الاقتباس منه.
القرآن الكريم لا ينطق بالحكم مرة واحدة كنص مادة في لائحة تنظيمية أو جزائية. كلا! إنه يتكرر وبأشكال مختلفة. إنه في سورة ينطق بالحكم مرة، وفي سورة أخرى ينطق ثانية، وفي سورة ثالثة ينطق ثالثة، وفي سورة رابعة يضمّن الحكم في كلام عام.. وهكذا، ذلك أنه يلتفت إلى هذه الطبيعة البشرية الضعيفة والمرهفة، فيخاطب فيها الوجدان ويحرك الضمير ويتفاعل مع المشاعر.
مُقرئ مُربٍّ
مع كون هذا القرآن الكريم نزل من عند الله، والله قادرٌ على أن يجعل كتابه مربيًا بذاته، كما قال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْـجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّـمَ بِهِ الْـمَوْتَى بَل لِّلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: ١٣]، ومع كونه نزل بلغة العرب، يخاطبهم وهم في أوج فصاحتهم، ومع كونه «مثاني»، من طبيعته التكرار والإفهام ومراعاة النفس الإنسانية، ومخاطبة الوجدان والضمير.. مع ذلك كله، إلا أنّ الله تبارك وتعالى جعل في الناس رجلًا منهم يقوم بمهمة التربية على هذا القرآن: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: ٤٤]، أما الآية الثالثة فهي تفيد ثلاث وظائف لهذا الذي يعلم الناس ما أنزل الله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ} [الجمعة: ٢]، الأولى: الإقراء، الثانية: التزكية والتربية، الثالثة: تعليم الأحكام.
إن إقراء القرآن الكريم والتربية عليه، وإن كانا أمرين يختلف أحدهما عن الآخر، إلا أنه يجب الإقران والجمع بينهما، ولا يكون ذلك إلا من خلال مقرئ يمارس الدور التربوي.
الـــ«مثاني» منهج تربوي
لم يكن إقراء القرآن بدون الإفهام والتكرار والتربية عليه أمرًا متّبَعًا عند الصحابة رضي الله عنهم، بل هو أمرٌ طارئ وحادث، وقد مرّ معنا في الحديث عن حلقات ابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهما شيء من ذلك، قال الإمام المقرئ أبو عبد الرحمن السلمي: «أخذنا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهنّ إلى العشر الأُخر حتى يتعلموا ما فيهن، فكنّا نتعلم العلم والعمل به، وسيرثُ بعدنا قومٌ يشربونه شرب الماء لا يجاوز تراقيهم».
وهذه المنهجية– أعني الـ«مثاني»– تقتضي الظرف الزماني الطويل في حفظ القرآن الكريم وتعلمه وتعليمه، وعلى الحلقات والمؤسسات القرآنية اليوم أن تلتفت إلى هذا الأمر وأن تنسّق جهودها التعليمية القرآنية مستضيئة بما كان عليه سلف الأمة.
وهذا يفسّر لنا الأخبار التي تذكر بقاء أحدهم مدة طويلة في حفظ سورة من سوره، فابن عمر رضي الله عنهما يبقى ثماني سنين في حفظ سورة البقرة.
هذا أمر طبيعي جدًا، لكن المسلمين في العصور التي تلت عصر الصحابة لم يقوموا بهذا التدبر، ولعلّ السبب الأهمّ في هذا هو أنهم تركوا منهج الصحابة في قرن العلم بالعمل، بل أصبح من يدرس القرآن منهم يدرسه على أنه كتاب ثقافة فيها الفقه والنحو والكلام وما إلى ذلك.. وما كان الناس مستعدين لدراسة هذه العلوم ولم يُطلب من الناس كلهم ذلك، بينما نزل القرآن للعمل، ومطلوب من الناس كلهم أن يعملوا به.
من خلال مناقشتنا لمنهجية الـ«مثاني» يمكننا تلخيص طريقة الصحابة في حفظ القرآن وتعليمه في ثلاث نقاط على التوالي:
- التؤدة في الحفظ والتعليم وعدم الاستعجال.
- أن تقرن الحفظ بالفهم.
- أن تقرن الفهم بالعمل.
.