كم هي رائعة لحظات انتظار مولود جديد.. قلوب الأحباب تخفق ودعاؤهم إلى الله تعالى لا ينقطع.. رجاءً لسلامة الأم والمولود السعيد.. والآن اطمأن خاطرهم ووضعت الأم وأهلَّ علينا ذلك الضيف الجديد، وبعد سجدات الشكر والمسارعة بترديد الأذان في أذن الصغير، يبدأ الحضور من الأهل والأحباب بتداوله بين أيديهم مستشرفين لقياس شبهه ودرجة جماله التي حباه الله تعالى بها، فيا سعده وسعد والديه لو كان جميلاً.. فيتلقى وابلاً من الثناء والإطراء قد يصاحبه طوال حياته.
وأعانهم الله تعالى إن كان دميماً قليل الحظ من الجمال.. داكن اللون أو به عيب ظاهر؛ فليستعد الوالدان إذاً لوابل آخر من التعليقات اللاذعة أو الساخرة أو التساؤلات الموجّهة للوالدين متضمّنة الاعتراض والضيق من شكل الابن أو البنت، مثل: أسمر اللون لمن؟ أو لماذا لم يأتِ جميلاً مثل أبيه أو أمه؟ وكأن الوالدين يملكان الإجابة.
وفي هذه الدراسة، ترى الباحثة سحر شعير، أن المشكلة التربوية تحدث إذا تَشَرّب الوالدان ردود أفعال الآخرين حول شكل الطفل وانعكس ذلك على أسلوبهم في تربيته، خاصة إذا كان حظه قليلاً من الجمال، وعندئذ سنربي طفلاً منطوياً، فاقداً الثقة بنفسه، شاعراً بالدونية تجاه أقرانه، ولذا عزيزي المربي: «لا يهم أن يكون ولدك جميلاً.. اصنع منه ولداً صالحاً ورجلاً عظيماً.. حينها سيكون في نظرك وأمام الجميع «أجمل طفل في العالم».
افرح بمولودك مهما كان شكله
الجانب الأول من هذه المشكلة: هو شعور الوالدين بالألم والتعاسة لشكل الطفل غير الجميل، والذي يتجدد ويزداد عند مواجهة تعليقات المحيطين.. هذا الجانب يمكن حلّه في تعديل نظرتنا نحن لقضية الشكل عموماً وفق ما علّمنا الله تعالى في كتابه وعلى لسان نبيه، فالله عزّ وجلّ خلق الإنسان في أحسن تقويم، وامتن علينا بذلك في أكثر من موضع في كتابه العزيز، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} وقال تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: ١ – ٤].
ثم إنّ الله تعالى قد بيّن لنا الأساس الذي يتفاضل عليه البشر، فقال عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: ٣١]. قال ابن حزم - رحمه الله تعالى -: «وإن كان الله تعالى قد حكم بأن الأكرم هو الأتقى ولو أنه ابن زنجية لِغيَّة، وأنّ العاصي والكافر محطوط الدرجة ولو أنه ابن نبيّين».
وكذلك جاءت السنّة النبوية مؤكدةً هذا الأصل، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر؛ إلا بالتقوى، أبلّغت؟». قالوا: بلّغ رسول الله.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال:َ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»، وفي رواية: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم».
وأمّا نسبة الجمال في الشكل والملامح فهي من الرزق الذي قسّمه الله تعالى بين العباد بتمام عدله وحكمته سبحانه، قال تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل: ١٧]، ولم يكتسبها الجميل بمهارته، ولم يفتقدها الدميم بتقصير منه، هذا الأصل لا بد أن يكون واضحاً في أذهاننا تماماً، وليكن ميزان التفاضل عندنا هو الميزان نفسه الذي وضعه الله تبارك وتعالى ليتفاضل على أساسه البشر عنده سبحانه.
وبقدر ما يكون هذا الأصل واضحاً وثابتاً في أذهاننا، بقدر ما ستكون ردود أفعالنا متّزنة انفعالياً تجاه تعليقات الآخرين حول شكل الأبناء.
الجمال الذي نتمناه لأبنائنا
إنّ الجمال الذي نتمنى أن يكون لأبنائنا النصيبُ الأوفى منه، هو جمال الجوهر المتولد عن الإيمان العميق، ونقاء السريرة، وفي هذا المعنى يقول ابن القيم رحمه الله: «اعلم أن الجمال ينقسم قسمين: ظاهر وباطن؛ فالجمال الباطن هو المحبوب لذاته وهو جمال العلم والعقل والجود والعفة والشجاعة، وهذا الجمال الباطن هو محل نظر الله من عبده وموضع محبته كما في الحديث الصحيح: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»، وهذا الجمال الباطن يزيّن الصورة الظاهرة وإن لم تكن ذات جمال فتكسوا صاحبها من الجمال والمهابة والحلاوة بحسب ما اكتست روحه من تلك الصفات، فإن المؤمن يعطى مهابة وحلاوة بحسب إيمانه.
ويبقى الجانب الأهم، وهو تربية الأبناء على القاعدة نفسها، وذلك كي تتكوّن عندهم قناعات صحيحة في التفاعل مع شكلهم الخارجي الذي أنشأهم الله تعالى عليه، وذلك من خلال أمور عدة يراعيها المربي مع تلقينها المتكرر والمستمر للطفل، فيـتأصل عنده أن قيمته كفرد مصدرها صلاحه واستقامته وتقواه لله تعالى، ما يكسبه التوازن النفسي المطلوب إن لم يكن ذا حظٍ من الجمال أو به ما يعيب، ويحدُّ من إعجابه بنفسه إن كان بارع الجمال ظاهر الحُسن، ولنضرب له الأمثلة على ذلك:
- فالله عزّ وجلّ رفع ذكر لقمان الحكيم في كتابه العزيز وذكر لنا وصاياه الرائعة في سورة من سور القرآن الكريم تحمل اسمه، فمَن هو لقمان؟
عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان عبداً حبشياً نجاراً. وقال قتادة: عن عبد الله بن الزبير قلت لجابر بن عبد الله: ما انتهى إليكم في شأن لقمان؟ قال: كان قصيراً أفطس - عريض الأنف - من النوبة. وقال يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال: كان لقمان من سودان مصر ذا مشافر أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة، قال تعالى: {يُؤْتِي الْـحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْـحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [البقرة: ٩٦٢].
وقال الأوزاعي: حدثني عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله، فقال له سعيد: لا تحزن من أجل أنك أسود، فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان: بلال، ومهجع مولى عمر، ولقمان الحكيم كان أسود نوبياً ذا مشافر - يعني كبير الشفتين جداً .
- تربية الأبناء على الثقة بالنفس من خلال تبصيرهم بما منحهم الله تعالى من قدرات ومواهب يتميزون بها، ودفعِهم إلى تفعيل تلك المميزات، خصوصاً إذا كان الابن مصاباً بمرض أو عيب خلقي خارج عن إرادته.
- توجيه الأبناء نحو معالي الأمور، مثل طلب العلم النافع وعدم الرضا بأقل من مرتبة التفوق والتميز في أي عمل يقومون به، وتعويدهم وتشجيعهم على ذلك؛ حتى يصير ديدنهم التميّز والتفوق، فيبني الواحد منهم لنفسه مكاناً عالياً لا يعود لقلة حظه من الشكل الجميل ذكر بجانبه.. والمتتبّع لتراجم النابغين وسير العظماء يجد من ذلك أمثلة كثيرة يبرز فيها دور الوالدين - خاصة الأم - في ذلك، منهم القاضي محمد بن عبد الرحمن الأوقس، عندما نقرأ في سيرته نجد علماء التراجم يقولون عنه: كان فقيراً، لم يكن حسن الصورة، كان له منكبان عاليان، وكان الناس يعيّرونه بأنه ليس له رقبة، فكان يوماً من الأيام يدعو الله تعالى عند الكعبة يقول: «اللهم اعتق رقبتي من النار». فالتفتت إليه امرأة وقالت: يا ابن أخي أي رقبة لك هذه التي تريد عتقها من النار. فقالت له أمه: يا بني لا تكون في قوم إلا كنت المضحوك منه المسخور به، فعليك بتعلم العلم، فتعلّم العلم وناله، وأصبح قاضياً، فكان الخصوم إذا وقفوا أمامه يرتعدون من شدة هيبته - رحمه الله رحمة واسعة.
.