بقلم: د. همام سعيد
على الداعية أن يعلم أن الله تعالى إنما خلق الإنسان لعبادته لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56] والعبادة لا تكون إلا على بصيرة، والبصيرة لا تكون إلا وفق منهج الله الذي أنزله على رسله وأنبيائه، فكان هؤلاء المرسلون والأنبياء دعاة يهدون إلى الحق، وكان هذا هو شغلهم الشاغل تحقيقاً لمراد الله الذي جعل آدم خليفة في الأرض، يقضي بقضاء الله وينفذ أمر الله فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة: 30] فكان مراد الله تعالى من خلق الإنسان أن يكون مشتغلاً بأمره وهو القائل سبحانه: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
يقول الرازي: (ما العبادة التي خلق الجن والإنس من أجلها؟ قلنا: التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله)، ثم يقول: (ولما كان التعظيم اللائق بذي الجلال والإكرام لا يُعلم عقلاً، لزم اتباع الشرائع والأخذ بقول الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد أنعم الله على عباده بإرسال الرسل وإيضاح السبل في نوعى العبادة) وهذا التقسيم لوظائف العبادة تقسيم موجز وشامل.
والدعوة إلى الله تعالى هي أبلغ مظهر من مظاهر تعظيمه، والذي يدعو إلى فكرة أو هدف ويصرف جهده في سبيلها، إنما يفعل ذلك لامتلائه بهذا الهدف أو هذه الفكرة، ومن دعا إلى فكرة فإنه يحسب عليها كما تحسب هي عليه كذلك.
وفى الدعوة إلى الله تعالى دليل شفقة على عباد الله، لأن الداعية يريد إخراج الناس من أوضاع التمزق والشتات تحت وطأة الأنظمة الوضعية إلى سعة الدين وآفاقه الرحيبة، ونظمه الكفيلة بإسعاد البشر وأن يخرجهم من النار إلى الجنة كذلك.
هذان هدفان كريمان من أهداف العبادة، وهما هدفان من أهداف الدعوة إلى الله أيضاً.
النجاة في هذين الهدفين
وقد التزم أنبياء الله ورسله الكرام أمر الله في الدعوة إليه والحفاظ على الغاية من خلق الله لهم، وحرص كل رسول كريم على دعوة الخلق إلى هذه النجاة، ولقد قص القرآن الكريم علينا معركة الأنبياء مع أقوامهم مؤكداً دائماً على نجاة الدعاة وهلاك الظالمين المعرضين:
** ففي قصة نوح عليه السلام مع قومه كانت النهاية: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}[يونس: 73].
** وفى قصة هود عليه السلام مع قومه كانت النهاية: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}[هود: 58].
** وفى قصة صالح عليه السلام مع قومه كانت النتيجة: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ}[هود: 66].
** وفى قصة لوط عليه السلام كانت النتيجة: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}[هود: 81 - 83].
** وفى قصة شعيب عليه السلام مع قومه: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}[هود: 94].
** وفى قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه كانت النتيجة: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}[الأعراف: 136- 137].
** وفى قصة القرية التي كانت حاضرة البحر كانت النتيجة: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأعراف: 165].
كل هذه الآيات تؤكد أن النجاة في الدعوة إلى الله، وهذا وعد الله تعالى للمؤمنين: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس: 103].
فتكون نجاة المؤمنين الداعين إلى الله (حقاً بسبب الوعد والحكم).
يقول سيد قطب رحمه الله: (هذه سنة الله في الأرض، وهذا وعدٌ لأوليائه فيها، فإذا طال الطريق على العصبة المؤمنة مرة فيجب أن تعلم أن هذا هو الطريق، وأن تستيقن أن العاقبة والاستخلاف للمؤمنين، وألا تستعجل وعد الله حتى يجيء وهي ماضية في الطريق، والله لا يخدع أولياءه، ولا يعجز عن نصرهم بقوته، ولا يسلمهم كذلك لأعدائه، ولكنه يعلمهم ويدربهم - في الابتلاء - على الطريق).
لا خسارة في الدعوة
وليس أمر الدعوة كما يظن بعض الناس أنها تعبٌ وخسارةٌ ونصَبٌ وألم، فإنها وإن كانت لا تخلو من المتاعب والمصاعب لكنها لذيذة الطعم عزيزة على القلب، ولذلك فإن أصحابها يضحون في سبيلها بالغالي والرخيص، ويستعذبون العذاب، ويجدون الموت حياة من أجلها وهم أسعد بها من الناس بدونها، أما في العاقبة فهي الفوز وغيرها الفشل، وهي الباقية وغيرها الفانية.
دعوة محمد صلى الله عليه وسلم أمان للبشرية
ويلاحظ من سياق الآيات الكريمة التي تتحدث عن معركة الأنبياء مع أقوامهم أن المكذبين من هذه الأقوام كانوا يُستأصلون بعذاب الله تعالى فلا يبقى على الأرض منهم ديَّاراً، ولا يترك الله منهم باقية. وبمجيء محمد صلى الله عليه وسلم رفع هذا الاستئصال العام بالطوفان والصاعقة والريح، وذلك تكريماً لهذه الأمة التي لا تخلو من قائم لله بالحجة، ولا من الطائفة الظاهرة على أمر الله حتى يأتي الله بأمره، وهذه الطائفة هم الدعاة وبهم يكتب الله النجاة للأمة من أن تهلك بسَنَةٍ عامة، وعندما تخلو الأرض من هذا الصنف الكريم على الله فإن الساعة تقوم، وقد جاء هذا المعنى في أحاديث كثيرة منها:
* قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة إلا على أشرار الناس).
* وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله الله ).وفى رواية حتى لا يقال في الأرض الله الله.
* وقال صلى الله عليه وسلم: (يقبض الصالحون الأول فالأول ويبقى حثالة كحثالة التمر أو الشعير لا يعبأ الله بهم شيئاً).
وهذه الأحاديث تدل على أن قيام الساعة يقترن به ذهاب الدعوة والدعاة، ولا أعنى بهذا الاقتران اقتران السبب أو الشرط بالمسبب أو المشروط، وإنما أعنى أن الله تعالى يكرم الإنسانية بالدعوة والدعاة، وأنه ما دام الدعاة وما دامت الدعوة، فإن الغاية من الخلق على هذه الأرض باقية، فإذا زال الدعاة والدعوة فقد خسر الإنسان مبرر وجوده على هذه الأرض، وهكذا فإن الإنسان يقع بين نهايتين، أو بداية ونهاية:
الأولى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة: 30].
والثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث ريحاً من اليمن ألين من الحرير، فلا تدع أحداً فيه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته).
وأخرج مسلم عن عبد الرحمن بن شماسة رضي الله عنه قال: (كنت عند مسلمة بن مخلد وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال عبد الله: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شرٌ من أهل الجاهلية، لا يدعون الله بشيء إلا رده الله عليهم، فبينما هم على ذلك أقبل عقبة بن عامر، فقال مسلمة: يا عقبة، اسمع ما يقول عبد الله، فقال عقبة: هو أعلم، وأما أنا فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين عدوهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتي الساعة وهم على ذلك، قال عبد الله: أجل ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك مسها مسَّ الحرير فلا تترك نفساً في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة) ونلاحظ في هذه الرواية التوفيق بين بقاء الطائفة المؤمنة إلى الساعة، وقيام الساعة على شرار الخلق، وعندئذٍ يكون معنى وجود الطائفة المؤمنة إلى قيام الساعة يعنى إلى قرب قيامها، وهذا ما ذهب إليه النووي وهو يشرح الحديث: (إن الله يبعث ريحاً من اليمن..... ) فقال: (وأما الحديث الآخر لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة فليس مخالفاً لأن معنى هذا أنهم لا يزالون على الحق حتى تقبضهم هذه الريح).
ولما كان الداعية قد وطَّن نفسه على الجهاد وندب نفسه للتضحية في سبيل الله، ودخل كطرف مواجهة مع أعداء الإسلام، فإن هذه المؤهلات تجعله أقدر على المصاولة والمجاولة، وهو بإذن الله منصور ناجٍ وعدوه مخذول هالك.
- وليس المقصود بالنجاة نجاة الفرد من الأذى والألم وإنما المقصود نجاة الجماعة والفكرة في النهاية، وأما في الآخرة فإن صورة النجاة نعيم مقيم وجنة عرضها السموات والأرض فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
للاطلاع على السلسلة: د. همام سعيد يكتب: قواعد عامة في الدعوة إلى الله
.