إن القراءة المدققة لأوضاع نظامنا التعليمي تشير في وضوح إلى أن هناك غيابًا للاستقرار، وتضاربًا في القرارات، وعشوائية في المشروعات الإصلاحية والتجديدية، وكأن التعليم أصبح حقل تجارب من الصعب ملاحقة ما يحدث فيه، الأمر الذي جعل أي ملاحظ لما يجري يشعر بعدم وجود سياسة محددة، فهناك ملامح للسياسات تتغير وأمور تتعدل، ومؤتمرات تعقد وتنتهي، ولجان تتشكل وأوراق تظهر ووزراء يأتون برؤى، فإذا ما غادروا، فكل شيء يتبدل، فمنذ الثمانينات ونحن نسمع عن أوراق وتغيرات في سياسات تعليمية، ومحاولات لإصلاح التعليم، وانتهاكات لمبادئ راسخة في كل جوانب التعليم.
وفى دراسة بعنوان: «خطايا السياسة التعليمية في مصر رؤية تحليلية ناقدة»، لكل من أ. د. سيف الإسلام علي مطر، و أ. د. هاني عبد الستار فرج، الأستاذين بقسم التخطيط التربوى بكلية التربية جامعة الإسكندرية، تناولا خلالها بالتحليل مجموعة من «الخطايا»، علها تجد من يصغى باهتمام، ومن يتدبر الأمر برؤية، ومن يقدر العواقب قبل فوات الأوان، حيث إن مشكلات التعليم لا حصر لها، والكلام عن إخفاق النظام التعليمي صار نغمة شائعة وبصوت مسموع، والقصور في كل جوانب العملية التعليمية لم يعد يحتاج إلى دليل أو إثبات من فرط جلائه، والمحصلة النهائية هي أن عدم الرضا عما هو موجود أضحى شعورًا عامًا بين كل المهتمين.
الخطيئة الأولى: النظرة الجزئية للسياسات التعليمية
عند الحديث عن النظر الجزئية يتبادر إلى الذهن أبعاد كثيرة ولكننا هنا سنركز على بعد واحد، وهو المتعلق بمستويات السياسة التعليمية، التي يتعين أن تؤخذ بعين الاعتبار عند صنع السياسات، إلى جانب أن كل مستوى منها يحتاج إلى نوعية مختلفة من المعلومات، كما أن انعكاساته ترتبط مباشرة بعملية التخطيط التعليمي، وبكل الممارسات التعليمية على المستوى التنفيذي على وجه التحديد، وهنا نتحدث عن ثلاثة مستويات:
- المستوى الأول: خاص بالإدارة العليا وهي سياسات عامة، والحديث عن الإدارة العليا يجعلنا نتطرق إلى سياسات محلية، وإلى نظرة تتسم بالشمولية، وإلى مبادرة عامة توجه عملية التربية والتعليم في كل المستويات الأخرى، ويجعل الأمر مرتبطًا بالأهداف، هذا المستوى يتطلب نوعية محددة من المعلومات تتناول قضايا كبرى. وعليه، فإن أي قصور في المعلومات عند هذا المستوى سينعكس حتمًا على التخطيط ومن ثم إجراءات التنفيذ.
- المستوى الثاني: ويتعلق بمستوى السياسات الوسيطة، تلك التي تتناول السياسات الخاصة بالإدارة الوسطى، وهي سياسة يمكن أن توصف بأنها وظيفية، وتوجه تصرفات المديرين عند الإدارة الوسطى، وهي مسئولة عن تحقيق أهداف السياسة التعليمية التي صيغت بالمستوى الأول. إن نوعية المعلومات المطلوبة في هذا المستوى مختلفة، كما أنها تحتاج إلى وضع خطوط عريضة لقيادة عملية التنفيذ، وتحتاج إلى تفصيل.
- المستوى الثالث: مستوى الإدارة التنفيذية (الدنيا)، فالسياسات تشغيلية تهتم إلى حد كبير بأداء العمل كما تهتم بتفصيلات الأدوار، وأسس العمل التنفيذي، ومن دون هذا المستوى لا تتحقق أهداف السياسة التعليمية التي صيغت في المستوى الأول.
الخطيئة الثانية: التسرع في صنع السياسات التعليمية
الشعار الخطير الذي تحكم في صنع الكثير من التشريعات والقوانين والقرارات التي تصدر بشأن بعض جوانب السياسة التعليمية، يمكن صياغته في يسر على النحو التالي: «لنفعل شيئًا الآن وبسرعة». ومن الطبيعي أن السياسات التي تشكل ملامح التعليم وتقود مسيرته وتتحكم فيه وفي آلياته، تتطلب مدة لصنعها، فالأمر لا بد أن يتم على نار هادئة، ولا بد من التروي حتى يمكن أن يكون تنفيذها سهلًا.
ولكن الملاحظ أن هناك قرارات تعليمية قد يفاجئ بها العاملون بأجهزة التخطيط وذلك قبل توافر المعلومات المتعلقة بالبدائل، وما يتصل بذلك من معرفة بالتكلفة والجداول الزمنية، والسلبيات والإيجابيات، وتعد هذه القرارات سياسة متسرعة، والتعليم لا يتعامل مع تلك، إن ذلك يحمل بين طياته روح المخاطرة.
كما أن مشروعات السياسة تحتاج إلى أن تطبق على نطاق ضيق، قبل أن يتم تعميمها، ولأن الاستجابة للضغوط تؤدي إلى التسرع في عملية الصنع، وما يرتبط بها من اتخاذ قرارات، فإن التخطيط لها جاء متسرعًا كذلك كما أن المعلومات تأتي غير دقيقة، وفي أحيان كثيرة غير حقيقية. إن القرارات التعليمية لا بد أن تأخذ وقتها، ويختلف الأمر إذا ما خضعت لأبعاد سياسية.
الخطيئة الثالثة: غياب البعد الثقافي والمعرفي في السياسات التعليمية
أغفلت السياسات البيئة الثقافية والمعرفية التي تؤثر تأثيرًا كبيرًا في التعليم ونظرت في سياق واقع آخر يمكن أن يكون غريبًا دون تأسيس تربوي وفكري خاص بهذا الواقع الجديد. إن المنطلق في أي سياسة أن لها بُعدًا ثقافيًا واجتماعيًا، أما أن نقفز فجأة إلى واقع غريب، وإلى شعارات ومفاهيم وافدة دون تأسيس فكري، ودون مراعاة للبعد الثقافي الاجتماعي فإن الأمر يفتقد إلى مقوم أساسي وهو الواقعية، ويمكن صياغة هذه الخطيئة- في عبارة أدق- بتبني أفكار غريبة، في حين أن آليات التطبيق غير موجودة، والمتطلبات اللازمة لذلك غير متاحة.
ومن أهم مظاهر هذه الخطيئة الانحياز للتجربة الغريبة، وللأمر جوانب كثيرة، الأول يكمن في ضرورة الانفتاح على خبرات الجماعات الإنسانية ولكن بحذر، أما الثاني فهو العمل على الإفادة من جوانب تتفق مع واقعنا ولا تصطدم مع ثقافة المجتمع وثوابته، ثم الأمر الثالث، فيتعلق بتكييف هذا الوافد ليناسب طبيعة النظام التعليمي. إن الواقع الثقافي والاجتماعي والتعليمي مختلف، ومن ثم يصير الحذر مطلوبًا، والإفادة من تجارب الآخرين لا غضاضة فيها شريطة أن يكون واضحًا مدى ارتباطنا بهذا الجديد، ومدى حاجتنا إليه، وما أوجه الشبه والاختلاف بين مجتمعات تبنته ومجتمعنا؟
ويرتبط بتلك الخطيئة الاعتماد على معلومات تعبر عن واقع غير واقعنا، وعن أيديولوجيات تختلف عنا، ثم يزداد الأمر سوءًا بإسناد هذا أو ذاك إلى أجانب، إشرافًا وبناءً وتطبيقًا ومتابعةً، وهؤلاء غالبًا ما يكونون منحازين ثقافيًا لرؤيتهم وأفكارهم، وقد يعمل معهم أفراد من بني جلدتنا، فإذا بهم يتبنون أفكارهم إلى حد الانحياز والتبعية لهم بحكم عوامل ترجع إلى تشربهم بالثقافة الغربية، فضلًا عن تأثرهم وافتتانهم بها.
والانحياز للتجربة الغربية قد يكون ناتجًا من افتراضات جدلية، فثمة نفر يفترض أن المعرفة الغربية عالمية، ويتجاهل وربما ينكر أنها في بعض الميادين لها طبيعتها الخاصة- كميدان التعليم- بوصفها انعكاس لظروف المجتمعات التي أفرزتها، حيث أنها: جزء من ثقافة وأيدولوجية الغرب وهي انعكاس لتناقضات سواء ما تعلق منها بالدين أو بالعرق، وقد لا تكون الأيديولوجية واحدة، ولكنهم يستطيعون الاتفاق رغم اختلافهم، وينصاعون للسياق العام رغم تعدد مشاربهم.
إلى جانب أن نظريات المعرفة الغربية ودراساتهم التي تتناول دول العالم (النامي) الثالث، نظريات تسيء لهذا العالم، فهي إما أحادية أو عنصرية أو مشوهة، فنظرتهم إلى سلوكياتها، فيها مزيد من مجافاة الحقيقة والافتراء عليها. كما أن المعرفة الغربية لها أبعاد تاريخية لا يمكن إغفالها، وعليه فإن نظريات التنمية بكل أشكالها، والتي تفرض على دول العالم الثالث نشأت وتشكلت خارجه، متجاهلة بذلك واقعه، ومن ثم فإن تطبيقها كما هي لن يؤدي إلى تغيير أو إصلاح.
إن الافتراض بوجود علاقة خطية بين التعليم الغربي والتقدم، ومن ثم الإيمان بالشعار القائل بأن تبني نظام التعليم الغربي هو السبيل إلى التقدم، يعد افتراضًا خطًا، لا يسنده دليل من علم أو منطقًا وتجربة، فلكل مجتمع طبيعته وظروفه، وكما يكون المجتمع يكون النظام التعليمي، ثم أن المجتمع الغربي- في يسر شديد- يمثل دول المؤسسات التي تتمتع باستقلال ذاتي، فهي حرة في اختياراتها، وفي تحديد مسيرتها. ولنا أن نتساءل، والتجربة ماثلة أمامنا: هل أخذت دول شرق آسيا بالنموذج الغربي، أو أنها استنبتت نماذج تتفق مع واقعها؟ إن التقدم والتنمية طرقها متعددة وليست ذات طريق واحد، وهي نابعة من الإنسان ومن بيئته التي يعيش بها، وعائدها إليه، والمتأمل فيما حدث في جنوب شرق آسيا، ماليزيا مثلًا، وغيرها سيجد أن الأمر كله قد حدث في إطار ديمقراطي، فأين نحن من ديمقراطيتهم؟ أين تدفق المعلومات وشفافيتها؟ وكيف يعمل المخطط في ظروف يبتعد فيها المجتمع عن الديمقراطية؟ أمور كثيرة تحتاج إلى تدقيق وحسم وتوضيح.
الخطيئة الرابعة: الحديث عن السياسات وعدم الأخذ في الاعتبار الإدارات التي تنفذها
قد تكون السياسات قد بنيت بطريقة رائعة، ولكن هذا ليس هو نهاية المطاف، فالإدارات التي ستقوم على تنفيذها لا بد أن تؤخذ بعين الاعتبار، ومن ثم فهناك ما يسمى بالسياسة التنظيمية والتي تقوم على تهيئة المناخ التنظيمي لعملية التنفيذ، وإلا فما الفائدة من وراء سياسة محبوكة، ولكن الواقع الإداري لا يستطيع التعامل معها. إن الأمر في حاجة إلى إدارة بسمات معينة لترتفع على مستوى التوقعات والسياسات ولتنجح في تحويل المبادئ إلى آليات للتنفيذ.
وهنا لا بد من الإشارة إلى مجموعة من المقومات التي يتعين توافرها في الإدارة التي ستقوم على عملية التنفيذ، ومن أهمها:
- المستقبلية: بمعنى النظرة الفاحصة المستوعبة للمستقبل، لتتحرك نحوه على بصيرة وفي خطوات منهجية محسوبة، فيها نوع من التأمل والفهم والاستيعاب لمتغيراته.
- العلمية: بمعنى أن أي سلوك إداري تنظيمي يجب أن يكون مبنيًا على أسس علمية، وعلى معلومات وبحوث ودراسات، كما تبنى القرارات على أساس عقلاني، لا ترتبط بأهواء شخصية أو أبعاد عاطفية انفعالية، فالإدارة ليست سلوكًا عشوائيًا مزاجًا، وإنما هي عمل علمي دقيق ومحكم.
- استخدام التكنولوجيا ونظم المعلومات، وذلك لتوفير الوقت والجهد ورفع معدلات الأداء. والتكنولوجيا ليست أجهزة فحسب، إنها ثقافة وأفكار، إلى جانب أن نظم المعلومات أصبحت أساسًا في الإدارة، وركيزة التخطيط، وعماد اتخاذ القرار.
- الديمقراطية، بمعنى المشاركة الحقيقية، وتوسيع فرص الحوار، واللامركزية، والعلاقات الأفقية، والحديث عن الصالح العام، وعدم الانفراد بصنع القرار، فالحوار قبل القرار، وهي- قبل كل ذلك وبعده- مرتبطة بالمسئولية والمساءلة والجزاء.
- الجودة؛ الأمر يحتاج هنا إلى الوصول إلى أهداف محددة، وإلى أعلى النتائج بأقل تكلفة، ومن هنا يدخل الترشيد، الأمر الذي يعني أن هناك إجادة، وهي لا تتواجد إلا إذا تحققت المقومات الأربعة السابقة للإدارة العصرية، ومن ثم إذا افتقدت المقومات الخمسة للإدارة لا يمكن أن يكون هناك تخطيط للسياسة يؤتي ثمارًا.
الخطيئة الخامسة: الفجوة بين السياسة التعليمية والبحث العلمي التربوي
وتتجلى تلك الخطيئة حين لا تعتمد السياسة التعليمية على نتائج البحوث العلمية، وحين يصير الطابع السياسي في بنائها طاغيًا، الأمر الذي يشير إلى غلبة مفهوم خاطئ عن السياسة التعليمية، يرى أنها تتضمن كافة التوجيهات السياسية بغض النظر عما إذا كانت نتائج الدراسات والبحوث العلمية تتفق مع تلك التوجيهات وتدعمها أم لا. والبحوث في ميدان السياسات متعددة، إلى جانب أنه من المفروض أن تكون هناك بحوث للسياسات، وحتى استطلاعات الرأي فيما يتعلق بقضايا التعليم ينبغي أن تكون قائمة على أسس علمية. على أن نظرة مدققة لواقعنا التعليمي تظهر في جلاء أن هناك فجوة بين عملية صنع السياسة التعليمية ونتائج البحوث التربوية. إن اختطاف السياسة التعليمية بعيدًا عن حلبة البحث العلمي قد أضرها وأضعفها.
الخطيئة السادسة: غياب البعد الاستراتيجي عند التعامل مع قضايا التعليم
اهتمام السياسة التعليمية بقضايا يمكن أن توصف بأنها جماهيرية، أو في عبارة أخرى القضايا التي تمثل اهتمامًا إعلاميًا كبيرًا بما تحظى به من صخب وضجيج لافتين، وليس في هذا عيب، ولكن المشكلة تكمن حين يكون ذلك على حساب البعد الاستراتيجي لقضايا التعليم وعلى حساب التروي الذي يجب أن يكون مصاحبًا لعملية صنع السياسات التعليمية.
وهذا الأمر دفع المسئولين إلى التعامل مع الأعراض وليس مع المرض في حد ذاته، والعوامل التي أدت إليه، والتعامل مع الأعراض لا يقدم- في العادة- إلا حلولًا جزئية ووقتية لا يمكن أن تمثل سياسة على المدى الطويل.
ولعل خير مثال يتعلق بهذا الأمر، قضية الثانوية العامة التي نتحدث عنها منذ سنين، ونتناول أحد أعراضها وانعكاساتها، وهو المتعلق بالدروس الخصوصية، في حين أن بقية العوامل التي أدت إلى تلك الحالة، والمرض ذاته لا نتناوله، إن الأمر مرجعه إلى قصور في النظام لا بد من معالجته ابتداءً، ثم بعد ذلك ستأتي قضية التعامل مع الأعراض، إننا إذا لم نتناول المرض وأسبابه، فلن نحقق شيئًا.
الخطيئة السابعة: النخب المسيطرة على مجريات الأحداث في ميدان السياسات التعليمية
طبيعة النخب المسيطرة على أمور التربية والتعليم بوجه عام، والدور الذي يمكن أن تلعبه تلك النخب، يعيد إلى الأذهان تلك المعادلة الشهيرة التي تضع أهل الخبرة في مقابل أهل الثقة. النخب تلعب دورًا مؤثرًا، خصوصًا أنها تمثل في حد ذاتها مصدرًا من مصادر المعلومات، والتي تبدو في كثير من الأحيان معلومات مشوهة، وغير دقيقة، أو منقوصة، أو أنها تخفي شيئًا من ورائها، وغير شفافة، وفي بعض الأحيان ملونة، ومن هذه النخب:
1- النخب السياسية:
تلعب دورًا بطريقة غير مباشرة ومباشرة في توجيه السياسات، وفي توجهات السياسة التعليمية. وإذا كانت تلك النخب لا تمثل أجهزة أو جهات تنفيذية، إلا أن لها نفوذًا وتأثيرًا يبدو واضحًا حيث تتحكم في وزارة التعليم ومؤسساتها، وتتحكم في مجريات الأحداث نتيجة لعوامل معينة مثل ارتباطها الحزبي الذي يتيح لها أن تفرض رؤيتها وأجندتها، انطلاقًا من اعتقادها أن ما تراه هو الأصلح، وتلك نظرة أبوية تتسيد معظم بلدان العالم الثالث. وتعتمد النخب السياسية في معلوماتها على مؤسسات حكومية تحيط بها في كير من الأحيان العديد من علامات الاستفهام والتشكك في مدى ما تتمتع به من دقة وشفافية.
2- النخبة الحاكمة:
ونقصد هنا الحكومة، ورجال الوزير من مستشارين، سواء من هم من داخل الوزارة، أو من جاء من خارجها، وهذه النخبة مرتبطة بالنخبة السياسية وتابعة لها، فهم يتحركون بضوء أخضر، وفي كثير من الأحيان يبدو الوزير مرددًا ومنفذًا لكثير من الأمور المرتبطة بلجنة السياسات، وعلى الرغم من كونها تنفيذية إلا أنها إلى حد كبير تابعة، ينسب إليها الفشل إذا ما حدث، وتوجه إليها الانتقادات إذا ما أخفقت، وتتحمل الأوزار، ولكن ما الثمن من جراء هذا التحمل؟
إن هؤلاء ينبغي أن تكون لهم رؤية وأن تكون لهم أجندة، وأن يتمتعوا باستقلالية، وأن يكونوا محترفين. والملاحظ هنا أن الوجوه قلما تتغير، وأن هناك ارتباطًا بين النخبتين، ومع ذلك تنتقد النخب السياسية، النخب الحاكمة، بالرغم نم أنهما شريكان في صنع السياسة التعليمية.
إن الأمثلة التي تتعلق بضرورة استقلالية تلك النخب كثيرة، خاصة فيما يتعلق بقضايا جوهرية في ميدان التربية والتعليم، وخذ على سبيل المثال، اللجنة العليا لسياسات التعليم في بلد كاليابان، حيث هي كيان مستقل تمامًا إلى جانب أن أعضاؤها كانوا في الميدان قبل أن يتركوه. إن قضايا التعليم ينبغي ألا تكون خاضعة لأهواء أو أجندات معينة. إن مستقبل الأمة بأسرها مرهون بالتعليم وسياساته، ولن يتحقق التقدم والتطور في الميدان إلا إذا وُسِّدَ الأمر لأهله.
3- نخب العولمة:
في مصرنا ليست النخب السياسية والحاكمة هي المسيطرة وحدها، وليست هي اللاعب الوحيد في مضمار السياسة التعليمية، وإنما هناك نخب أخرى، نطلق عليها نخب العولمة، وبعض رجال الأعمال. وبعض أساتذة الجامعات، وبعض ممن يطلق عليهم مفكرين ومثقفين، والأمر اللافت للانتباه أن بين هذه النخب اتفاق واضح، إلى جانب أنها لا ترى، أن هناك خطوطًا حمراء، أو أن هناك ثوابت، فهي لا ترى في الثوابت شيئًا مكبلًا، وترى أن التحديث لا يمكن أن يتم إلا من خلال تبني بعض النماذج الموجودة بدول أخرى لا تشبهنا، ويضربون بالثوابت عرض الحائط، ويضيقون ذرعًا عند الحديث عن الاعتبارات الدينية، ويضعون الأمر في مكان بعيد، حيث لا يمثل لهم أولوية.
إن كثيرًا من المفكرين قد تبنوا خطابًا تربويًا يتعامل مع قضايا التعليم، كجزء من الدعاية للنظام، فتحولت مفاهيم أصيلة ورصينة إلى شعارات جوفاء مثل: التقدم، والتنمية والتحديث، والدولة العصرية... مستخدمين في ذلك عبارات تتسم بالجزالة!!، إنها نوع من الأناقة اللغوية!!
فكم من شعارات، بدأت بأفكار رائعة، ما لبثت فرغت من مضمونها، فأصبحت شعارات تتحدث عن الجودة الشاملة، فكيف يمكن أن نتطلع إليها، ونحن نعاني من مشكلات كثيرة ومعقدة ومتفاقمة، أليس من الأفضل أن نضع حلولًا لها، قبل أن نتحدث عن مفاهيم لا نستطيع تحقيقها في وجود تلك المشكلات، أليس من الأجدى معالجة تلك المشكلات، إن معالجة تلك المشكلات قد يفضي إلى تحقيق الجودة الشاملة وضمانها، من دون حاجة إلى تبني شعارات أبعد ما تكون عن الواقع.
كيف نتحدث عن جودة شاملة والأمية قد تسللت إلى داخل مؤسسات التعليم !! ونحن غير قادرين على الاحتفاظ بالطلاب داخل المدارس! وكيف نتناول هذا الأمر والشارع خير شاهد على وجود أطفال في سن التعليم ليسوا في مدارس.
4- النخب المرتبطة بالمال (رجال الأعمال):
قد يعتقد البعض أن ارتباط رجال الأعمال بالسياسة يبدو بعيدًا، ولكن تأثيرهم صار واضحًا، لدرجة أن البعض قد أطلق عليهم صفة "رأس المال المتوحش والمحتكر" هؤلاء يقيمون المشاريع التعليمية في مصر، ولكنها مشروعات لم توجه إلا لنوع من التعليم يهتم بالأغنياء، فبنوا مدارس خاصة متعددة الطبقات والمستويات، وجامعات خاصة يقولون إنها لا تهدف إلى الربح، وتبنوا صيغ تعليمية أجنبية، أداروها بعقلية رجال الأعمال.. يفتقرون إلى المهنية والفكر، الهدف استثمار مالي بالدرجة الأولى.. ينظر إليهم من قبل النخب الحاكمة نظرة إيجابية. إنهم يخففون الأعباء عن كاهل الحكومة، وغالبًا هم متحالفون مع النخب السياسية، امتزج المال بالسلطة مع أن الجميع يحذر من ذلك ومن انعكاساته الحالية والمستقبلية.
5- النخب العلمية (أهل الخبرة والعلم):
لعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا، هل يمكن أن نطلق على أهل العلم والخبرة صفة نخبة؟ إنهم أفراد معزولون، فئات تتحرك بطريقة فردية، ومجهودات فردية، هم غير منظمين، ومهمشين، ولا يؤخذ بآرائهم، وإذا ما كتبوا في الصحف، أو تكلموا في وسائل الإعلام الأخرى، فهم غير مرضي عنهم، هم أغلبية صامتة، ولذلك نجد أن بعضهم قد هرب من طاحون البيروقراطية إلى أماكن التقطتهم واستثمرتهم، فإذا ما عادوا أدلوا بتصريحات ومحاضرات وبرامج تليفزيونية تأثيرها محدود، واكتفوا بذلك، ونحن قد اكتفينا بسماعهم، ونقدهم...هم يمثلون إضافة في مجتمعات غير عربية، فالمناخ في مجتمعاتهم غير مناسب والنظرة إليهم غير ملائمة، ضيوف ثقيلو الظل، إنهم يتحدثون ويمارسون دورهم، ولكن في بلدان أخرى، فالإحصاءات تقول أن عدد البحوث التي قام بها العلماء العرب خارج الدول العربية، أكثر من عدد البحوث التي قامت بها مؤسسات البحوث في الدول العربية مجتمعة.
أما من بقي منهم فيعملون في مناخ علمي لا يمكن أن يكون منتجًا، فهم في أوطانهم منبوذون، وفي أمراض البيروقراطية يرتعون، وهم لأعمالهم بطريقة فردية يمارسون، إنها نخب صامتة ومتشرذمة، ليس لها وزن، ولا تأثير لها. بعضهم ذهب إلى الدول الخليجية فاستنزف، وعاد بمال. والبعض رضي بمنصب هنا أو هناك يساعده على جمع المال، وبدأ يدافع عن سياسات، وإلى جانب هؤلاء أولئك هناك فئة غيرت مبادئها وجلدها، وأصبح الحال غير الحال.
الخطيئة الثامنة: الاهتمام بلغة الأرقام لا بلغة القيمة
في مستوى السياسات العليا، يهتم المسئولون بلغة الأرقام وهذا قد يكون على حساب الجانب الكيفي، من ناحية أن الأرقام هي التي تظهر الإنجازات، ومن السهل الحديث عنها، وهذا البعد يفرض على المخططين أن يهتموا بلغة الأرقام كذلك، كما أنها في حالة التقارير يمكن أن تكون محسوسة ومنظورة. والاهتمام بلغة الأرقام قد يكون خادعًا، ويحب صانعوا السياسة الأرقام لأن من السهل التحدث بها، ومن الصعب معرفة ما وراءها.
إن لغة الأرقام مؤثرة على المخططين وأعمالهم- خصوصًا إذا ما كانت تلك هي لغة السياسة- واقتران الأرقام بقرارات سياسية، من دون توافر المعلومات التي قد تكون أكثر أهمية من تلك الأرقام، يعيق الفهم فيما يتعلق بسلبيات قرار ما أو إيجابياته.
الخطيئة التاسعة: الاهتمام بالشكل من دون المضمون
عندما يضطلع الفرد بتحليل الكثير من المبادئ والمفاهيم التي تُكَوِّنُ عناصر السياسة التعليمية الأساسية، يجد أنها على المستوى اللفظي والتركيبي رائعة، وحسنة الصياغة، ومحكمة، ولكن هذا على مستوى الشكل أما المضمون فمختلف، والمهم هنا أن نحكم عليها في سياقها، وأن تكون قابلة للتطبيق، أو أن هناك إمكانية لتطبيقها، إن هناك مسميات كثيرة تتغير بين حين وآخر، سواء كان ذلك فيما يتعلق بمسميات وظيفية، أما ما يمارس من أدوار ووظائف فيظل كما هو، أو في تبني أفكار ومفاهيم جديدة، في حين يبقى الأداء كما هو، كأن التغيير في الشكل أصبح في حد ذاته سياسة، وهذا أمر متعمد، حتى إن الدورات التي يجب أن تكون لفهم السياسات وما تتطلبه، والرؤى الجديدة وما تحتاج إليه حتى تنفذ، صارت هي الأخرى شكلية.
تطرح الأفكار بعد عقد ندوات ومؤتمرات ولقاءات، ثم تتبنى وتطبق فنجد أن الحال هو الحال، ولا أعتقد أن الأمر مرتبط بسوء التنفيذ أو التطبيق، ولكن قبل ذلك، عند التبني وما صحبه من إجراءات، إنه تغليب لنتائج حاصلة، وأهداف قصيرة المدى على أهداف بعيدة.
إن كثيرًا من هذه المؤتمرات، وهي متعددة ودورية، عقدت لأهداف لم تعد خافية، إنها تعقد لهدف أن تعقد، وتضاف إلى رصيد المسئولين، إلى جانب أنها توظيف لرصيد المعرفة العلمية والثقافية لدى البعض لزيادة نفوذهم الاجتماعي، وتحسين وضعهم السياسي، كلام استعراضي قد يحظى بالقبول والاستحسان، فإذا ما جاءوا كمسئولين صاروا مختلفين في لغتهم وفي خطابهم، وفي أعمالهم... إنها الشكلية إلى جانب أشياء أخرى.
الخطيئة العاشرة: غياب رؤية سياسية واضحة مدعومة بتفكير استراتيجي
إن غياب رؤية سياسية وقيمة يمكن الالتفاف حولها والإيمان بها والدفاع عنها، فالمشروع الوطني يكاد يكون غائبًا، وليس هناك توافق عام وسعي مشترك ورغبة طوعية من القوى السياسية والاجتماعية، كما أن الأمر في حاجة إلى إحياء التفكير الاستراتيجي، الذي يعد بعدًا غائبًا كذلك، والتفكير الاستراتيجي لا ينتظر حتى يحدث التغيير ويقوم برصده، ولكنه ينبأ به، ويعد العدة لمواجهته، إن البيئة الخارجية وما سيحدث فيها ينبغي أن يعد له اليوم وليس غدًا.
إن البعد الاستراتيجي يتطلب قرارات مؤثرة للتعامل مع الفرص التي تتيحها البيئة والاستفادة منها، كما أن الأمر يشمل على أفضل الحلول لوسائل الحماية من التهديدات التي قد يتعرض لها النظام.
الخطيئة الحادية عشرة: اعتماد التمويل في صنع السياسات على المنح والقروض
تلعب القروض والمنح دورًا خطيرًا في قضية صنع السياسات التعليمية، وإذا كانت هناك حاجة مادية إلى تلك المنح لاعتبارات أن الدولة غير قادرة على تحمل نفقات التعليم وتكلفته، فإن هذا يجب ألا يغفل مدى تأثيرها على سياسات التعليم، وأن لها انعكاسات، أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها «خطيرة»، لأن تنطوي على تنازلات، وإلى جانب ذلك فإن هناك برامج مهمة في سياسات التعليم تستجيب للمعونات وتجعل الهدف هو الحصول عليها.
إن المنح والقروض والمعونات التي تأتي من الاتحاد الأوروبي أو المعونة الأمريكية أو صندوق النقد الدولي في أغلبها، مشروطة بانتهاج سياسات معينة، وقد تستخدم كوسيلة ترهيب وترغيب، كما أن تدفقها غير مضمون، ولن نتطرق إلى أنها قد تستخدم كوسيلة لجمع المعلومات واختراق العقل العربي، فيكفي أنها قد صيغت في مجتمعات رأسمالية متقدمة، وحالنا يختلف كثيرًا عن ذلك.
الخطيئة الثانية عشرة: طغيان البعد الفردي على البعد المؤسسي
إن تجسيد أي سياسة تعليمية في فرد، أو شخصية واحدة هي التي تحرك وتوجه، وإرجاع كل ما يحدث في ميدان التعليم إلى توجيهات، عملية تمثل خطورة في أي سياسة تعليمية، فالمفروض أن السياسة عمل مؤسسي لا يمكن أن يسند إلى فرد، ثم أن السياسة التعليمية لا يقوم بها التربويون وحدهم، فكيف تسند إلى فرد. إن التعليم قضية كل فرد، فما بالنا نختزل قضاياه في مسئول كبير! إنها عمل ضخم وعلى هذا فإن غياب البعد المؤسسي يعد من الخطايا الكبرى في السياسة التعليمية.
حلول للنهوض بالسياسة التعليمية
إن السياسة التعليمية قد تنجح إذا ما اتسمت بالعقلانية والتي تعني في هذه الحالة أن تبني السياسات على:
- معلومات حقيقية وواقعية وصادقة ودقيقة.
- أن تكون خاضعة لحسابات دقيقة.
- أن تضع أهدافًا واقعية يمكن تحقيقها.
- أن تهتم بتنفيذ السياسات على أرض الواقع.
- أن تراعي الصالح العام وليس صالح فئة بعينها.
- أن تراعي كل المستويات الإدارية وأن يكون ذلك مراعيًا للتنسيق والتناغم بين هذه المستويات.
- أن تكون ناتجة من مشاركة حقيقية.
- أن تبني على نتائج البحوث العلمية.
- أن تراعي البنية الثقافية والاجتماعية وأن تحافظ على الهوية والثوابت.
- أن تكون للسياسات مرجعية وأن تكون مستقلة.
- أن تحدد مسئوليات وأن تكون هناك محاسبية في حالة الإخفاقات.
- أن تبين كيفية تقويمها لتصحيح مساراتها.
.