إن المتدبر لقَصص القرآن يجد فيها لا محالة دروسًا وعبرًا يَستنير بها في حياته، ويجعلها نبراسًا يُضيء له الطريق، ويوضِّح له المسلك الصحيح والنهج السوي الذي يسلُكه حتى يفلح وينجح في سيره بإذن الله تعالى، وفي هذا الدراسة، يقف الباحث عبد المجيد هلال، عدة وقفات مع قصة موسى والخضر عليهما السلام الواردة في سورة الكهف؛ لاستجلاء بعض المسائل التربوية والقضايا التعلمية الواردة فيها، سائلًا المولى التوفيق والسداد، وسأذكر هذه المسائل على شكل نقاط:
التخطيط لأي عمل من أهم ركائز نجاحه، ويمكن استجلاء هذا المعنى من قوله تعالى على لسان موسى عليه الصلاة والسلام: ﴿ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ﴾ [الكهف: 60]، فقد قرر موسى أن يكون مخطط سيره - الذي أرشده الله إليه - من بيته إلى مجمع البحرين، لا يميل ولا ينزاح عنه؛ حتى يصل إلى هدفه، وهذا هو عين التخطيط.
فهي من أسمى المعينات في الطلب، كما أنها المحفز والدافع لأي شغل يراد القيام به، فلا يراك الناس واقفًا إلا على أبواب الفضائل، ولا باسطًا يديك إلا لمهمات الأمور، ويمكن استنباط هذا المعنى من قوله تعالى: ﴿ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ﴾ [الكهف: 60]، فقد عزم موسى عليه السلام وعقد همته على السير للقاء الخضر ولو أمضى حقبًا كثيرة.
- نسبة العلم لله تعالى وعدم التكبر، والتزام التواضع:
فالمرء مهما كثر علمه فهو قليل، ولا يدعي الإحاطة بالعلم إلا فاقده، أو الذي لا يدري ما يخرج من فيه، وقد ورد في قصة موسى عليه السلام مع الخضر الإشارة إلى هذه المسألة عند قوله تعالى: ﴿ آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾ [الكهف: 62]، فبيَّن أن هذا العلم مرجعه إلى الله تعالى، فهو المتفضل به على الخضر.
وهو من الأخلاق التي يلزم على طالب العلم التحلي بها، وقد جاء هذا المعنى على لسان موسى عليه السلام في قوله تعالى: ﴿ وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾ [الكهف: 69].
- الصبر على مصائب الطريق ومشاقه:
فالصبر هو مفتاح لكل الصعاب والعقبات، ولا شك أن طلب العلم محفوف بكثير من الأحمال والمشاق التي لا تقطع إلا به، ثم إنه متى كان الشيء عظيمًا، كان الوصول إليه أعظمَ، ولا شيء يعظُم طلبَ العلم أو يفوقُه، فلزِم بذلك التذرع بالصبر حتى تحقيقِ المراد ونيلِ المبتغى، ولهذا كان من أول ما قال موسى عليه السلام للخضر لما لقيه: ﴿ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ﴾ [الكهف: 69].
- صبر الشيخ على أخطاء الطالب، ونصحُه وتنبيهُه إذا رأى منه همة في الطلب:
لا شك أن الشيخ بمنزلة الأب للطالب، فيصبر عليه إذا أخطأ، ويأخذه باللين والرفق؛ حتى يكون ثمرةً له وأثرًا من الآثار النافعة لتعليمه، ما لم يبالغ الطالب في سوء خلقه، وإتيانِه بما لا طاقة للشيخ على تحمُّله، وقد ورد هذا المعنى في صبر الخضر على موسى بعد اعتراضه مرتين.
- الحرص على الرفيق المعين أثناء الطلب:
فإن الرفقة الصالحة عون للمرء على الصعاب، ومحفز على الإقدام وعدم التهاون أو التقاعس، وقد وردت هذه الرفقة في قصة موسى عليه السلام لما صاحبه غلامُه يوشع بن نون في طريقه؛ ليكون له معينًا ومساعدًا في رحلته العلمية.
- الترويحُ على النفس أثناء الطلب وعدمُ إجهادِها أو تحميلِها فوق طاقتها:
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: (لا ينبغي للإنسان أن يحمل على بدنه ما لا يطيق، فإن البدن كالراحلة إن لم يرفق بها لم تصل بالراكب)، ويمكن استخراج هذا المعنى من قول موسى عليه السلام لفتاه: ﴿ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾ [الكهف: 62].
- تحصين النفس من المعيقات والمثبطات:
لا ريب أن الطالب تعترضه في مسيره عقبات وهموم وخطرات سلبية، فينبغي أن يكون حذرًا متيقظًا مستعينًا بالله تعالى، ذاكرًا له معتمدًا عليه، متبرئًا من حوله وقوته، خصوصًا وأن الشيطان الرجيم لا يدع مسلكًا إلا حاول الدخول إليه وإفسادَه أو تعكيرَه، ويمكن لمْحُ هذا المعنى من قوله تعالى على لسان فتى موسى: ﴿ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾ [الكهف: 63].
فإن حقيقةَ العلم العملُ، ولا يزال العالم جاهلًا حتى يعمل بعلمه، فإن المرء لا ينجو يوم القيامة إلا بعمله؛ قال الله تعالى: ﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 32]، وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى مخاطبًا نفسَه: (أما تعلمين أخبار الأئمة الأربعة في زهدهم وتعبُّدهم، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، فاحذري من الإخلاد إلى صورة العلم مع ترك العمل به؛ فإنها حالة الكُسالى الزمنى)، وقد ورد هذا المعنى في قصة موسى حين قال للخضر: ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴾ [الكهف: 66]، قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية: (أي: مما علمك الله شيئًا أسترشد به في أمري، من علم نافع وعمل صالح).
.