Business

النظرية التربوية عند الكيلاني .. المفهوم والمصطلحات

إعداد: محمد الغنام

 

المرحلة الأولى لقراءة فكر الكيلاني تبدأ من الوقوف على مفهومه للنظرية التربوية بالإضافة إلى أبرز التعريفات للمصطلحات التي يشيع استخدمها في مجال التربية وهو ما يمكن أن يكون بداية لقراءة واعية لفكر الكيلاني.

أولاً: مفهوم النظرية التربوية وأهميتها:

تمثل النظرية التربوية النموذج الذي يرغب المجتمع القائم لأطفاله وناشئته أن يكونوا عليه، والمؤسسات التي تعدُّ هذا النشء، والمناهج التي تستعمل في إعدادهم، ومجتمع المستقبل الذي سيعيشون فيه، والنظرية التربوية تشمل كذلك شبكة العلاقات الاجتماعية التي يُرَغّب بها المجتمع لتنظيم سلوك البالغين فيه، والمؤسسات التي يعملون بها؛ بحيث يؤدي هذا التنظيم إلى تأهيلهم وتنسيق جهودهم ليقوموا متعاونين متكاملين بتلبية الحاجات ومواجهة التحديات؛ لذلك يختلف مفهوم النظرية التربوية من مجتمع إلى مجتمع، ومن حضارة إلى حضارة، ومن عصر إلى عصر.

وفي مطلع عصر النهضة الغربية الحديثة - التي حملت مفاهيمها إلى مختلف أرجاء العالم بتوسعها وانتشارها - بدا مفهوم النظرية التربوية بالتركيز على إعداد الفرد للاستمتاع بالحياة، واستغلال البيئة المحيطة والاهتمام بالتربية الجمالية والبدنية والسلوك.

وفي العصر الحديث استمدَّت النظرية التربوية محتواها من السعي لرفع مستوى المعيشة، والنظر إلى التربية وتطبيقاتها - السياسية، والإدارية، والاجتماعية، والثقافية، والعسكرية - كاستثمار اقتصادي ودعامة من دعائم التطور التكنولوجي والعلمي الصناعي.

وفي المجتمعات الإسلامية لم يرَ المربُّون ضرورة بَلْوَرة نظرية تربوية طالما لديهم أصولها في القرآن الكريم، ولكن استخراج هذه النظرية هو أمرٌ لم يعطوه الجهد اللازم، حتى إذا حل التقليد محل الاجتهاد تجزأ هذا المفهوم القرآني للنظرية التربوية عند المذاهب، ولم يعد هناك مفهوم نظرية بالمعنى الشامل الراسخ المحيط، واستمر هذا الفراغ حتى العصور الحديثة، حيث برزت أهميتها والإحاطة بمحتوياتها وتطبيقاتها؛ لأن الناس - أفرادًا وجماعات - يتعرَّضون في كل لحظة إلى كميات هائلة من الخبرات والمعلومات التي تمطرهم وسائل الاتصال الحديثة.

وأمام هذا التدفق المعرفي تجد المجتمعات العربية نفسها أمام موقفَين متناقضَين، لا مناص من الأخذ بأحدهما؛ فإما أن تقبل ببعض هذه المحتويات، وترفض البعض الآخر بطرق عشوائية غير محددة الأهداف ولا مدروسة النتائج، وإما أن تتعامل معها طبقًا لأهداف مدروسة تحدد نوع (المحتوى) الذي تقبله أو ترفضه، ثم تنظم هذا المحتوى في (تطبيقات) عملية تنفذها خبرات تخصصية، تهيِّئ للإنسان العربي أن يتفاعل مع بيئته المحيطة بحيث يسخِّرها ولا تسخره، ويسهم في تحقيق الأهداف المبتغاة، ثم تتبع ذلك بـ(التقويم) الذي ييسر التعرف على نسبة النجاح أو الفشل.

لذلك؛ فإن الحاجة جد ماسة لتطوير (نظرية تربوية) تتجسد في تطبيقاتها العملية لتستخرج (وسع) الأفراد وتنظم عمل المؤسسات؛ للتكامل في أعمالها وحمل مسؤولياتها.  

ثانيًا: تعريف المصطلحات:

قبل الحديث عن مكونات النظرية التربوية وتطبيقاتها، يحسُن بنا أن نحدد بعض المصطلحات المتعلقة بهذه الدراسة، وهذه المصطلحات هي:

1- النظرية التربوية:

النظرية مشتقة من الفعل (نظر)، ومعناه: حاول فهمه وتقصِّي معناه وحقيقته بالفهم والتجريب والاختبار، وفي القرآن الكريم: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101]، ويقول ابن تيمية: "والنظر جنس تحته حق وباطل، محمود ومذموم"، ويضيف: "إن النظر لا يقتصر على البصر والإبصار بالعين، وإنما هو يشترك فيه العقل والحواس جميعًا"[1].

وفي العصر الحديث اتسع مفهوم النظرية التربوية لتعني التخطيط المسبق الشامل لما يراد أن يكون عليه إنسان العصر من معلومات، وما يتقنه من مهارات، وما يتصف به من قِيَم وعادات واتجاهات، ولما يراد أن تكون عليه شبكة العلاقات المنظمة لعمل المؤسسات وسلوك الجماعات المختلفة، مع مراعاة السنن النفسية وقوانين التعلُّم، ومراعاة الفاعلية التي تنتج أكبر كمية من (المُخْرَجات) مقابل أقل كمية من (المدخلات)[2].

2- التربية:

التربية - بمعناها الشامل -: تغيُّر في السلوك وتنميته إلى الدرجة التي تمكن الإنسان من الإسهام الفعَّال في تحقيق حاجات الحاضر، ومواجهة تحدِّيات المستقبل، وتسخير موارد البيئة وخبرات الماضي عبر رحلة النشأة والحياة والمصير.

3- السلوك:

المعنى الشامل للسلوك يعني: التفاعل بين الإنسان والبيئة المحيطة في لحظه معينة، ويتدرَّج هذا التفاعل عبر حلقات خمس، هي: حلقة الخاطرة، وحلقة الفكرة، وحلقة الإرادة، وحلقة التعبير، وحلقة الممارسة.

ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات))؛ أي: هي تبدأ بالنيات، وبالنيات تتحدد مساراتها ونهايتها، وإلى الحلقات الخمس يشير قوله - تعالى -: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3]، فالسر يشير إلى الحلقات الثلاث الأولى، والجهر يشير إلى الرابعة، والكسب يشير إلى الخامسة.

وحين نسترجع تعريف السلوك القائل بأن السلوك تفاعل بين الإنسان والبيئة، نتبين أهمية البيئة الحسنة التي تتكامل فيها المؤسسات، وتهيئ للإنسان أن يتفاعل معها؛ ليتولد في ضميره وثقافته الخواطر الخيرة والأفكار الصائبة، والإرادات العازمة والممارسات العادلة الصالحة، ونتبين كذلك خطورة (الثقافة الآثمة) و(البيئة الفاسدة) التي تضطرب فيها المؤسسات، وتتضافر وتضطر الإنسان لأن يتفاعل مع تياراتها؛ ليتولد في ضميره الخواطر الشريرة، والأفكار الضارة، والإرادات المضطربة، والممارسات السيئة.

والتفاعل الأول توفره النظريات التربوية المبصرة، بينما تفرز التفاعل الثاني نظريات التربية الجاهلة المدمرة.

 

 

[1] - ابن تيمية، "الفتاوى الكبرى"، كتب السلوك، ج 1، ص 486.

[2] - راجع كتاب "التربية والتجديد"؛ للدكتور ماجد عرسان الكيلاني، ص 11.

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم