منهج القرآن في غرس الإيمان

 الوظيفة الأساس لكتاب الله تعالى التي أنزل من أجلها؛ هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وتنقية عقائدهم من الشرك الذي حل بأمم كثيرة، وحملهم على القيام بالعمل الصالح، وهذه الوظيفة الكبيرة التي تنوء بحملها الجبال تحتاج في أرض الواقع إلى عمل دؤوب ومثابرة ممن حمله الله أمانة هذا الكتاب العظيم لاستنبات ذلك في النفوس كما يستنبت الزرع، وتحتاج إلى تعهد غراسها في النفس كي تؤتي ثمارها المرجوة.

وبالنظر إلى آيات الكتاب العزيز نجدها كلها على اختلافها وتنوعها، ما بين أمر ونهي وتشريع وقصة ووعد ووعيد، تصب في غرس الإيمان وتمكين التوحيد في النفوس.

وفى هذه الدراسة، يرى محمد بن شاكر الشريف، أن المنهج القرآن في غرس الإيمان له جناحان: جناح الإطار أو الشكل والصورة، وجناح المضمون، فأما الجناح الأول فيشمل التقرير والطلب والقصة والترغيب والترهيب وضرب المثل وقياس الغائب على الحاضر والرجوع إلى التاريخ والاستشهاد بالواقع المحسوس، وأما جناح المضمون، فأول ما نجده من خطوات هذا المنهج القرآني المتكامل الذي يظلله في كل خطواته؛ البداية بالأصول والكليات قبل الفروع والجزئيات، فمن ذلك:

 

الخطوة الأولى: بيان خصائص الربوبية وبيان عمومها وشمولها

ترسيخ معاني الربوبية بشمولها وإطلاقها، يوضح ذلك أن أول آيات أنزلت على رسول الله كانت باسم الرب: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وظل هذا المنهج في القرآن على مدى 23 عامًا مدة نزول الوحي الشريف في سوره المكية والمدنية من بداية الإيمان حتى اكتماله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: ٣]، فربطت القلوب بأفعال الرب تعالى التي تبين عنايته بخلقه وعباده مما يحمل الإنسان على محبة ربه والإخلاص في عبادته.

والآيات في تقرير هذا الأمر كثيرة أكثر من أن تحصر، ولذلك كان توحيد الربوبية هو المدخل لتوحيد الألوهية (العبادة) قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إلَهَ إلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: ٢٠١]، فأمرهم بعبادته بعد الحديث عن ربوبيته وبين تفضله عليهم وما أعطاهم من النعيم في الدنيا وما يسر لهم من الأمر كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: ١٢، ٢٢]، وعلى قدر اكتمال الإيمان بالربوبية يكون الإيمان بالألوهية، وإذا وجد عند بعض الناس نقص في توحيد الألوهية فلأن هناك نقصًا يقابله في توحيد الربوبية.

 

الخطوة الثانية: الحديث عن الجنة والنار

والقرآن مملوء بالحديث عن دار القرار سواء الجنة أو النار فلا تكاد تخلو سورة من سوره المكية والمدنية من الحديث عن إحداهما أو كلتيهما وما أعد لساكنيهما من النعيم المقيم أو العذاب المهين.

وهكذا تحدثت الآيات تفصيلًا عن الجنة وعن النار طعامهما وشرابهما وملابس أهلهما وغير ذلك من التفاصيل التي تكون معرفتها والتفقه فيها من أكبر المعينات على غرس الإيمان في القلوب مكونة دافعًا كبيرًا لأداء الواجبات واجتناب المحرمات.

 

الخطوة الثالثة: الأمر والنهي

وتأتي الخطوة الثالثة بعد هاتين الخطوتين السابقتين اللتين أوجدتا الإيمان ورسختاه وأمدتاه بالوقود الذي يضمن توهجه واستمراره بحيث لا يخبو في النفس أبدًا، وهي خطوة التشريعات بالأمر والنهي بما يبين أن الأمر والنهي من الله لعباده رحمة منه تعالى بهم، وبما وراء الأوامر والنواهي من حكم عظيمة ومصالح متعددة، قال تعالى في منع المؤمنين من رمي المحصنات الغافلات المؤمنات: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِـمِثْلِهِ أَبَدًا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: ٧١، ٨١]، وقال في الأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: ٦٥]، وقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: ٥٥١].

ومن ذلك أيضًا الأمر بعبادات الفرائض والنوافل والنهي عن المحرمات والمكروهات من الأقوال والتصرفات التي يكون في الالتزام بها غرس للإيمان وزيادته فمن ذلك الأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومنه الحث على قيام الليل كما جاء في سورة المزمل وهي من أوائل ما نزل من القرآن المكي قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْـمُزَّمِّلُ) قُمِ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: ١ - ٦]؛ وناشئة الليل هي قيام الليل، وأمرهم بصدق الحديث والإخلاص في العبادة ونهاهم عن الغش والكذب.

  • ضرب الامثال

ولم يكتف القرآن في ذلك بذكر هذه القضايا أو إلزام المسلمين الإيمان بها بدون دليل، بل سلك في سبيل غرس الإيمان في القلوب إقامة الدليل العقلي على ما يقرره وضرب المثل الذي يقره العقل ولا ينكره، فضرب المثل بإحياء الأرض بعد موتها على البعث والنشور بعد الموت فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ..} [الحج: ٥ - ٨].

  • تقريب معنى البعث

وقد تكرر في القرآن ذكر إحياء الله للأرض بإنزال الغيث عليها ومقابلة ذلك بإحياء الموتــى، ويقيم الدليــل العقلــي علــى إحياء الموتى والبعث بعد الموت بأن الذي أوجدهم من العدم في المرة الأولى قادر علــى إيجادهم من بعد المـوت: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَـمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: ٩٤ - ١٥]، ويقول: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْـخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْـمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْـحَكِيمُ} [الروم: ٧٢].

  • بطلان الشرك

ويقيم الدليل العقلي على بطلان الشرك: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: ٢٢]، ويقيم عليهم الدليل العقلي على أنهم مخلوقون مربوبون وأن الله ربهم وخالقهم فقال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْـخَالِقُونَ) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ} [الطور: ٥٣، ٦٣]، ولذلك لما سمعها جبير بن مطعم ولم يكن أسلم حينها؛ قال: كاد قلبي أن يطير. فعن جبير بن مطعم [وكان جاء المدينة في شأن فداء أسارى بدر]، قال: سمعت رسول الله قرأ في المغرب بـ«الطور» فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْـخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْـمُسَيْطِرُونَ} [الطور: ٥٣ - ٧٣] كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي.

 

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم