يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: {وما تقرب إلي عبدٌ بأحب إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها}.
في هذا الحديث القدسي عدة قواعد لا بد لنا من الوقوف عندها:
أولًا: حب الله لأداء عبده للفرائض.
ثانيًا: النوافل طريقٌ لتقرب العبد إلى الله.
ثالثًا: تقرب العبد إلى الله بالنوافل مدعاة لحب الله للعبد، ومن نتائج حب الله للعبد، أن العبد يملك عندئذٍ جملة من وسائل التمييز فلا يرى ولا يسمع إلا ما يرضي الله، ولا يمشي ولا يفعل إلا ما يرضي الله، ويتمشى مع موضوعنا، أن ما يقدمه العبد من أداءٍ للنوافل هو الطريق لمحبة الله تباركت أسماؤه. بمعنى آخر : أن حب الله وهو الغني عن العباد هو نتيجة لما يقوم به العبد من أداءٍ للنوافل، ويمكن صياغة هذه القاعدة بالآتي [إن العطاء طريق الحب]. والعطاء يقدمه العبد والحب من الرب. مع أن الله تبارك وتعالى غنيٌ عن أداء كل العباد لفروضهم ناهيكم عن نوافلهم.
ولكنها قاعدة أراد الله وهو الأعلم أن يعلمنا إياها وهي ((أن من يريد أن يكسب الحب فليبدأ هو بالعطاء)) أي فليقدم العطاء، عطاءٌ فوق المفروض عليه، عطاءٌ يتعدى الواجب أداءه لله، والنافلة هنا وهي عمل فوق المفروض كانت سببًا لمحبة الله. وفي موقع آخر يؤكد رب العالمين على لسان من اقتدروا على الحب الحقيقي أن عطاءهم لوجه الله وليس ابتغاء مردود يحصلون عليه من الناس: {إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورًا}، وإذا عدنا إلى علاقة الحب بين الأم وولدها، لتَبيّن لنا أن حب الأم لولدها، مثل النوع الأول من الحب (الحب الحقيقي) الحب الذي لا تبغي الأم من ورائه مردود أو نتيجة، إنما هو حبٌ مغروس في أصل خلقتها، إنه حبٌ فطري جُبلت عليه ولم تتعلمه، وإن كان هذا الحب قد يفسد بسبب التربية غير السليمة للأم، فيتحول إلى ما يمكن تسميته بحب كشف الحساب. ذلك الحب الذي يتمركز حول من يقدمه وليس حول من يُقدم له، وهو ما يمكن تسميته بالحب النرجسي. إذًا الحب النرجسي هو حبٌ أناني، حبٌ للذات وليس للآخر، حبٌ يعتمد على الأخذ فيحيل صاحبه إلى فردٍ ذو شخصية دوامية تبتلع ما يحيط بها، إن من كانت شخصيته ذو حبٍ نرجسي فإنه يريد أن يبتلع كل ما حوله ليصب في ذاته. شخصية من هذا القبيل تحب غيرها، نعم، ولكن طالما أن الغير يحقق لها ما تريد ويشبع حاجاتها ورغباتها ويعظمها ويبجلها ويعطيها، وحين يتوقف الآخر عن العطاء ولو كان توقفًا بسيطًا أو يقصر ولو قليلًا؛ يتوقف الحب مباشرةً. وكِلا النوعين من الحب؛ -الحب النرجسي والحب الحقيقي- فيهما عطاء، ولكن الحب الحقيقي عطاءٌ دائم ومستمر هدفه مصلحة المحبوب، تمامًا كما تفعل الأم مع طفلها. وفي الثاني أيضًا عطاء ولكنه عطاء مشروط بجملة من الشروط، حبٌ فيه يتوقف المحب عن العطاء بمجرد توقف المحبوب عن الرد، حبٌ يدور حول ذات المحب وليس حول ذات المحبوب، حبٌ يجعل المحب يصدر كشف الحساب فورًا ودون تردد، ويريه كم ضحى من أجله وكم أعطاه وكم حرم نفسه من النعيم من أجله. حبٌ يظهر كشفًا طويلًا من العطاء كما يُظهر كمًا كبيرًا من الجحود من قِبلِ المحبوب، حيث يعتمد على إظهار المن في العطاء من المحب، والجحود من المحبوب.
.