يسعى القائمون على شؤون التعليم إلى مساعدة الأطفال على النجاح في الدراسة وتطوير معارفهم ومهاراتهم أو قدراتهم الذهنية التي تخول لهم التميّز والتفوق. وقد أجريت عديد من التجارب العلمية والأبحاث الميدانية المتعلقة بعلم النفس التربوي وعلم النفس العصبي؛ بهدف تطوير الطرق والأساليب البيداغوجية الحديثة والناجعة.
وأثبتت عدة دراسات منها أن قدرة الفرد عمومًا والطفل المتعلم بشكل خاص على التحكم في حركاته وانتباهه، والتي تسمى «قدرة الإيقاف أو التحكم»؛ تعد من العوامل الرئيسية المحددة لنجاح الطفل أو الطالب في المدرسة من عدمه.
وإلى جانب «قدرة الإيقاف» لدى الفرد، فإن الوظائف «التنفيذية» للمخ، (وهي مجموع الوظائف المعرفية كالانتباه والإدراك والذاكرة واللغة ومجموعة القدرات كالقدرة على المبادرة بالقيام بالأفعال أو إيقافها ومراقبة السلوك وتغييره والتخطيط...)، والذاكرة العاملة (القدرة على حفظ المعلومات واستعادتها والعمل بها)، وسرعة الإدراك (القدرة على تغيير نمط الفعل أو التفكير قبل القيام بشيء معين)؛ تعد من العوامل الأساسية للتعلم والنجاح في الدراسة وفي كل مجالات الحياة.
اللعب وتحسين الوظائف التنفيذية
ويتميز الأطفال الذين تراوح أعمارهم بين 5 و12 سنة بوظائف تنفيذية جيدة وقدرة كبيرة على تعلم القراءة والكتابة والحساب. ومن هنا تبرز أهمية تدريب هذه الوظائف في سن مبكرة بالاستعانة بطرق بيداغوجية؛ حتى يتسنى تطويرها خلال فترة الطفولة والمراهقة.
ويمكن للآباء مساعدة أبنائهم على تحسين الوظائف التنفيذية للمخ بتمارين بسيطة؛ كسرد قصة بشكل يكون فيه الكتاب مخفيًا عن أعين الأطفال مع تركيز الأب لنظره باستمرار على الطفل لجلب انتباهه، أي أن ينصب اهتمام الطفل على حفظ الأحداث التي يسمعها ويقوم بربط بعضها ببعض دون الاستعانة بوسائل الإيضاح البصرية في الكتاب (صور، عناوين، رسوم...)، وأن يتخيل فيما بعد الشخصيات ومكونات الإطار المكاني للقصة.
برنامج تحسين نسب النجاح المدرسي
كما يمكن للمعلم في المدرسة العمل على تطوير الوظائف التنفيذية للتلاميذ؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا قام مدرسون منذ سنوات بوضع برنامج يدعى Tools of the Mind في أقسام حضانة، وهو برنامج يضع الأسس العلمية لتحسين نسبة النجاح المدرسي للأطفال في سن مبكرة، ويهدف في الأساس إلى تطوير الوظائف التنفيذية للمخ لدى الطفل، وقد أدخل حيز التنفيذ بعد 12 سنة من الأبحاث المتواصلة.
وهذا البرنامج، بالتوازي مع الألعاب الهادفة التي تجرى داخل الفصل على غرار المسرحيات (كقيام التلميذ بتقمص دور الأب أو الأم في العائلة أو الشرطي والسارق...) أثناء حصة القراءة أو الحساب؛ يساعد الأطفال على التركيز والتحكم في تصرفاتهم خلال هذه الوضعيات المختلفة، كما يعودهم على تقديم إجابات رصينة ومتعقلة، كما يعودهم على استخدام الذاكرة العاملة أثناء التفكير والبحث عن الإجابة.
وبهدف تعميم فائدة هذا البرنامج على جميع المواد المدرسية التي يتلقاها التلاميذ؛ فقد تم توسيع نطاق التمارين الهادفة إلى تحسين الوظائف التنفيذية للمخ على جميع الأنشطة التعليمية وعلى امتداد فترات اليوم، بما في ذلك الأنشطة اللغوية أو الحساب؛ ففي نشاط لغوي يتمثل في «قراءة ثنائية» عبر مجموعات مكونة من تلميذين على سبيل المثال، يطلب المدرس من أحد التلميذين سرد قصة انطلاقًا من كتاب صور، ويتعيّن على التلميذ الآخر أن يستمع بكل انتباه وينتظر دوره ليسرد حكاية أخرى بدوره.. في البداية كان الأطفال الذين أسند إليهم دور المستمع يرغبون في سرد قصتهم عوض الاستماع، لكن مع تذكيرهم بضرورة الاستماع بواسطة مجسمات كصورة أذن (التي تعني «أنصت ولا تتكلم»)؛ يصبح الطفل قادرًا على انتظار دوره وقد أدرك أن الصورة أو العلامة تحثه على الانتظار والإنصات، ثم وبعد بضعة أشهر يصبح الأطفال قادرين على فهم الأدوار دون الحاجة إلى تذكيرهم بذلك.
وقد أظهرت التجارب أن جل الأطفال قد اجتازوا بنجاح امتحان الذكاء المذكور، في حين أخفق آخرون بالنظر إلى أنهم لم يتلقوا تدريبًا خاصًا بالامتحان قبل اجتيازه، وهو ما يعني أن اعتماد هذا البرنامج أو ذاك هو العامل المحدد للنتائج المدرسية أكثر من عاملي العمر والجنس.
كما كانت النتائج الإيجابية للامتحان متطابقة مع النتائج الإيجابية في المدرسة، ومن ثم فإن الأطفال المدرجين ببرنامج Tools of the Mind، والذين قضوا وقتًا أطول يمارسون الألعاب التعليمية الهادفة؛ قد اجتازوا الامتحان بامتياز مقارنة بالأطفال الذين تابعوا نمطًا تعليميًا تقليديًا، وهو ما أثر سلبًا في الوظائف التنفيذية للمخ لديهم.
أضرار تقليص وقت اللعب
والحقيقة أن المدرسين يرغبون دائمًا تقليص في الوقت المخصص للعب لفائدة الوقت المخصص للتعليم التقليدي وكذلك الأنشطة الترفيهية الأخرى ذات الطابع التعليمي، كالرياضة والموسيقى والفنون التشكيلية، بل حتى التقليص في فترات الاستراحة بين الحصص في اليوم الواحد، في حين نحتاج نحن الكهول إلى هذه الفترات من الراحة أثناء العمل لتجديد النشاط. وفي الفترة الأخيرة قام علماء النفس في الولايات المتحدة بمقارنة درجة الانتباه أثناء الدرس والنتائج المدرسية لأطفال يدرسون بمدارس تعطي أهمية لفترات الراحة وأخرى لا تقدر أهمية ذلك، وتبيّن أن الأطفال يتعلمون بشكل جيد بعد فترات الراحة.
وأشارت دراسات أخرى إلى أن الأنشطة الفنية أو الرياضية، والتي لا تلقى درجة كبيرة من الأهمية في عدد كبير من المدارس؛ تعتبر أنشطة جيدة بهدف تطوير الوظائف التنفيذية للمخ لدى الأطفال.. وتتطلب بعض الأنشطة التركيز والانضباط، وتقوم على وجوب حفظ حركات متتابعة ومعقدة بالذاكرة العاملة، ومن تلك الرياضات الفنون الدفاعية، وكلها تسهم في تطوير وتنمية الانتظام المعرفي والنفسي والعاطفي للطفل وتحثه على احترام أصدقائه والأشخاص الآخرين وتقوي فيه شعور الانتماء إلى المجموعة والفخر والثقة بالذات، كما تحسن من حالته البدنية ونموه المتكامل.
وإضافة إلى كل ذلك، لم تُظهر أي من التجارب أن حذف فترات اللعب أو ممارسة الرياضة أو الفنون أو التقليص فيها بهدف تخصيص مزيد من الوقت للتعليم التقليدي؛ يسهم في تحسين النتائج المدرسية، بل على العكس من ذلك، فإن كل التجارب أثبتت أن إدماج هذه الأنشطة والألعاب بالبرامج المدرسية يحسن فعلًا في النتائج المدرسية.
.