يعتبر الكواكبي رائدًا من رواد الفكر في العصر الحديث لا سيما في مجال التعليم، حيث دعا إلى إصلاح تعليم اللغة العربية والعلوم الدينية وتسهيل تحصيلها والجد وراء توحيد أصول التعليم وكتب التدريس، وقدم الكثير من الأسس لاعتمادها في مجال التربية والتعليم، كما دعا إلى فتح باب محو الأمية، وبين دور الدارسين في إصلاح المجتمع، كما ركز على أهمية تعليم المرأة كي تجيد رسالتها في الحياة.
وكان واحدًا من المفكرين العرب الذين كشفوا عن أسباب التخلف الذي خيم على العالم الإسلامي، وقارن ذلك بحالة التقدم التي وصل إليها الأوربيون في العصر الحديث.
وفى دراسة بعنوان "نظرية الكواكبي التربوية" للدكتور محمد علي محمد عطا، الباحث فى الفكر الإسلامى، استطاع خلالها استخراج النظريَّة التربويَّة المتكاملة من مواطن متفرِّقة من "طبائع الاستبداد"، الكتاب الأشهر للكواكبى، ورغم مرور أكثر من مائة عام عليها فإنَّها لم تَفقد تفرُّدها وجرأتها، ويمكن البِناء عليها وفقًا لمستجدَّات الفِكر التربوي الحديث، كما يمكن أن يَأخذ الآباء الشقَّ التطبيقي منها في حُسبانهم عند تربية أبنائهم.
التعريف بالكواكبى
ولد عبد الرحمن الكواكبي عام 1854م في مدينة حلب، في بيت من بيوت العلم المشهورة، وكان والده السيد أحمد بهاء عالماً تقياً موصوفاً بالنجدة والورع، شغل عضوية مجلس إدارة الولاية وأمانة الفتوى، أما والدته فهي السيدة عفيفة بنت مسعود النقيب وكان أبوها مفتي أنطاكية.
ولم يكد يبلغ السادسة من عمره حتى فقد بموت والدته أغزر فيض للحنان، فعهد به والده إلى خالته السيدة صفية في مدينة أنطاكية، وكانت من فضليات النساء على قسط من الثقافة والفطنة، فأنزلته من نفسها مكان الولد، ونشأ تحت جناح رحمتها أقوى ما يكون عوداً وأشد ما يكون ذكاء.
ولما بلغ سن الشباب كان قد أتقن العربية والتركية والفارسية، وأصاب حظاً من العلوم الدينية. ولكن ثقافته الحقيقية استمدها من مطالعته الشخصية للكتب والمجلات العلمية والاجتماعية والأبحاث الكثيرة المترجمة عن الأقلام الغربية.
عمل في الصحافة لنشر أفكاره على صفحاتها، وكانت تصدر في مدينة حلب جريدة باسم "فرات" تحرر باللغتين العربية والتركية، ثم أنشأ الكواكبي صحيفة باسم"الشهباء" أول جريدة صدرت في حلب باللغة العربية وحدها ووقف قلم الكواكبي على كل قضية وطنية ودعوة إصلاحية ينتقد الحكام، ويهاجم الولاة، وأدخلت تلك الصحيفة نوراً جديداً على حياة الناس، وخوفاً لاهبا على قلوب الحكام إلا أن والي حلب أمر بإغلاق الصحيفة، وبعدها بادر إلى إصدار جريدة باللغتين العربية والتركية باسم "الاعتدال".
احتل عدداً من المناصب الإدارية والاقتصادية المهمة في الولاية، واحترف التجارة فترة من الزمن، واهتم بدراسة القانون، دخل السجن متهماً بمحاولة اغتيال الوالي التركي ثم برأته محكمة بيروت. هاجر سراً إلى مصر سنة 1899م، وكتب أهم مؤلفاته "أم القرى طبائع االستبداد" نشرها باسم مستعار، وقام برحلة إلى الشرق، وتوفي عام 1902م فدفن في مقابر باب الوزير.
نظريته التربوية
وتشمل جانبان:
1- شقًّ نظريًّ يَشمل: تمهيدات في جِبِلَّة الإنسان، وتعريفًا للتربية واحتياجاتها، وأهمِّيتها وتأثيرها في حياة الإنسان وفي آخرته، ومقاصدها، ومراحلها، ووسائلها مؤصَّلة تأصيلاً شرعيًّا، ونتيجتها، ودور الحكومات فيها وما ينتج عن قيامها بدورها، والمعوقات التي تَعوق هذه التربية من استبدادٍ وفقرٍ.
2- وشقًّ تطبيقيًّ عمليًّ؛ حيث لم يكتفِ الكواكبيُّ بالجانب التنظيري؛ بل ذكر منهجًا تطبيقيًّا يمكن من خلاله تكوين الفرد الذي يمكنه أن يتصدَّى للاستبداد.
الشق الأول: النظري:
أولاً: تمهيدات في جِبِلَّة الإنسان
وتشمل ثلاثة مبادئ مهمة، وهي:
1- داخل الإنسان استعداد للصَّلاح وللفساد: يرى الكواكبي أنَّ الله تعالى خلَق في الإنسان استعدادًا للصَّلاح واستعدادًا للفساد، وأبواه هما المسؤولان عن إصلاحه أو إفساده.
2- لا حدَّ لغايتَي الرُّقي والانحطاط عند الإنسان: ففي قُدرته بلوغُ قمَّة الترقِّي إلى ما فوق مَرتبة الملائكة، وفي قدرته بلوغ قمَّة الانحطاط ليكون أحطَّ من الشياطين.
3- الإنسان أقرب للشرِّ منه للخير: ويدلِّل على ذلك بأنَّ الله تعالى ما ذكر الإنسانَ في القرآن إلاَّ وقرَن اسمه بوصفٍ قبيح مثل: ظلوم وغرور، وكفَّار وجبَّار، وجَهول وأَثيم؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ﴾ [عبس: 17]، ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ﴾ [الزخرف: 15]، ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾ [العصر: 2]، ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ﴾ [العلق: 6]، ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ﴾ [الإسراء: 11]، ﴿ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ [الأنبياء: 37].
ثانيًا: التربية
وشمل حديثه عن التربية: تعريف التربية واحتياجاتها، وأهميَّتها وتأثيرها في حياة الإنسان وفي آخرته، ومقاصدها، ومراحلها، ووسائلها مؤصَّلة تأصيلاً شرعيًّا، ونتيجتها، ودور الحكومات فيها وما يَنتج عن قيامها بدورها، والمعوِّقات التي تعوق هذه التربية من استبدادٍ وفقرٍ.
1- تعريف التربية واحتياجاتها: عرَّف الكواكبيُّ التربية بأنَّها: "مَلَكةٌ تَحصل بالتعليم والتمرين والقدوة والاقتباس، فأهمُّ أصولها وجود المُرَبِّين، وأهمُّ فروعها وجود الدِّين"، ولا أسلِّم له بجَعل الدين فرعًا؛ بل هو الأصل في التربية.
2- أهمية التربية في حياة الأمم: يرى الكواكبيُّ أنَّ التربية هي أهم ما يَجب أن تهتمَّ به الأمم؛ لأنَّ فقدها هو المصيبة العظمى، فإنَّ الإنسان يكون إنسانًا بتربيته، وكما يكون الآباء يكون الأبناء، وكما تكون الأفراد تكون الأمَّة.
3- تأثير التربية في الإنسان حيًّا وميِّتًا: يرى الكواكبيُّ أنَّ تأثير التربية ليس في حياة الفرد فقط؛ بل يمتد ليَشمل آخرتَه أيضًا؛ فالإنسان الذي يَنشأ غصنًا ليِّنًا مستقيمًا بطبعه تَميل به أهواءُ التربية إلى الخير أو الشر، فإذا شبَّ رسخَت فيه تربيتُه، وبقي على ما هو عليه طوال حياته، فإذا مات على التربية الخيِّرة، سعدَت روحُه في الآخرة، وظلَّ في نعيمٍ مقيم، وعلى العكس إذا مات على التربية السيِّئة ظلَّ في جحيم مقيم.
4- مقاصد التربية: ذكر الكواكبيُّ أنَّ مقاصد التربية هي: قصر النَّظر على المحاسِن والعِبَر، وقصر السمع على الفوائد والحِكَم، وتعويد اللِّسان على قول الخير، وتعويد اليد على الإتقان، وتكبير النفس عن السَّفاسف، وتكبير الوجدان عن نصرة الباطل.
ورعاية الترتيب في الشؤون، ورعاية التوفير في الوقت، ورعاية التوفير في المال، والاندفاع بالكلِّية لحفظ الشرف، ولحفظ الحقوق، ولحماية الدين، ولحماية النَّاموس؛ (يقصد الكواكبي بالناموس واجب الفرد نحو نفسِه ونحو أسرته ونحو عائلته ونحو مجتمعه، ثمَّ نحو الإنسانيَّة).
كما أنها لحبِّ الوطن، ولحبِّ العائلة، ولإعانة العالَم، ولإعانة الضعيف، ولاحتقار الظالمين، ولاحتقار الحياة، "وعلى غير ذلك ممَّا لا يَنبت إلاَّ في أرض العدل، تحت سماء الحريَّة، في رياض التربيتين: العائلية والقومية".
5 - التربية المطلوبة: يرى الكواكبيُّ أنَّ التربية تَشمل تربيةَ العقل والنفس والجسم، ولكل عنصر من هذه العناصر مطالب كما يلي:
- تربية العقل: وتكون عن طريق: إعداده للتمييز، ثمَّ على حسن التفهيم والإقناع، ثمَّ على تقوية الهمَّة والعزيمة، ثمَّ على التمرين والتعويد، ثمَّ على حسن القدوة والمثال، ثمَّ على المواظبة والإتقان، ثمَّ على التوسُّط والاعتدال.
- تربية الجسم: "وأنْ تكون تربية العقل مصحوبةً بتربية الجسم؛ لأنَّهما متصاحبان صحَّة واعتلالاً، فإنَّه يقتضي تعويد الجسم على: النظافة، وعلى تحمُّل المشاق، والمهارة في الحركات، والتوقيت في النوم والغذاء والعبادة، والترتيب في العمل وفي الرياضة والراحة".
- تربية النفس: "وأن تكون تلكما التربيتان مصحوبتين أيضًا بتربية النفس على: معرفة خالقها، ومراقبته، والخوف منه".
6 - مراحل التربية وأعمارها: قسَّم الكواكبيُّ التربيةَ من حيث مجالها وسنُّها والقائم بها إلى تربية:
• "الجسم وحده حتى سنتين؛ وهي وظيفة الأم أو الحاضنة.
• ثمَّ تُضاف إليها تربية النفس إلى السابعة؛ وهي وظيفة الأبوين والعائلة معًا.
• ثمَّ تُضاف إليها تربية العقل إلى البلوغ؛ وهي وظيفة المعلِّمين والمدارس.
• ثمَّ تأتي تربية القدوة بالأقربين والخلطاء إلى الزواج؛ وهي وظيفة الصُّدفة.
• ثمَّ تأتي تربية المقارَنة؛ وهي وظيفة الزوجين إلى الموت أو الفراق.
• ولا بدَّ أن تصحب التربية من بعد البلوغ تربية الظروف المحيطة، وتربية الهيئة الاجتماعية، وتربية القانون أو السير السياسي، وتربية الإنسان نفسه".
7- وسائل التربية الصَّحيحة وتأصيلها شرعًا: ذكر الكواكبيُّ من وسائل التربية الصَّحيحة التي أجمع عليها علماءُ الاجتماع والأخلاق والتربية:
• الإقناع؛ فهو خير من الترغيب، فضلاً عن الترهيب.
• الحريَّة؛ فإنَّ التعليم مع الحرية بين المعلِّم والمتعلِّم أفضل من التعليم مع الوقار.
• الرَّغبة: فإنَّ التعليم عن رغبة في التكمُّل أرسخ من العلم الحاصل طمعًا في المكافأة، أو غيرةً من الأقران.
ولم يكتفِ الكواكبيُّ بإجماع العلماء على هذه الوسائل؛ بل اهتمَّ بالتأصيل الشرعي لها فقال: "من يتأمَّل جيدًا في قوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 179]، ملاحظًا أنَّ معنى القصاص لغةً: هو التَّساوي مطلقًا، لا مقصورًا على المعاقبة بالمثل في الجنايات فقط، ويدقِّق النَّظر في القرآن الكريم وسائر الكتب السماويَّة، ويتَّبع مسالِك الرُّسل العظام عليهم الصلاة والسلام، يرى أنَّ الاعتناء في طريق الهداية فيها منصرفٌ إلى: الإقناع، ثمَّ إلى الإطماع عاجلاً أو آجلاً، ثمَّ إلى الترهيب الآجل غالبًا، مع ترك أبواب تُدلي إلى النجاة".
8- رسوخ التربية: يرى الكواكبيُّ أنَّ التربية السيئة يرسخها الشيطان، بينما التربية الخيِّرة تظل قلقة كالسَّفينة وسط الرِّياح، ما لم يردعها الوازعُ الديني القوي في السرِّ والعلَن، أو القانون؛ لأنَّ فيهما يقين العقاب.
9- دور الحكومات العادلة في التربية: يرى الكواكبيُّ أنَّ الحكومة لها دور كبير في تسهيل تربية أبناء الأمَّة، منذ أن يكونوا أجنَّة في ظهور آبائهم، والمطلوب منها حتى تحقِّق ذلك أن:
تسنَّ قوانين النِّكاح، تعتني بوجود القابلات والملقِّحين (الممرضين) والأطباء، تفتح بيوت الأيتام اللقطاء، تعدُّ المكاتب والمدارس للتعليم من الابتدائي الجبري إلى أعلى المراتب، تسهِّل الاجتماعات، وتمهِّد المسارح، وتحمي المنتديات، وتجمع المكتبات والآثار، تقيم النُّصُب المذكِّرات، تضع القوانين المحافِظة على الآداب والحقوق، وتسهر على حفظ العادات القومية، وإنماء الإحساسات المِلَلِيَّة، وتقوِّي الآمال، وتيسِّر الأعمال، وتؤمِّن العاجزين فعلاً عن الكسب من الموت جوعًا، وتدفع سليمي الأجسام إلى الكسب ولو في أقصى الأرض، وتحمي الفضل، وتقدِّر الفضيلة.
ويؤكِّد الكواكبيُّ على ضرورة أن تلاحظ الحكومة كلَّ شؤون الفرد بما لا يخل بحريَّته الشخصية واستقلاله، فلا تَقترب الحكومة من إنسانٍ إلا إذا جنى جرمًا لتعاقبه عليه، أو مات لتواريه، أو مرِض لتشافيه.
10- نتيجة قيام الحكومة العادلة بدورها في التربية يَنتج: أن يعيش ابنُها راضيًا بنصيبه من الحياة لا يحس بغبنٍ أو ظلم، وأن يموت راضيًا لا يفكِّر مطلقًا في حالة أولاده الضِّعاف من بعده، محبًّا لوطنه وأمَّته.
هذا ما ذكره الكواكبيُّ عن نتيجة قيام الحكومة العادلة بدورها في التربية، ولكنَّه غير جامع؛ لأنَّه ركَّز على النتيجة على الفرد فقط، ولم يَذكر نتيجتَه على الأمَّة كلها وعلى الحكومة نفسِها؛ من طاعةٍ وتأييد، ومساعدَة وشدِّ أَزْر، وحماية وطن وتضحية، وجهادٍ ورفعة، وتضامن وكفالة، وإنتاج وأمل.
ثالثًا: معوِّقات التربية:
يرى الكواكبيُّ أنَّ أهم معوقات التربية أمران: الاستبداد والفَقر، ولكنَّه تقسيم شَكلي منه؛ لأنَّه يعود ويَرجِع سببَ الفقر إلى الاستبداد، ويجعل الغنيَّ مثل الفقير في سوء التربية في عهود الاستبداد؛ لذلك يمكن القول بأنَّه يرى أنَّ المعوق الوحيد للتربية هو الاستبداد لا غير.
وقال الكواكبيُّ مصوِّرًا فوضى التربية في ظلِّ الاستبداد: "أمَّا المعيشة الفوضى في الإدارات المستبدَّة، فهي غنيَّة عن التربية؛ لأنَّها محضُّ نماء يشبه الأشجار الطبيعية في الغابات والحراش، يَسطو عليها الحرق، والغرق، وتحطِّمها العواصفُ، والأيدي القواصف، ويتصرَّف في فسائلها وفروعها الفأسُ الأعمى، فتعيش ما شاءت رحمة الحطَّابين أن تعيش، والخيار للصُّدفة تَعْوَجُّ أو تستقيم، تثمر أو تعقم، والاستبداد ريحٌ صرصر فيه إعصارٌ يَجهل الإنسان كلَّ ساعة شأنه".
ويؤكِّد الصورة الخياليَّة السَّابقة بكلام أكثر إيضاحًا قائلاً: "الاستبداد المشؤوم يؤثِّر على الأجسام، فيورثها الأسقام، ويسطو على النُّفوس فيفسد الأخلاق، ويضغط على العقول فيَمنع نماءها بالعلم، بناء عليه؛ تكون التربية والاستبداد عاملَين متعاكسين في النتائج، فكلُّ ما تَبنيه التربية مع ضَعفها يهدمه الاستبدادُ بقوَّته، وهل يتمُّ بناءٌ وراءه هادم؟!".
وبشكل أكثر تفصيلاً فإنَّ أوجه تأثير الاستبداد على التربية، هي:
1- يؤثِّر على الأخلاق الدينية دون العبادات: يرى أنَّ الاستبداد "مُفسِدٌ للدِّين في أهمِّ قسميه؛ أي: الأخلاق، أمَّا العبادات منه، فلا يمسُّها لأنَّها تلائمه أكثر؛ ولهذا تبقى الأديان في الأمم المأسورة عبارة عن عبادات مجرَّدة صارت عادات، فلا تفيد في تطهير النفوس شيئًا، ولا تنهى عن فحشاء ولا منكر؛ لفقد الإخلاص فيها تبعًا لفقده في النفوس، التي ألفَت أن تتلجأ وتتلوَّى بين يدَي سطوة الاستبداد في زوايا الكذب والرِّياء والخداع والنِّفاق؛ ولهذا لا يُستغرب في الأسير الأليف تلك الحال - أي: الرِّياء - أن يستعمله أيضًا مع ربِّه، ومع أبيه وأمِّه، ومع قومه وجنسه، حتى ومع نفسه".
2- يربِّي على الخصال الملعونة: فإنَّ "الاستبداد يضطرُّ النَّاسَ إلى استباحة الكذب والتحيُّل والخداع والنِّفاق والتذلل، وإلى مراغمة الحسِّ، وإماتة النَّفس، ونبذ الجدِّ، وترك العمل... إلى آخره، يتولَّى بطبعه تربية النَّاس على هذه الخصال الملعونة".
3- يغيِّب الفكرَ والعمل التربوي: "التربية علمٌ وعمل؛ وليس من شأن الأمم المملوكة شؤونها أنْ يوجد فيها من يُعلِّم التربية ولا من يَعلمها، حتى إنَّ الباحث لا يرى عند الأُسَرَاء علمًا في التربية مدفونًا في الكتب، فضلاً عن الأذهان.
أمَّا العمل، فكيف يُتصوَّر وجوده بلا سَبْق عزم، وهو بلا سبق يقين، وهو بلا سبق علم، وقد ورد في الأثر: "النيَّة سابقة العمل"، وورد في الحديث: ((إنَّما الأعمال بالنيَّات))، بناء عليه؛ ما أبعد الناس المغصوبة إرادتهم، المغلولة أيديهم، عن توجيه الفِكر إلى مقصد مفيد كالتربية، أو توجيه الجِسم إلى عملٍ نافعٍ كتمرين الوجه على الحياء، والقلب على الشَّفقة".
4- يؤثِّر على انتظام المعيشة التي تؤثِّر على التربية: فإنَّ انتظام المعيشة ولو مع الفقر يؤثِّر تأثيرًا جيدًا في التربية، ولكن المعيشة في ظلِّ الاستبداد كلها خلَل في خلَل، سواء للفقراء والأغنياء، ويَنتج عن عدم انتظام المعيشة عدَّةُ أضرار، هي:
أ - تدنِّي مستوى تقدير الذَّات: حيث يكون أسير الاستبداد: هيِّن النَّفس؛ وهذا أول دركات الانحطاط، يرى ذاته لا يستحقُّ المزيد في النعيم مَطعمًا ومشربًا، وملبسًا ومسكنًا؛ وهذا ثاني الدركات، ويرى استعداده قاصرًا عن الترقِّي في العلم؛ وهذا ثالثها، ويرى حياته على بساطتها لا تقوى إلاَّ بمعاونة غيره له؛ وهذا رابعها، وهلمَّ جرًّا!".
ب - زهد الآباء في الحرص على تربية أولادهم: ففي ظلِّ الاستبداد يرى الآباء أنَّ تربيتهم لأولادهم على غير التدنِّي في تقدير الذَّات السابق لا بدَّ أن يذهب هباء كما ذهبَت تربية آبائهم لهم من قبل، كما أنَّه لا يَثِق في تربية أجهزة الدَّولة المستبدَّة لأبنائهم؛ لأنَّها تربِّي أنعامًا للمستبد وأعوانًا له حتى على آبائهم أنفسهم.
ج - خلَل في تحديد دافع الزواج: الدَّافع الصحيح للزواج هو قَصد التوالد، ولكن أُسَرَاء الاستبداد لا يَدفعهم للزواج هذا القصد؛ بل يدفعهم الجهلُ المظلم والحرمان من كل لذَّة غير لذة النِّكاح والطعام، فهم لم يَذوقوا طعمَ الملذَّات الحقيقية بسبب الاستبداد، والتي هي: لذَّة العلم وتعليمه، ولذَّة المجد والحماية، ولذَّة الإيثار والبذل، ولذَّة إحراز مقام في القلوب، ولذَّة نفوذ الرَّأي الصائب، ولذَّة كِبَر النفس عن السفاسف، إلى غير ذلك من الملذَّات الروحية.
د - اعتبار الأولاد ضررًا في عهد الاستبداد: ولا أدري إن كان ذكر الكواكبي هذا باعتباره معتقدًا عند أُسَرَاء الاستبداد أم هو رأيه الشَّخصي، فقد قال: "وفي الحقيقة، إنَّ الأولاد في عهد الاستبداد، هم سلاسل من حديد يَرتبط بها الآباء على أوتاد الظلم والهوان والخوف والتضييق، فالتوالد من حيث هو زمَن الاستبداد حمقٌ، والاعتناء بالتربية حمقٌ مضاعف!".
ه - عدم الأمن على العِرْض: يرى الكواكبيُّ أنَّ العِرض مثل سائر الحقوق غير مَصون في عهد الاستبداد؛ فإنَّه يُنتهَك من قِبَلهم ومن قِبَل أعوانهم، كما أخبر الله تعالى عن فرعون الذي كان يَقتل الأولاد ويَستحيي النساء.
و - ضعف عاطفة الحبِّ والغيرة: يترتَّب على عدم الأمن على العِرض ضَعف عاطفة الحب الذي لا يتم إلا بالاختصاص، كما تَضعف الغيرةُ التي تؤثِّر بدورها على تحمُّل مشاق التربية، وبالطبع كل هذا الخلَل في حياة الإنسان لا يَجعله يفكِّر في تربية ولا غيرها.
5- يؤدِّي إلى الفقر: والفقر يَصعب معه التربية، فقد رسم الكواكبيُّ صورةً كاريكاتورية تبيِّن تأثير الفقر في تربية الإنسان، يقول فيها: "وإذا افتكرنا كيف يَنشأ الأسير في البيت الفقير، وكيف يتربَّى، نجد أنَّه: يُلقَّح به، وفي الغالب أبواه متناكدان متشاكسان، ثمَّ إذا تحرَّك جنينًا حرَّك شراسة أمِّه فتشتمه، أو زاد آلامَ حياتها فتضربه، فإذا ما ضيَّقَت عليه بطنَها لإلفتها الانحناء خمولاً والتصرُّر صَغارًا، والتقلُّص لضيق فراش الفقر.
ومتى ولدَته ضغطَت عليه بالقماط اقتصادًا وجهلاً، فإذا تألَّم وبكى سدَّت فمَه بثديها، أو قطعَت نفسَه خضًّا أو بدوار السرير، أو سقَته مخدرًا عجزًا عن نَفقة الطبيب، فإذا ما فُطِم، يأتيه الغذاء الفاسد يضيِّق معدته، ويفسد مزاجه.
فإذا كان قويَّ البنية طويل العمر وترعرع، يُمنع من رياضة اللعب لضِيق البيت، فإذا سأل واستفهم ماذا وما هذا؛ ليتعلَّم، يُزجَر ويُلْكَم لضيق خُلُق أبويه، وإن جالسَهما ليألف المعاشرَة، وينتفي عنه التوجُّس، يبعِدانه كي لا يقف على أسرارهما، فيسترقها منه الجيران الخلطاء، فتنمَى أعوان الظَّالمين وما أكثرهم.
فإذا قويَت رِجلاه يُدفع به إلى خارج الباب، إلى مدرسة الإلفة على القذارة، وتعلُّم صيغ الشتائم والسِّباب. فإنْ عاش ونَشأ، وُضع في مكتب أو عند ذي صَنعة، فيكون أكبر القصد ربطه عن السراح والمراح.
فإذا بلغ الشبابَ، ربطه أولياؤه على وتدِ الزَّواج كي لا يفرَّ من مشاكلتهم في شقاء الحياة، ليجني هو على نسله كما جنى عليه أبواه، ثمَّ هو يتولَّى التضييق على نَفسه بأطواق الجهل وقيود الخوف، ويتولَّى المستبدُّون التضييقَ على عقله ولسانه وعمله وأمله.
وهكذا يعيش الأسير في حين يكون نَسَمَةً في ضيق وضغط، يهرول ما بين عتبة همٍّ ووادي غمٍّ، يودِّع سقمًا ويستقبل سقمًا، إلى أن يفوز بنِعمة الموت مضيِّعًا دنياه مع آخرته، فيموت غير آسف ولا مأسوف عليه".
ويَنفي الكواكبيُّ أن يكون حال الأغنياء في عهود الاستبداد أحسَن من الفقراء؛ فإنَّهم يعانون من وجوه أخرى، تَجعلهم أشقى وأقل عافية، وأقصر عمرًا، رغم تظاهرهم تظاهرًا كاذبًا بالراحة والرفاهية والعزَّة والمَنَعَة.
الشِّقُّ الثَّاني: البرنامج التربوي العملي
تناغمًا مع نظرته التربويَّة قدَّم الكواكبيُّ برنامجًا تربويًّا يمكن من خلاله صُنع النُّبلاء الذين يقومون بدَفع الاستبداد باعتباره المرَض الأول للأمَّة، وبداية هذا المنهج تكون بالبحث عمَّن توافرَت فيهم صفة الشَّهامة، الذين يَهتمون لأمر أمَّتهم، ويحزنهم حالُها، ويَرغبون في رفع الضيم عنها، ولن تعدم الأمَّة واحدًا منهم، ولكنَّه لا يعرف الطريقةَ التي تمكِّنه في المستقبل من الحصول على مكانة تمكِّنه من أن يكون مسموعًا في قومه، نافذ الرأي فيهم.
واهتمَّ الكواكبي بتذليل هذه العقَبَة الكؤود، برَسم الطريق التي تساعد من يَرى في نفسه استعدادًا للمجد الحقيقي، وحثَّه على السَّير وفق الوصايا الآتية:
1- أن يَجهد في ترقية معارِفه مطلقًا، لا سيما في العلوم النَّافعة الاجتماعيَّة؛ كالحقوق والسياسة، والاقتصاد والفلسفة العقلية، وتاريخ قومه الجغرافي والطبيعي والسياسي، والإدارة الحربية، فيَكتسب من أصول وفروع هذه الفنون ما يمكنه إحرازه بالتلقِّي، وإن تعذَّر فبالمطالعة مع التدقيق.
2- أن يُتقن أحدَ العلوم التي تُكسِبه في قومه موقعًا محترمًا وعلميًّا مخصوصًا؛ كعلم الدِّين والحقوق، أو الإنشاء، أو الطبِّ.
3- أن يحافِظ على آداب وعادات قومه غاية المحافظة، ولو أنَّ فيها بعض أشياء سخيفة.
4- أن يقلِّل اختلاطه مع الناس حتى رفقائه في المدرسة؛ وذلك حفظًا للوقار، وتحفُّظًا من الارتباط القوي مع أحدٍ؛ كيلا يسقط تبعًا لسقوط صاحبٍ له.
5- أن يتجنَّب كليًّا مصاحبة الممقوت عند الناس، لا سيما الحكَّام، ولو كان ذلك المقت بغير حقٍّ.
6- أن يَجتهد ما أمكنه في كتم مزيَّته العلميَّة على الذين هم دونه في ذلك العلم؛ لأجل أن يَأمن غوائل حسَدهم، إنَّما عليه أن يظهر مزيَّتَه لبعض مَن هم فوقه بدرجاتٍ كثيرة.
7- أن يتخيَّر له بعضَ من يَنتمي إليه من الطَّبقة العليا، بشرط: ألا يُكثر التردُّد عليه، ولا يشاركه شؤونه، ولا يُظهر له الحاجة، ويتكتَّم في نسبته إليه.
8- أن يَحرص على الإقلال من بيان آرائه، وألاَّ يؤخذ عليه تَبِعة رأي يراه أو خبرٍ يرويه.
9- أن يَحرص على أن يُعرَف بحُسن الأخلاق، لا سيما الصِّدق والأمانة والثبات على المبادئ.
10- أن يُظهِر الشَّفقةَ على الضعفاء، والغيرة على الدِّين، والعلاقة بالوطن.
11- أن يتباعَد ما أمكنه من مقاربة المستبدِّ وأعوانه إلاَّ بمقدار ما يأمن به فظائع شرِّهم إذا كان معرَّضًا لذلك.
12- أن يتحلَّى بصفات: عظم الهمَّة، والإقدام، والثبات.
13- أن يكون له صَنعة مستقل فيها؛ أي: غير مرؤوسٍ لأحد، وأن يبتعد عن وظائف الحكومة؛ لأنَّها تكبت حريَّتَه، وتفسد طباعَه، وتفقده الشَّفقة والعواطف العالية، وعدم الشعور بتبِعة الأعمال.
14- أن يكون على استعدادٍ للتضحية من أجل قومه؛ فيشتري لهم السعادةَ بشقائه، والحياةَ بموته؛ حيث يكون الله جعل في ذلك لذَّته، ولمثل تلك الشهادة الشريفة خلَقَه، "وقد يبلغ به مَرتبة أن لا يرى لحياته أهميَّة إلاَّ بعد درجات، فيهمه أولاً: حياة أمَّته، ثمَّ امتلاك حريته، ثمَّ أمنه على شرفه، ثمَّ محافظته على عائلته، ثمَّ وقايته حياته، ثمَّ ماله، ثمَّ، وثمَّ...، وقد تَشمل إحساساته عالَمَ الإنسانية كله، كأنَّ قومه البشرُ لا قبيلته، ووطنه الأرض لا بلده ومسكنه؛ حيث يجد راحتَه، لا يتقيَّد بجدرانِ بيتٍ مخصوص يَستتر فيه ويَفتخر به كما هو شأن الأُسراء".
15- أن يبلغ الثلاثين فما فوق حائزًا هذه الصفات. فإن فعل يكون مستعدًّا لإحراز ثِقة قومه في بُرْهةٍ عندما يريد، وبهذه الثِّقة يستطيع أن يفعل ما لا تقوى عليه الجيوش والكنوز.
الخلَل في هذه الصفات
ذكر الكواكبيُّ أنَّ النَّقص في صفة من هذه الصفات يَنقُص من مَكانة القائد المعَدِّ، ولكن الزيادة في بعضها يعوِّض النقصَ الحادث في الأخرى، وقد تغني الصِّفات الأخلاقيَّة في بعض الظروف عن الصِّفات العِلْمية كلها أو العكس، وإذا كان القائد فاقد الثِّقة فقدانًا أصليًّا أو طارئًا، فيمكنه أن يَستعمل غيره ممَّن تنقصه صفة الجسارة والهمَّة والصفات العلمية.
وهذا الرأي الأخير يمكن تأصيله شرعًا بقصَّة موسى وهارون عليهما السلام؛ إذ يقول تعالى على لسان نبي الله موسى: ﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ﴾ [القصص: 34].
مصير هذا القائد: وللأسف حياة قادَة هذا الأمر لا تطول ولا تكون مستقرَّة؛ حيث جرَت السُّنن بأن يتغرَّبوا عن أوطانهم ويموتوا - إن لم يُقتلوا - غرباء.
يقول الكواكبيُّ: "والعلماء الحكماء الذين ينبتون أحيانًا في مضايق صخور الاستبداد يَسعون جهدهم في تَنوير أفكار النَّاس، والغالب أنَّ رجال الاستبداد يُطارِدون رجالَ العلم ويُنَكِّلون بهم، فالسَّعيد منهم من يتمكَّن من مهاجرة دياره، وهذا سبب أنَّ كلَّ الأنبياء العِظَام عليهم الصَّلاة والسَّلام وأكثر العلماء الأعلام والأدباء والنُّبلاء تقلَّبوا في البلاد وماتوا غرباء"، وحياة الكواكبي وموته كانا مثالاً صادقًا لذلك.
.