إن من أعظم آفات العبادات: آفة الإلف والعادة، فعندما يعتاد المرء العبادات وتصبح جزءًا من برنامجه اليومي كالصلاة، والأسبوعي كالجمعة، والسنوي كرمضان والحج؛ تتحوّل هذه العبادات إلى مجرد أفعال وأقوال متكررة لا تُضيف جديدًا إلى حياة الفرد.
فالملاحظ أننا في كل سنة نستقبل شهر رمضان ثم نودعه، نسمع قبله بقليل عن فضل هذا الشهر وأهميته ومكانته، وما يجب علينا من اغتنامه، حتى حفظ الناس أحاديثه وآياته، فلم يتدبروها ويفكروا فيها، ثم بعد رحيله نسمع كذلك بعض المواعظ في وداعه والحزن على فراقه، حتى أصبح ذلك الأمر عادة تعودناها وقضية ألفناها؛ عبر أحداث رتيبة تتكرر علينا في السنة وفي الشهر وفي الأسبوع وفي اليوم. ولئن كان الاعتياد على كثير من شؤون حياتنا الدنيوية مقبولًا، فإن من غير المقبول أن ينسحب ذلك على عباداتنا التي نتقرب بها إلى الله سبحانه.
لذلك ينبغي لنا أن نتذكر جيدًا أن من آفات العبادات الخطيرة العظيمة أن تتحول العبادة إلى عادة، يؤديها الواحد منا دون أن تترك أثرًا في نفسه أو سلوكه.
قبل عام ودّعنا شهر رمضان، ثم ها نحن نودع رمضان هذا العام ، وربما لم يشعر كثير منا بقيمة الزمن الذي طُويت فيه الأيام والشهور، وأننا مسافرون إلى الله، ولكل عبد نهاية ولا بد، قال الله تعالى: {وَأَنَّ إلَى رَبِّكَ الْـمُنتَهَى} [النجم: ٢٤]. وقد ذكر ابن أبي حاتم عن عمرو بن ميمون الأودي أنه قال: قام فينا معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال: «يا بني أوْد، إني رسولُ رسولِ الله إليكم، تعلمون أن المعاد إلى الله، إلى الجنة أو إلى النار».
وإن مما يجب على العبد المسلم أن يبحث عن الزاد الذي يقرّبه إلى الله تعالى؛ حيث إن الطريق موحش وطويل، ولا بد فيه من زاد، وقد جعل الله تعالى شهر رمضان لتطهير القلوب من الخطايا والعيوب وغفران الذنوب، فهل استقبلنا رمضان بتوبة تغسل عنا الذنوب؟! ومن ثم يُزال الران من القلوب فنحسن اغتنام أيامه، لنخرج من رمضان بلا ذنوب، وما أدرانا فقد يكون رمضان الأخير في حياتنا.. فاغسل ذنوبك قبل مماتك.
ومع الأسف، فإن من الناس من يستقبل ويودع الشهر بعدم اهتمام وعدم اكتراث، كأنه شهر من الشهور، وقد أخطأ من لا يفرق بين رمضان وغير رمضان، وأن يجعل يوم صومه كيوم فطره. وهناك من يعرف للشهر فضله ومكانته، لكنه لا يستقبله بتوبة نصوح، وعزم أكيد على الاستقامة في أيامه ولياليه، بل يستقبله بفتور وعدم جدية وقلة نشاط.
خير أبواب الأجر
إن أبواب الأجر في الإسلام كثيرة، وإن أسباب اكتساب الحسنات متعددة، وفي شهر رمضان تتضاعف أجور الأعمال الصالحة، فضلًا من الله - عز وجل - على عباده، وينادي مناد في أول ليلة من رمضان فيقول: «يا باغي الخير! أقبل، ويا باغي الشر! أقصر».
إن الأيام صحائف الأعمار، والسعيد من يخلّدها بأحسن الأعمال، وراحة النفس في قلة الآثام، ومن عرف ربه اشتغل به عن هوى نفسه، وفي هذا الشهر المبارك المنزل فيه القرآن العظيم المتعدد فيه طلب أنواع المغفرة من التوسع في المعروف والبذل والدعاء وتفريج الكربات والإكثار من العبادات، إلا أن بعض الناس أرخص لياليه، وأرهق فيها بصره مع الفضائيات، يعيش معها في أوهام، ويسرح فكره حولها في خيال، ويتطلع لها لعل فيها سعادة السراب، فإذا انقضى شهر الصيام لا لمال فيه جمع، ولا للآخرة ارتفع، ربح الناس وهو الخاسر.
إن من رحمة الله بعباده في رمضان أن ساعدهم على الطاعات وهيّأ لهم الوسائل المعينة على ذلك، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين». ففي شهر رمضان المبارك يفتح الله سبحانه وتعالى أبواب الجنة على مصراعيها لكل تائب توبة نصوحة وفق شروطها الشرعية المعتبرة، وتغلق بوجهه كل أبواب الجحيم.
أيام الخير ومواسم الفضل
وختامًا.. فقد أظلتنا أيام غالية، مرت كما مرَّ ما قبلها، لكن هل ربحت تجارتك فيه أم خسرت؟ هل ازددت قربًا من ربك أم زدت عنه بُعدًا؟ هل آواك ربك ونصرك وسددك وأعانك، أم تجد الأخرى من ضنك الحياة؟
ومن رحمات الله تبارك وتعالى بالناس في شهر رمضان المبارك أنه يصفد الشياطين الذين يسعون في الأرض فسادًا.
إن السعيد من اغتنم مواسم الشهور، والأيام، والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة من يأمن بعدها النار وما فيها من اللفحات.
فإياكم والغفلة، وإياكم والتكاسل عن فعل الطاعات والخيرات في هذا الشهر المبارك، فإن الغفلة ضيعت عمرَ كثير من الناس، واستهلكت لياليهم وأيامهم، وحين ينزل الموت بساحة أحدهم يستذكر ما فرط فيه.
إن الغفلة عن هذه الأيام وتضييعه ليس من سمات الصالحين، وإنما الصالحون يهتفون دائمًا: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ} قولًا وعملًا واعتقادًا، فرضًا ونفلًا وإحسانًا.
.