قال د. ليث سعود جاسم، أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية العلوم الإسلامية بجامعة السلطان محمد الفاتح الوقفية بإسطنبول في كلمته بعنوان «مظاهر احترام الحرية في الفتوحات الإسلامية.. نماذج وممارسة» إلى أن هذا الفتح انطلق من ضرورة تحرير الشعوب من ظلم الفرس وجعلهم أحرارًا فيما يختارون من دين وحياة، وقد ضرب العديد من الأمثلة في هذه الفتوحات في ترسيخها لمعنى الحرية.
وقال إن النبي ﷺ بدأ هذا الأمر برسائله التي أرسلها إلى الدول المجاورة، كرسائله إلى دولتي الفرس والروم وإلى الحبشة وغيرها من الدول. ما عُدّ إيذانًا بقوة جديدة تواجه قوتي الفرس والروم.
وبيّن في كلمته، أن الحرية في الإسلام مبدأ حقيقي وخلق عظيم، نشأ مع خلق الله لهذا الإنسان، ولذلك ما كان لنبي ولا لرسول إلا أن يبين للناس ويهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم، والفتوحات الإسلامية في كل مكان نشأت على هذا الأمر.
أسباب الفتوحات الإسلامية
مع مرور الوقت، بدأت هذه القوى تتحرش بالمسلمين بل وبدأت تواجههم، وكان للدولة الرومانية حربين استراتيجيتين مع المسلمين، وهما غزوتي مؤتة وتبوك، تحركت فيهما الجيوش إلى الدولة الإسلامية، وكان عدد الروم كبيرًا وصل إلى مائتي ألف حسب بعض الروايات، واستشهد فيها كثيرًا من المسلمين، وحتى وإن اضطر المسلمين إلى الانسحاب في غزوة مؤتة إلا أن النبي ﷺ سماهم «الكُرّار» ردًا على من نادهم بـ «الفُرّار».
ومع التحرك الروماني الثاني على حدود الدولة الإسلامية كانت معركة تبوك فيما بين الأردن والسعودية الآن، ثم كانت هناك عدة اعتداءات من الفرس والروم، مثلما اعتدى نصارى الغساسنة على الحارث الأسدي رسول النبي إليهم، وهذا يعد إعلانًا للحرب.
ولما أرسل النبي ﷺ رسالة إلى كسرى، مزقها وقال لأميره على اليمن بازان: «من هذا البدوي الذي يرسل إلينا هذه الرسالة، اذهب إليه وجئنا به»، فأرسل بازان رجلين، وعندما وصلا إلى المدينة فوجئا بأن فيها دولة، ولما وصلا إلى النبي ﷺ، قال لهما «ائتيا غدًا»، ولما عادا إليه في الغد قال لهما: «اليوم قُتِل كسرى»، فتعجبا من ذلك وأسلما عندما عادا إلى اليمن وتأكدا من صحة قوله ﷺ.
كما كانت القوتان الشرقية والغربية تؤلبان القبائل على النبي ﷺ، وبخاصة دولتي الغساسنة والمناذرة، فكانا يهجمان على أطراف الجزيرة، وفى ذلك الوقت ذهب عشرة من الصحابة إلى بيت المقدس ليبلغوا الدعوة عن النبي ﷺ، فقتلوا جميعًا إلا واحدًا.
لهذه الأسباب، لم تأتِ الفتوحات الإسلامية من فراغ وإنما جاءت من اعتداءات تراكمية طويلة المدى، من السنة السادسة وحتى فتحت هذه البلدان، ولذلك أصر سيدنا أبو بكر على إنفاذ بعث أسامة عقب توليه الخلافة بعد وفاة النبي ﷺ بأيام قليلة، فجاء بغنائم كثيرة.
ووجه أبو بكر حركة الفتوح إلى خطين، خط غربي إلى الشام وفلسطين، وخط شرقي إلى فارس والعراق، وخط العراق قاده المثنى بن حارثة الشيباني وهو أحد أهل العراق، وكان قد أسلم حينما جاء إلى مكة ليحج، فحرص أبو بكر على تعريفه بالنبي ﷺ، وقال للنبي إن هذا الرجل من شيوخ قومه، فلما سمع من النبي أسلم وقال إنما أنا واحد من قومي، وسأذهب إليهم وأشاورهم.
وعند فتحه للعراق خاض معارك كثيرة، ثم بعد ذلك توفي أبو بكر فأرسل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب سيدنا سعد بن أبى وقاص ليستكمل الفتوحات، كما أرسل خالد بن الوليد إلى العراق لإعانة سعد بن أبي وقاص، الذي كان مريضًا ويقود الجيش من فوق بيته، فكان الانتصار الكبير في معركة القادسية.
فتحركت الجيوش إلى منطقة قريبة من المدائن، وكانت جيوش فارس على الجهة الأخرى من نهر الفرات، والذي كان يسمى عراق العجم، فلذلك قال سعد ابن أبى وقاص: «اللهم إن كان هذا الجيش خرج في سبيلك فلا تغرق منهم أحدًا»، وكان الصحابة لا يجيدون السباحة، فخاضوا نهر الفرات يُحَدّث بعضهم بعضًا ولم يغرق منهم أحدًا.
وصاح أحد المجاهدين أن إناءه وقع منه فنزلوا تحت الماء يبحثون عنه، وأما جيش الفرس فعندما رأى ذلك صاحوا: «مجانين!»، وفروا هاربين خوفًا، فدخل سعد إلى المدائن وكان ما كان.
الالتزام بآداب الإسلام في الفتوحات
ومن آداب الإسلام التي طبقها سعد في هذه المعركة أنه قبل هجومه أرسل المغيرة ابن شعبة رسولًا إلى روستم، ولما ذهب إليه جلس إلى جنبه، فحملوه وألقوه بعيدًا، فقال المغيرة: «قد كان يصلنا عنكم الأحلام، ولكنى لا أرى قومًا أسفه منكم، إن معشر العرب لا يستعبدون بعضهم بعضًا، وظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، فكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض»، فقال عامة الناس: «صدق والله العربي»، أما روستم فقال: «أما والله لقد وقع هذا الأمر موقعًا في نفوس عبيدنا».
وأرسل بعده ربعي ابن عامر، الذي كان أبلغ في البيان، ولما ذهب إلى الفرس، استهانوا به وبمظهره، وقالوا له: «يا هذا سنعطيكم عشرة دنانير لكل منكم وحُلّة، ومائة لقائدكم سعد، وألف لخليفتكم عمر»، فقال ربعي: «ما جئنا لذلك، وإنما جئنا لنخرجكم من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة».
وكان أهل فارس يعتبرون أن دمائهم دماء إلهية مقدسة، فضلًا عن انتشار الأديان الإباحية بينهم والتي تشبه الشيوعية في عصرنا.
ثم جاء بعد ربعي أحد الصحابة، فتكلم نفس الكلام، فقال له الفرس: «يا هذا هل اتفقتم على هذا الكلام؟»، فأجاب الصحابي: «والله ما اتفقنا على هذا، ولا رأى أحدنا الآخر»، وهذا يدل على وحدة الفهم بين المسلمين التى ظهرت على ألسنتهم.
الحرية في البلاد المفتوحة
وفى خراسان، كان فتح أفغانستان في هذا الوقت، وكانت هذه البلاد أشد شكيمة ويلتزمون بما عندهم من أديان ويرتدّون طوال الوقت، حتى جاء عصر الوليد بن عبد الملك، فأرسل إليهم قوافلًا من الدعاة، لتنتشر في وسط هؤلاء، وبذلك انتشرت الدعوة بعدم إكراه الناس.
ومن الأمور التي تُبين مظاهر الحرية، نجد أن أكثر البلاد التي فُتحت لم تفتح عنوة أو بالسيف، كدول جنوب شرق آسيا وقبائل إفريقيا، كلها بالدعوة، ومصر أيضًا بعد أن فتحها عمرو ابن العاص، ظلت خمسين سنة لم تُسلم حتى جاءها دعاةٌ وانتشروا بها وخاصة في جنوبها، فدخلت في الإسلام وحَسُن إسلام أهلها.
ومن الأمور الأخرى التى تدل على الحرية، أن الأقوام في البلاد المفتوحة حافظوا على أصنامهم وعاداتهم وتقاليدهم؛ فالأهرام باقية ومعابد بوذا باقية إلى الآن في ماليزيا. وهذه من الأمور التي حافظ عليها الإسلام ولم يتدخل فيها فبقي لكل شعب خصوصيته.
.