«بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء»، هكذا لخص رسول الله ﷺ هذه الدعوة الربانية التي جاء بها محمد ومن سبقه من الأنبياء عليهم جميعا صلوات الله وتسليمه، وحملها من بعدهم خلفاء من الأرض اصطفاهم الله بفضله ليكونوا نماذج ربانية يرسمون للناس طريق الهداية، فاستحقوا أن يكونوا نجوما في سماء الهداية الربانية.
لقد ترك رسول الله جيلا متواصلا حاملا لهذا الدين وسيظل ممتدًا حتى قيام الساعة، ولن تخلوا الأرض ممن يرفع شعار دينه حتى ولو كان وسط الجميع غريبا، وهكذا كل من يعمل لدينه صادقًا في نواياه، وأحسب أن رجالات الإخوان المسلمين ومن على شاكلتهم رجالا عرفوا دينهم حقا فصاروا عبيرا يفوح بالهدى. ومن هذا الركب العظيم والذي رحل عنا مخلفا سيرة عطرة كان الحاج فؤاد الهجرسي.
من هو؟
فؤاد حجازي الهجرسي، ولد في 5 أكتوبر من عام 1930م بميت رومي (دكرنس دقهلية)، حيث كانت تعمل الأسرة بالزراعة، التحق بمعهد دمياط الأزهري، ثم التحق بالثانوي الأزهري بالمنصورة، حيث امتحن السنة التي ضاعت عليه وقت أن كان في المعتقل، حيث حصل على الثانوية عام 1950م، لم يستطع أن يدخل الجامعة لظروف عائلته المادية فاضطر أن يتعين بالشهادة الثانوية في التعليم الابتدائي وظل كذلك حتى عام 1965م حينما نُقل للمدرسة الابتدائية بقريته ثم اعتقل.
بعد خروجه عمل مدرسًا للغة العربية حيث يقول في ذلك:
«عملت في التعليم الابتدائي 1971م وعندما عدت من المعتقل عدت لنفس المدرسة، وكان هناك عجزًا في التعليم الإعدادي في اللغة العربية وباعتباري أزهريًا انتدبت إلى التعليم الإعدادي للغة العربية في العام الدراسي 1971/1972م، وظللت أعمل به إلى نوفمبر 1985م بين مدرستين من المدارس الإعدادية في نفس البلد، وسويت معاشي على سن 55 سنة».
زواجه
كعادة أهل الريف ارتبط أول ما ارتبط بقريبة له فيصف الأمر بقوله:
«تزوجت قريبة لي وظروفي الاقتصادية كانت متناسبة مع هذه الظروف، كان أبوها ابن عمي وكان بيننا اتصالات حتى تقدمت إليها، ولم أتزوج إلا بعد فترة طويلة من ارتباطي بها، تزوجنا وظلت معي في القرية البعيدة في أطراف المنزلة، ونقلنا إلى (دكرنس) إلى بيتنا وعشنا إلى عام 1965م حتى اعتقلت، وظلت بجواري إلى أن خرجت من المعتقل، وتوفيت آخر يوليو سنة 1971م واسمها (هانم عبد الفتاح الشربيني) وتاريخ ميلادها بالتاريخ الهجري لا أتذكره، ولم يكن لها عمل فكانت ربة منزل، أما عن دورها الدعوي فقد قبلت كل الأمور التي كنت أعيشها من حركة بين الشعب وزيارات البلاد، وتجمعات الإخوان في المنزل، وفي فترة الاعتقال كانت جيدة جدًا في أدائها معي، وكنا نكلفها ونحن في المعتقل ببعض الأعمال مثل أن ترسل الرسائل إلى بعض البيوت في بعض البلدان، رغم أنها كانت قليلة السفر لكن كانت تؤديها بطريقة جيدة، وكنا نستغلها في إصلاح ذات البين عندما رفضت بعض الزوجات أن تزور أزواجهن عندما طالت فترة الاعتقال حتى جعلتهن يزُرْنَ أزواجهن مرة أخرى، وكان لي من الأبناء ابنة واحدة؛ فنحن تزوجنا في يناير 1957م وهذه الابنة ولدت في أكتوبر 1957م وبقية الأبناء توفوا (رحمة الله عليهم)، وقد أتمت دراستها في كلية التربية في جامعة المنصورة ورزقها الله بخمسة من الأبناء والحمد لله علاقتهم بالدعوة طيبة».
بعد وفاة زوجتي عام 1971م رزقني الله بأخت أتم الله علي الزواج بها فكانت نعم الزوجة.
في صفوف الإخوان
كانت بداية حياته يعمل في الزراعة، ثم رعي الغنم، ومع ذلك كان يحفظ القرآن، وكانت تغير المصير في حياته حينما التحق بالأزهر وتعرف على أحد الإخوان وهو الحاج عبد العظيم أبو المعاطي الشربيني وكان يعمل نجارًا فكان يطلنه في الشعبة ليصحح القرآن للشباب وكان ذلك عام 1945م وكانت بداية التحاقة بجماعة الإخوان المسلمين وكان عمره 15 عامًا.
غير أنه كان قد تعرف على الأستاذ البنا قبل ذلك التاريخ وهو في عمر 12 عاما حيث زار الأستاذ البنا دكرنس عام 1942م ويحكي الحاج قؤاد ذلك بقوله:
الحقيقة أنه زار (دكرنس) سنة 1942م، ونحن قريتنا بجوار (دكرنس) وكنت طفلًا عندي 12 سنة، وكنا نحن الأطفال نجري ونلعب حول أية إضاءة شديدة تنير في الطريق، وأذكر جيدًا وكأن الصورة ماثلة أمامي الآن، أذكر جيدًا أنه عندما بدأ – رحمة الله عليه – يلقي الكلمة وجدت نفسي بتلقائية شديدة جلست بركن بعيدًا عن الأولاد أسمع، وأعتقد أن كل ما كان يعجبني هو نغمة الصوت، وكأنها ما تزال محفورة في أذني إلى الآن، فظللت جالسًا في هذا المكان إلى أن انتهى وخرج معه الناس ولا أعرفه، لكن عندما اتصلت بالجماعة وأصبحت أحد الطلبة في الجماعة- أي جماعة الإخوان- وانتقلت إلى دمياط، جاء هو رحمة الله عليه إلى دمياط سنة 1947م في زيارة وكنت متشوقًا جدًا أن أراه، وحريصًا جدًا على رؤيته، وجدت أنني مكلف بأن أقف بجوار حبل من أحبال الخيمة لأحرسه، وكان هناك عداوات مع حزب الوفد فكنا نخشى أن يقطع أي حبل من أحبال الخيمة، فأنا ما رأيته إلا وهو يدخل السرداق من بعيد، ووقفت إلى جوار حبل الخيمة أحرسه إلى أن أتم كلمته وخرج ورأيته وهو يخرج من الخيمة، وكانت هذه كل علاقتي بالإمام الشهيد- رحمة الله عليه-.
اعتقاله
حينما التحق بمعهد دمياط الأزهري كان عمره وقتها 18 عاما، عام 1948م، غير أن هذا المعهد شهد العجيب من الأحداث؛ حيث اعتقل منه في هذا العام عددًا كبيرًا؛ لإرسالهم خطابًا إلى رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي شخصيًا فكان فؤاد الهجرسي من ضمن من تم اعتقاله، وظل كذلك حتى أفرج عنه.
لم يعتقل الحاج فؤاد الهجرسي في محنة عام 1954م لموقف كريم قام به عمدة القرية معهم حيث طالبهم بتوزيع أدوات مقر الشعبة وتفريقها، وأخبر رجال المباحث أنه لا يوجد عندهم أحد من الإخوان في القرية، غير أنه ما كادت الأعوام تمر ويطل عام 1965م برأسه حتى كانت سيارات البوليس الحربي تلهب الطريق بحثا عن فؤاد الهجرسي وإخوانه بعدما تم القبض على الحاج عبد العظيم والذي ذكر اسمه تحت وبال التعذيب.
ألقِيَ القبض على الهجرسي في 24 سبتمبر من عام 65م، وزُجّ به في السجون الحربي حتى 15مايو 1966م، ثم نقل إلى معتقل (طرة) ثم (أبو زعبل) لفترة، ثم نقل إلى سجن (طرة) مع المحولين إليه في 1 أغسطس 1971م.
ذكريات من المحنة
كل من عاش المحنة له معها العديد من الذكريات الطيبة التى لا يستطيع أن ينساها، خاصة إذا تركت في نفسه أثرا طيبا، ولنا وقفة مع الحاج فؤاد الهجرسي ليطلعنا على ذكرياته التربوية داخل المحن التي عاش فيها فيقول:
«رحّلونا إلى بلدنا في الأقسام عددًا قليلًا من الأيام، ثم إلى معتقلات (هايكستب) في مارس 1949م، وذهبنا إلى عنبر 3، وكان به أغلبية أعضاء مكتب الإرشاد الأستاذ (عمر التلمساني) والأستاذ (صالح عشماوي) وكثيرين، ولقد خفف عنا حسن الاستقبال وحسن الرعاية، وكان سني 18سنة، وكنت أكبر الطلاب وكان عددنا 27 طالبًا من دمياط، لكن أذكر في (الهايكستب) أن النظام أو الحكومة أراد أن يعرف أسرار الإخوان من خلال أحاديثهم العامة داخل المعتقل، فاختاروا في عنبر 1 مكانًا خاصًا يأخذون عددًا من الإخوان ويجلسونهم فيه ولا يخرجونهم، وقيل إنهم قد وضعوا سماعات فوق لمب الكهرباء تسجل هذا الكلام- أي كلامهم- وأخونا عبد الودود شلبي كان موجودًا في هذا العنبر وعلم بهذا الأمر، فأحضر أحد طلاب معهد دمياط الذين كانوا موجودين في عنبر واحد، وكان صوته في التجويد القرآن مقبول، فأجلسه بجوار الشباك وأمره أن يرتل آيات معينة يسمعها الضباط والعساكر وكأنها قرآن، ولكن فيها تعليمات وأوامر للإخوان مثل (يا أيها الذين آمنوا... كذا كذا كذا... لعلكم تتقون)، ومن خلالها يتم توجيه أوامر للإخوان، فيفهم الإخوان ما يأمرهم به الأخ إلى أن انتهى من كل التعليمات المطلوبة، فالإخوان الموجودين داخل هذا المكان -أي الذي به السماعات- قسموا الأيام كلها وكانت حوالي شهر ونصف أو شهرين في العبادة والتلاوة ليلاً ونهارًا، لدرجة أنه لم يسجل أي شيء سوى الذكر والعبادة وتلاوة القرآن، ولم يكن بينهم أي كلام سوى هذه الحيلة التي عملها الأستاذ عبد الودود شلبي جزاه الله عنا خيرًا، والأخ الذي قام بهذه المهمة لقي ربًا كريمًا- رحمة الله عليه-.
ذهبت إلى جبل الطور ومكثت هناك فترة، وكان من حظي أن أكون في الحذى الثالث مع الشيخ محمد الغزالي رحمة الله عليه وبعض الناس الكبار منهم الحاج عبدالله الصولي- صهر الإمام البنا من الإسماعيلية-، وكان معنا في هذا الحذى الدكتور يوسف القرضاوي، وقضينا هناك شهر رمضان، وكان الشيخ الغزالي يأمنا في الصلاة ويلقي الكلمات الطيبة التي تثبت الإخوان، وكان طوال شهر رمضان يلح في الدعاء أن يفرج الله الكرب، فأرسل الله فرجًا كبيرًا لا حد له؛ وهو إقالة الملك لإبراهيم عبد الهادي، حتى أن الملك اعتبرها هديته للشعب بمناسبة العيد، ورأينا ليلة القدر في منتهى الوضوح، ولعل الله قد استجاب لنا».
ويضيف:
«جاء سريري مع طالب في الصف الأول الثانوي من الفيوم، من عائلة الباطن وسنه 11سنة، وأثناء تعرفه عليّ سألني هل تحفظ القرآن؟ فقلت له: أنا مثل كل طلبة الأزهر حفظت ونسيت، فأصر أنني لابد وأن أسمع منه يوميًا جزءًا من القرآن على الرغم من أنه كان سنه 11سنة وأنا 18سنة، وأيضًا سألني كم تحفظ من الأحاديث؟ فقلت له: لا أحفظ، فقال لي وهل هناك أحد من الإخوان لا يحفظ الأحاديث، فأخذ يحفظني كل يوم حديث ويذكر لي معناه بالرغم من عدم وجود الكتب ولا المصادر، ثم يسمعه مني في اليوم التالي وأشرح له معناه، كما قال في اليوم الثاني، وهذه كانت حلقة أولى من حلقات تعرفي على الإخوان والعمل الجاد.
رحلة تربوية لإعادة الجماعة
خرج الحاج فؤاد هو وبعض إخوانه عام 1971م، ولم يركنوا للراحة بل عمدوا للعمل على عودة الجماعة والبحث عمن تبقى منها، فيذكر: «في الفترة من 1971م عندما خرجنا بعد أن عقدوا محكمة نظرت في التماسنا بالخروج فخرجنا 14 فردًا، وبدأنا أنا والحاج عبد العظيم- والذي ترتبط به حياتي إلى الآن- نزور بعض الشعب التي كانت تابعة للمنطقة من قبل، تحركنا حركة فردية نزور الشعب ونطرق بيوت الإخوان، نذكرهم بالماضي، إلى أن أذن الله وأعدنا تنشيط الجماعة في 1974م، 1975م وبدأت المسألة تأخذ شكلاً رسميًا، خاصة بعدما التقيت مع الأستاذ محمد هلال.
ومن هنا بدأت توضع بعض الخطوط بمن تتصل؟ من تقابل؟ زيارة البلاد، فكرة ندوات في المساجد، فكرة عقد القران في المساجد، وهذه صورة من الصور الاجتماعية، فكرة تكريم الطلاب الناجحين، والعلم وأثره وهكذا، وافتعال الأسباب التي تجعلنا نلتقي بالناس في المساجد، الاهتمام بالإذاعة المدرسية في المدارس وأن يبث منها روح الدين وأثر الدين بحكم وظيفتي فيها، إلى أن خرج أول عدد لمجلة الدعوة عام 1976م، وبدأنا نجمع الخطوط والخيوط والأفكار.
الأستاذ محمد العدوي كان كبيرنا في الدقهلية ولما أفرج عنه في آخر 1974م ذهبت وسلمت عليه، وقلت له: أنا في الخدمة. وكان يجلس بجواري الأستاذ محمد هلال، فتحركنا في توجيهاتهم حركة عامة إلى أن دخلنا في نظام الأسر، فأعدناه في البيوت. ومن نظام الأُسَر: الربطُ بين البلاد بعضها وبعض، فكنا لا نسميها (الأُسَر)، بل كنا نسميها (الخطوط)، حتى تغير الوضع بداية التسعينيات.
افتتح الإخوان مدارس الهدى والنور بالمنصورة عام 1989م، وعمل بها خاصة أنه كان على المعاش، ومن يومها أصبح داخل المكتب الإداري للإخوان بالمنصورة، وكان تم اختياره من قبل للعمل بقسم التربية مع الدكتور على عبد الحليم محمود ومن بعده الدكتور الخطيب قبل أن ينتقل لقسم نشر الدعوة مع الحاج حسن جودة إلى 1989م، لكن بعد افتتاح (مدارس الهدى والنور) فرغه الحاج العدوي لها.
اهتم بالعمل مع الأستاذ العدوي وشارك في جميع المعسكرات واهتم بتربية المحافظة وقطاع شرق الدلتا، كما شارك مع الإخوان في كل الأعمال وكان عضوا في مجلس شورى الجماعة.
ومن مواقفه التي يتداولها الجميع حينما ذهب الي البنك الأهلي بالمنصورة لسحب مبلغ 5000 من حسابه البالغ 30 ألف جنيه؛ فصرف الموظف له المبلغ، ولما خرج من البنك قابل أحد الإخوة بعد أيام، فجاء الكلام على موضوع الفلوس والمعيشة. فقدرا ذكر الأخ أمامه أنه ممن طالهم قرار التحفظ على أمواله فكيف صرفوا لك؟ وهو لا يعلم أنه من المحظورين.
فعرف أن موظف البنك سيخصم منه المبلغ الذي صرفه. وكل موظفي البنك عرفوا القصة.
وفي الصباح فوجئ الموظفون بالأستاذ الهجرسي داخل البنك وبيده المبلغ يسلمه للموظف ويقول له معذرة لم أعلم أن القرار طالني. كنت أظن أن القرار لأصحاب الأموال الكبيرة. تفضل المبلغ فلا ذنب لك أن يخصم منك، ثم مشى؛ فتعجب كل من في البنك من هذا الصنيع. وبكى البعض.
وفاته
توقفت رحلة المجاهد يوم السبت الموافق 23 ديسمبر من عام 2017م الموافق 5 ربيع الآخر 1439هـ وقد كتب د.محمد الدسوقي الأستاذ بجامعة المنصورة: «علمت منذ دقائق بوفاة أستاذنا ومربينا وأحد أعلام الرعيل الأول لدعوتنا المباركة وهو لجيلنا كان يمثل الفؤاد لجسد الدعوة بأخلاقه الكريمة ورقته في التعامل وبشرياته لنا في أوقات الشدة، وموعظته في الجلسات الإمانية والجنائز ودروس المساجد، ولا نزكيه على الله ونحسبه من المجاهدين الذين صبروا على الابتلاء في سجون الطغاة لسنين طويلةن فما ضعفوا وما استكانوا وخرجوا ينشرون دعوة الحق في كل مكان ويؤدون رسالة الإصلاح بكل جد وإخلاص».
وأضاف الدسوقي: «تعلمنا منه- رحمة الله عليه- الجندية والقيادة والعمل لدين الله في كل الأحوال، وكيف كان يقهر الأعذار ويتقدم الصفوف ضاربا المثل والقدوة للشباب في البذل والعطاء والتجرد والثبات وكل أركان البناء الذي شيده البنا حسن وكل ما فيه حسن».
.