لقد اهتم القرآن الكريم بتربية الإنسان أيما اهتمام، وتحدث عنها بمفردات عديدة منها: التزكية والتطهير اللتان وردتا مع بعضهما في قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة: 103).
وفي هذه الدراسة، يحاول الباحث أحمد حسن الخميسي، تدبر هذه المفردة في آيات القرآن، فقد حوت هذه المعاني وزيادة، وسنجد مدى صلة التزكية بالنفس وتأثيرها فيها.
المبادرة إلى التزكية
يحرص الإنسان في حياته على صحة جسمه، فيأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى ذلك، ويحرص العاقل على سلامة نفسه، فيزكيها بتطهيرها من الذنوب، وتنميتها بفعل الخيرات والطاعات قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ﴿١٤﴾ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ) (الأعلى: 14-15).
فالمسلم يزكي نفسه بذكر الله وإقامة الصلاة، ولعل التسبيح الذي يتكرر كثيرًا في ركوع الصلاة وسجودها، وهو من ذكر الله يزكي النفس أكثر من غيره، ومما جعلني أؤكد ذلك أن سورة الأعلى ابتدأت بالأمر بالتسبيح (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴿١﴾ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ) (الأعلى: 1-2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم».
ومن الأعمال الصالحة التي تزكي النفس وتبعد عن النار الصدقة لوجه الله تعالى الذي قال في كتابه (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى .﴿١٧﴾ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ ﴿١٨﴾ وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ ﴿١٩﴾ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ ﴿٢٠﴾ وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ) (الليل: 17-21).
وقد أمر الله نبيه أن يأخذ (صدقة) من الذين اعترفوا بذنوبهم، لتطهرهم من الذنوب، وتنمي حسناتهم حتى يرتفعوا بها إلى مراتب المخلصين الأبرار فقال سبحانه (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) (التوبة: 103).
ومما يزكي النفس الإيمان بالغيب، والاعتقاد الجازم بأركان الإيمان الستة، فالإيمان بالغيب يعمق المراقبة في نفس المسلم لله تعالى، ويعيش المؤمن وهو يشعر أن الله يسمعه ويراه، ويعتقد أن الله سيحاسبه على أعماله، فيخشاه، ويقيم صلاته على أحسن وجه، ويعبد ربه كأنه يراه..
قال تعالى: (إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّـهِ الْمَصِيرُ) (فاطر:18).
وقال سبحانه (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (النور:30).
التزكية فلاح ونجاح
قد بشر الله تعالى كل مؤمن (يتزكى) بالفلاح ودخول الجنة فقال: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ) (الأعلى:14) وقال (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) (الشمس:9)،
وجزاء المفلحين الذين تزكوا، هو دخول الجنة خالدين فيها يتنعمون (وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَـٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ ﴿٧٥﴾ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ) (طه: 57-76).
التزكية هدف رسالات الأنبياء
ومن الأمور المهمة في دعوة الرسل (عليهم السلام) ((التزكية)) فقد أمر الله عز وجل سيدنا موسي عليه السلام بالذهاب إلى فرعون ، لدعوته كي يزكى نفسه ويطهرها من الذنوب والآيات، ويؤمن بالله ويطيعه ويخشاه فقال عن ذلك: (اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ ﴿١٧﴾ فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ ﴿١٨﴾ وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ) (النازعات:17-19).
وأكد القرآن مهمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في تزكية النفوس فقال في آياته: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة:2)، (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164).
ومما يؤكد على أن من مهام الرسول محمد صلى الله عليه وسلم التزكية ما ورد في دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام إذ قال كما ورد في القرآن: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة: 109).
التزكية بين الحقيقة والادعاء
تزكية الإنسان لنفسه ضربان: أحدهما بالفعل وهو محمود، وإليه قصد بقوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) (الشمس: 9)، وقوله ( قد أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ) (الأعلى: 14).
والثاني: القول كتزكية المرء نفسه وهو مذموم وقد نهى الله عز وجل عنه فقال (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ) (النجم:32)، أي لا تمدحوها على سبيل الإعجاب، ولا تشهدوا لها بالكمال والتقى، فالله تعالى هو العالم بمن أخلص واتقى ربه في السر والعلن.
نسبة التزكية
مما سبق لاحظنا أن التزكية تكون من الإنسان، ومن الرسول، ومن الله. وللراغب الأصفهاني كلام جميل ومفيد في هذا المعنى إذ يقول: بزكاء النفس وطهارتها يصير الإنسان بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة، وهو أن يتحرى الإنسان ما فيه تطهيره وذلك ينسب تارة إلى العبد لكونه مكتسبًا لذلك نحو (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا)، وتارة ينسب إلى الله تعالى لكونه فاعلا لذلك في الحقيقة نحو (بَلِ اللَّـهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ) وتارة إلى النبي لكونه واسطة في وصول ذلك إليهم نحو (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) (التوبة:103) و (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ) (البقرة:151).
وتكون تزكية الله أيضًا بالاختيار مثل تزكيته للرسل نحو (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) (مريم:19).
التزكية تربية
فالتزكية تربية للإنسان، تطهره من الشرك والذنوب، وتنمي فيه عناصر الخير، فيغدو إنسانا مؤمنًا موحدًا ومسبحًا لله بذكره وفعله، ومقيما للصلاة بخشوع، مما يرفعه إلى مصاف عباده المفلحين الذين يتقربون إليه بأعمالهم تزكية، فيرضى عنهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم.
.